بيان قدر الأشهر الحرم
الله تعالى يصطفى من خلقه ما يشاء، اصطفى من الملائكة جبريل، ومن البشر محمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، واصطفى من البلدان مكة، واصطفى من البقاع المساجد، واصطفى من الليالي ليلة القدر ومن الأيام الأيام العشر واصطفى من الأشهر الأشهر الحرم؛
قال تعالى: { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَـٰبِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمٰوٰت وَٱلأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [التوبة:36].
وقد فصّل النبي صلى الله عليه ما وسلم ما أجمله القرآن، وبيَّن أن هذه الأشهر الحرم هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب؛ فقد روي عن أبي بكرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
“إنَّ الزمانَ قد استدارَ كهيئتِه يومَ خلقَ اللهُ السماواتِ والأرضَ، السنةُ اثنا عشرَ شهرًا، منها أربعةٌ حرمٌ، ثلاثٌ متوالياتٌ: ذو القَعدةِ وذو الحَجةِ والمحرمُ ، ورجبُ مضرَ الذي بين جُمادى وشعبانَ. أخرجه البخاري (4662)، ومسلم (1679).
وقد منَّ الله علينا وبلغنا تلك الأشهر الآن، ولأهميتها وقدرها أمرنا الله عز وجل فيها بعدم ظلم النفس, فلا تحرم نفسك الخير في هذه الشهور والأيام المباركة.
ولكن ماذا عسانا أن نفعل في هذه الشهور؟!!
نقول وبالله التوفيق: إن أول شيء يجب على المسلم في هذه الأشهر اجتناب الذنوب والمعاصي، لماذا؟
لأن العقوبة تغلظ على الذنوب والمعاصي في هذه الأشهر الحرم أكثر من غيرها.
قال ابن كثير:
{ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي: في هذه الأشهر المحرمة؛ لأنه آكد وأبلغ في الإثم من غيرها، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف، لقوله تعالى: { وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الحج: 25] فكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام.
فاحذر هذا العقاب الشديد المترتب على مخالفة أمر الله ورسوله في هذه الأشهر.
وقد قال تعالى ذكره في شأن هذه الأشهر: ( فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) التوبة:٣٦
ومن المعلوم أن الظلم مذموم من كل وجه، وأنه صفة يبغضها الله تعالى، وتأباها النفوس الشريفة، وقد حرم الله تعالى على نفسه الظلم؛ قال في الحديث القدسي:
« يَا عِبَادِى إِنِّى حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِى وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا » صحيح مسلم (2577)
*واعلم أن الظلم على ثلاث مراتب*:
الأولى: ظلم متعلق بحق الله.
الثانية: ظلم متعلق بحق العباد.
الثالثة: ظلم متعلق بحق النفس.
أما المرتبة الأولى: وهي الظلم المتعلق بحق الله تعالى: وأعظمه الإشراك بالله جل جلاله، بأن أنسب له الولد أو الصاحبة، أو أعتقد أن في الكون من يستطيع أن يجلب لي النفع، أو يدفع عني الضر، كما يلجأ بعض المسلمين إلى من يدَّعون أنهم أولياء الله، ويسألونهم كشف الكرب والهم، وأن يعطوهم الولد أو زيادة الرزق، أو ينادي صاحب القبر ويقول مدد يافلان -معتقدًا أن صاحب القبر يعطيه من عنده وأنه واسطة بينه وبين الله تعالى- أو ما أشبه ذلك.
قال تعالى “وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ …….” غافر:٦٠
فالله سبحانه وتعالى أمرنا أن ندعوه جل وعلا، لا ندعوا الميت وإن كان وليًا ..
ومن اعتقد أن المقبور أو غيره من الخلق يملك ذلك فقد أشرك بالله تعالى شركًا أكبر؛ قال تبارك اسمه:
{وَلَا تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ ۖ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِّنَ الظَّالِمِينَ – وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ ۖ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ ۚ ……} [يونس :١٠٦ -١٠٧]
ومن الظلم أيضًا المتعلق بحق الله: الذهاب إلى الكهَّان، والعرَّافين، ومن يقال له أنه شيخ- وليس كذلك- يسألونهم حل السحر عن المسحور، أو زواج البنت، أو الإصلاح بين الرجل وزوجته، وكل ذلك من الأمور الشركية؛ لأنه اعتقد في عبد ما يعتقده في رب العالمين من ملك النفع أو كشف الضر.
أما علاج السحر وحله عن المسحور، فلا يكون إلا بالرقى الشرعية، من كتاب الله تعالى، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
والذي يقوم بهذا العمل: رجل متفقٌ على صلاحه من أهل الفضل، وليس كل من يدعي أنه يرقي بالقرآن يُذهب إليه، فانتبه.
ويكون العلاج بالذهاب إلى الأطباء أيضًا وأهل الاختصاص، مع اليقين الجازم أن الطبيبَ سببٌ، وأن الشافي هو الله تعالى؛ قال تبارك اسمه:
*( وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ )* الشعراء:80
ومن الظلم المتعلق بحق الله: سوء الظن بالله سبحانه وتعالى: ومنه أن يعتقد أنه يخذل المؤمنين وينصر الكافرين، أو أعداء الدين، وكيف يظن هذا وقد قال سبحانه وتعالى:
*( وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ) الروم: 47
ومن أعظم أنواع الظلم: أن يعتقد العبد أن الله سبحانه وتعالى قد ظلمه بأي وجة من الوجوه.
قال تعالى: ( وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) الكهف:49
وقال سبحانه وتعالى: (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ) فصلت:46
المرتبة الثانية من مراتب الظلم: هي الظلم المتعلق بحق العباد.
اعلم أن كل إنسان ظلم عباد الله في الدنيا فإن المظلوم سيأخذ من حسناته يوم القيامة، فإن لم يكن للظالم حسنات، طُرح من سيئات المظلوم على الظالم، ثم يُطرح في النار، وهذا بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في المُفلِس، وقد ذكرت الحديث في رسائل آفات اللسان.
ما هي صور ظلم العباد؟
صور ظلم العباد كثيرة جدًا، منها:
غيبة المسلمين بعضهم البعض،
*والغيبة: هي ذكرك أخاك بما يكره، أو بما ليس فيه، كذا عرَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم الغيبة.
*والنميمة: وهي الوقيعة بين اثنين.
*أكل أموال الناس بالباطل*، وأكل مال اليتيم، سواء أكان ( مالًا، أم عقارًا، أم أرضًا، وأخذ رشوة على إتمام العمل ) أو غير ذلك.
*عقوق الوالدين*، وهو من الكبائر،
وحد العقوق: أن تقول لهما ( أف )، كما جاء النهي عن ذلك في كتاب الله تعالى.
ومن صور ظلم العباد أيضًا:
أذى الزوجة زوجها باللسان، أو بأخذ ماله بغير إذنه، أو هجرته في الفراش بغير سبب، أو غير ذلك.
وكذا أذى الزوج زوجته، بالسب أو اللعن، أو بالضرب، أو الخيانة، أو بهجرتها على الفراش بغير حق.
*ظلم الوالد لأولاده، ومنه: تفضيل بعض الأبناء على بعض في المعاملة المعنوية أو المادية، أو حرمان بعضهم من الميراث، وخاصة البنات، وعدم العدل في العطية.
*إهانة الخدم، وسبهم، وضربهم، وتحميلهم ما لا طاقة لهم به.
*عدم إعطاء الأجير أجره، أو تأخيره عن الوقت المتفق عليه بينهما عند تمام عمله، سواء أكان موظفًا أو عاملًا.
*ظلم الأم لزوجة ابنها، والوقيعة بينها وبين زوجها، إما غِيرة منها، أو لحبها غير المعتدل لابنها.
*ظلم زوجة الأب لأولاد زوجها الصغار الأبرياء، فليس لهم ذنب أن أمهم ماتت أو طُلقت.
المرتبة الثالثة من مراتب الظلم: ظلم النفس.
قال تعالى: ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) فاطر: 32
وقال جل جلاله: ( وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ) النحل: 118
من صور ظلم النفس:
اعلم أن أعظم صورة من صور ظلم النفس – بعد الشرك – ترك الصلاة، فهي أعظم شعيرة في الدين بعد النطق بالشهادتين، وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة، فإذا صلحت صلاته صلحت سائر أعماله، وتقبلها الله، وإذا فسدت صلاته لن ينفعه عمله، أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد أخبرنا الله تعالى أن أول سبب لدخول النار هو ترك الصلاة،
قال تعالى: ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) المدثر: 43،42.
وقال سبحانه وتعالى: ( فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ) الماعون: 5،4.
والويل قيل : وادٍ في جهنم،
وقيل وعيد شديد من الله لمن أخر الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة التي بعدها، فكيف بمن ضيَّع الصلاة؟!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ» صحيح مسلم (82).
وقال صلى الله عليه وسلم: « الْعَهْدُ الَّذِى بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلاَةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» سنن الترمذي (2621)، صحيح ابن حبان (1454).
ومع خلاف العلماء هل يكفر تارك الصلاة كسلًا أم أنه مرتكب لكبيرة توجب له النار إن لم يعفُ الله عنه، في كلا الحالتين هو على خطر عظيم، بين فريق يكفِّره ويخلِّده في النار، وآخر يفسِّقه.
فانتبه لهذه الشعيرة العظيمة التي ضيعها كثير من المسلمين، وهم لا يعلمون أنهم على هذا الخطر العظيم.
فأي ظلم للنفس أعظم من هذا؟! وخاصة في هذه الأشهر الحرم.
ومن صور ظلم النفس:
ترك أداء فريضة الحج مع توافر المال، والصحة، والاستطاعة؛ خشيةَ إنفاق المال، ورغبةً في حفظه لأولاده، أو غير ذلك.
وكذا التفريط في فريضة الصوم- سواء أكان صوم رمضان، أو قضاء، أو نذر.
عدم إخراج زكاة المال فهو من أعظم الظلم، ومانعها على خطر عظيم.
ضياع العمر والوقت فيما لا ينفع، فالقرآن أصبح مهجورًا، واللسان معطلًا عن ذكر الله، والعقل منشغلًا بالدنيا ومتعها الزائلة.
فأي غبنٍ أعظم من ذلك، وأي ظلم للنفس بعد كل ذلك.
يا من شغل عن أمر الآخرة، أين أنت من قول الله تعالى:
( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ) الذاريات:56
فاحذر كل ما ذكرت من صور الظلم، وما لم أذكر
وعاهد الله تعالى على ترك ما تلبستَ به من ظلم في هذه الأشهر الحرم، عسى الله أن يتقبل توبتنا، ويغسل حوبتنا.
أسأل الله أن يوفقنا وإياك في هذه الأشهر الحرم المباركة إلى ترك الظلم بكل أنواعه، والإقبال على الله تعالى بالقلوب قبل الجوارح.
والله الهادي إلى سواء السبيل.