ج: للعلماء من السلف والخلف وأئمة الفقه والحديث قولان مشهوران لا ثالث لهما، ولم يقل بغيرهما إلا قلة من المتأخرين من أصحاب البدع والأهواء، فلا يجوز أن نطلق على من يقول النقاب بدعة أو عادة أنه من أهل العلم.
القول الأول: أن النقاب فرض، وهذا مذهب حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما وأئمة التفسير كالطبري والقرطبي والبغوي وابن الجوزي والسعدي والشنقيطي وغيرهم، ومن الفقهاء الإمام أحمد ومالك وطائفة من الشافعية وطائفة من الحنفية وشيخ الإسلام وغيرهم.
القول الثاني: أن النقاب مستحب، وهو الظاهر من مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن حزم.
الراجح:
والذي تطمئن له النفس وينشرح له الصدر هو القول بوجوب النقاب؛ لقوة الأدلة الدالة على الوجوب من الكتاب والسنة وأقوال الأئمة، من هذه الأدلة:
1- قول الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ) [الأحزاب: 59].
( يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ ) وهن اللاتي يكن فوق الثياب من ملحفة وخمار ورداء ونحوه، أي يغطين بها وجوههن وصدورهن.
2- قول الله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) [الأحزاب: 53].
3- من السنة: ما روي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا قَالَتْ: «يَرْحَمُ اللهُ نِسَاءَ الْمُهَاجِرَاتِ الْأُوَلَ لَمَّا أَنْزَلَ اللهُ: ( وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) شَقَّقْنَ مُرُوطَهُنَّ فَاخْتَمَرْنَ بِهَا». أخرجه البخاري موقوفًا على عائشة (4758).
والذي يقوي عندي القول بوجوب النقاب، الآتي:
1- قول الله تعالى لنساء المؤمنين: ( وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنّ ) [النور: 31]، فقد نهى الله تعالى المرأة أن تضرب الأرض برجلها حتى لا يعرف أحد ما تخفي من الزينة كالخلخال وغيره مما قد يكون سببًا في فتنة الرجال.
والسؤال: أيهما أشد فتنة على الرجل: معرفة الزينة الخفية أم رؤية وجه المرأة وكفيها؟
2- قوله تعالى: ( وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ) [الأحزاب: 53]. أمر الله تعالى المؤمنين إذا سألوا زوجات النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ذلك من وراء حجاب. فإذا كانت زوجات النبي صلى الله عليه وسلم الطاهرات العفيفات العابدات والزاهدات وهن أيضًا محرمات على غير النبي صلى الله عليه وسلم حتى بعد موته، والذي يسأل من؟ هم الصحابة الكرام أفضل البشر بعد الأنبياء ومع هذا كله، قال تعالى: ( ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ )، فكيف بمن هن دون زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في الفضل والعفة والخلق والزهد، وبمن هم دون رجال الصحابة في طهارة القلب وحسن الخلق وقوة الدين، فقياس الأولى يقتضي مخاطبة جميع النساء من وراء حجاب، فالخطاب للأعلى خطاب للأدنى من باب أولى.
هذا إذا سلمنا أن الآية خاصة بزوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهذا غير صحيح، لأن دعوى التخصيص تحتاج إلى دليل والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما هو معلوم عند الأصوليين، وبناء على ذلك فالآية عامة لجميع النساء.
3- ذهب جمهور أهل العلم – ممن قال بوجوب النقاب وممن قال باستحبابه – إلى وجوب تغطية قدم المرأة لحديث أم سلمة، وفيه أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم : «فكَيْفَ يَصْنَعْنَ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ؟ قَالَ: يُرْخِينَ شِبْرًا، فَقَالَتْ: إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ، قَالَ صلى الله عليه وسلم : «فَيُرْخِينَهُ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ». صحيح سن الترمذي ( 1653) وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (1864).
والسؤال: أيهما أشد فتنة على الرجال: قدم المرأة أم وجهها…؟
4- من المعلوم أن حجاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم فيه تغطية الوجه والكفين بلا نزاع.
قال القاضي عياض:
فلماذا نفرق بين حجاب زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وبين حجاب نساء المؤمنين والخطاب واحد في آية واحدة لجميع النساء، فضلًا عما تقدم من أدلة أهل العلم، هذا والله تعالى أعلم.