المقالة الواحدة والستون_فقه النكاح

المقالة الواحدة والستون

فقه النكاح

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

     فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن العزل وحكمه، وهل هو حق للمرأة أم لا؟ وتحدثنا عن حق الزوج على الزوجة، وأنه يحرم على المرأة امتناعها من فراش زوجها، وحكم ما إذا تعارضت طاعة الزوج مع طاعة الوالدين، أيهما يقدم على الآخر؟ ونستكمل فقه النكاح  سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.

أولًا: صوم المرأة يكون بإذن زوجها إذا كان تطوعًا:

– عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ عن النبي ﷺ قال: «لَا تَصُومُ الْمَرْأَةُ وَبَعْلُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ»-متفق عليه

وفي رواية: «لَا يَحل للمرأة أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه»– أخرجه البخاري (5195)، ومسلم (1026) أول الحديث.

– مذهب الجماهير تحريم صيام المرأة تطوعًا بغير إذن زوجها، وسبب ذلك أن الزوج له حق الاستمتاع بها في كل الأيام، وهذا الحق لا يفوته بتطوع.

ثانيًا:لا تأذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه:

– عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن رسول الله ﷺ قال: «لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَصُومَ وَزَوْجُهَا شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا تَأْذَنَ فِي بَيْتِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ وَمَا أَنْفَقَتْ مِنْ نَفَقَةٍ عَنْ غَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى إِلَيْهِ شَطْرُهُ»- متفق عليه

جاء في شرح مسلم (4/124):

قوله ﷺ: «وَلَا تَأْذَنْ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ شَاهِدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ» فيه إشارة إلى أنه لا يفتات على الزوج وغيره من مالكي البيوت وغيرها بالإذن في أملاكهم إلا بإذنهم، وهذا محمول على ما لا يعلم رضا الزوج ونحوه، فإن علمت المرأة ونحوها رضاه به جاز كما سبق في النفقة.

ثالثًا: الترهيب من كفران العشير:

– عن ابن عباس أنه قال: «خَسَفَتْ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فَصَلَّى رَسُولُ اللهِ ﷺ وَالنَّاسُ مَعَهُ…. وفيه أنه ﷺ قال: وَرَأَيْتُ النَّارَ فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا قَطُّ وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: بِكُفْرِهِنَّ قِيلَ: يَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ: يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا قَالَتْ مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ»-أخرجه البخاري (5195)، ومسلم (907).

قوله ﷺ: «بكفرهن قيل: أيكفرن بالله، قال: بكفر العشير وبكفر الإحسان» هكذا ضبطناه بكفر بالباء الموحدة الجارة وضم الكاف وإسكان الفاء، وفيه جواز إطلاق الكفر على كفران الحقوق، وإن لم يكن ذلك الشخص كافرًا بالله تعالى… والعشير: المعاشر، كالزوج وغيره، وفيه ذم كفران الحقوق لأصحابها-شرح مسلم (3/482).

رابعًا: خدمة المرأة لزوجها واجبة أم مستحبة؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم:  أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم إلى أن خدمة المرأة لزوجها ليست واجبة.

 واستدلوا على ذلك بما يأتي:

قول الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ﴾ [النساء: 19] والخدمة: المعروف.

قول رسول الله ﷺ لهند: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»– أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714).

القول الثاني: ذهب فريق من أهل العلم منهم: شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما إلى وجوب خدمة المرأة لزوجها.

 وحجتهم في ذلك:

أن فاطمة رضي الله عنها كانت أتت النبي ﷺ تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى وتسأله خادمًا فلم تجده، فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فلما جاء رسول الله ﷺ أخبرته، قال علي: فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم، فقال «مكانكما» فجاء فقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدميه على بطني، فقال: «أَلَا أَدُلُّكُمَا عَلَى خَيْرٍ مِمَّا سَأَلْتُمَا؟ إِذَا أَخَذْتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَوْ أَوَيْتُمَا إِلَى فِرَاشِكُمَا فَسَبِّحَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاحْمَدَا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبِّرَا أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ؛ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمَا مِنْ خَادِمٍ»- أخرجه البخاري (5361) ومسلم (2727).

وعن أسماء أنها قالت: « تَزَوَّجَنِي الزُّبَيْرُ وَمَا لَهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ مَالٍ وَلَا مَمْلُوكٍ وَلَا شَيْءٍ غَيْرَ فَرَسِهِ قَالَتْ: فَكُنْتُ أَعْلِفُ فَرَسَهُ وَأَكْفِيهِ مَئُونَتَهُ وَأَسُوسُهُ وَأَدُقُّ النَّوَى لِنَاضِحِهِ وَأَعْلِفُهُ وَأَسْتَقِي الْمَاءَ وَأَخْرُزُ غَرْبَهُ وَأَعْجِنُ وَلَمْ أَكُنْ أُحْسِنُ أَخْبِزُ وَكَانَ يَخْبِزُ لِي جَارَاتٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَكُنَّ نِسْوَةَ صِدْقٍ قَالَتْ: وَكُنْتُ أَنْقُلُ النَّوَى مِنْ أَرْضِ الزُّبَيْرِ الَّتِي أَقْطَعَهُ رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى رَأْسِي… »– أخرجه مسلم (2821).

أقوال أهل العلم في المسألة:

قال ابن همام في فتح القدير (4/348):

وتفرض على الزوج إذا كان موسرًا نفقة خادمها، ووجه أن كفايتها واجبة عليه، وهذا من تمامها إذ لابد لها منه، ولا يفرض لأكثر من نفقة خادم واحد، وهذا عند أبي حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: تفرض لخادمين لأنها تحتاج إلى أحدهما لمصالح الداخل وإلى الآخر لمصالح الخارج، ولها أن الواحد يقوم بالأمرين فلا ضرورة إلى اثنين.

قال الشافعي في الأم (5/127):

وفي قول الله تعالى في النساء ﴿ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا﴾ [النساء : 3] بيان أن على الزوج ما لا غنى بامرأته عنه من نفقة وكسوة وسكنى، قال: وخدمة في الحال التي لا تقدر على أن تنحرف لما لا صلاح لبدنها إلا به من الزمانة والمرض فكل هذا لازم للزوج، قال: يحتمل أن يكون عليه لخادمها نفقة إذا كانت ممن يعرف أنها لا تخدم نفسها، وهو مذهب غير واحد من أهل العلم. فيفرض على الرجل نفقة خادم واحد للمرأة التي الأغلب أن مثلها لا تخدم نفسها وليس عليه نفقة أكثر من خادم واحد.

وفي الحاوي الكبير (11/418):

قال الماوردي: قد مضى الكلام على وجوب نفقتها، فأما نفقة خادمها إذا كان مثلها مخدومًا واجب عليه لقول الله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ﴾ والخدمة من المعوذ المعروف لقول النبي ﷺ: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ».

فكان الخادم من المعروف، ولأنه ملك منها الاستمتاع الكامل فلزمه لها الكفاية الكاملة.

جاء في المغني: (7/380):

فإن كانت المرأة لا تخدم نفسها لكونها من ذوي الأقدار أو مريضة وجب لها خادم لقوله تعالى: ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ﴾ ومن العشرة بالمعروف أن يقيم لها خادم ولأنه مما تحتاج إليه في الدوام فأشبه النفقة، ولا يجب أكثر من خادم واحد لأن المستحق خدمتها في نفسها ويحصل ذلك بواحد، وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي، إلا أن مالكًا قال: إن كان لا يصلح للمرأة أكثر من خادم فعليه أن ينفق على أكثر من واحد ونحوه.

قال أبو ثور: إذا احتمل الزوج ذلك فرض خادمين ولنا: أن الخادم الواحد يكفيها لنفسها، والزيادة تراد لحفظ ملكها أو للتجمل وليس عليه ذلك.

جاء في المحلى (9/227):

ولا يلزم المرأة أن تخدم زوجها في شيء أصلاً لا في عجن ولا طبخ ولا فرش ولا كنس ولا غزل ولا نسج ولا غير ذلك أصلاً ولو أنها فعلت لكان أفضل لها.

وعلى الزوج أن يأتيها بكسوتها مخيطة تامة وبالطعام مطبوخًا تامًا وإنما عليها أن تحسن عشرته ولا تصوم تطوعًا وهو حاضر إلا بإذنه ولا تدخل بيته من يكره وأن لا تمنعه نفسها متى أراد وأن تحفظ ما جعل عندها من مال.

وقال أبو ثور: على المرأة أن تخدم زوجها في كل شيء ويمكن أن يحتج لذلك بالأثر الثابت عن علي بن أبي طالب قال «شكت فاطمة… وساق حديث الباب، بالخبر الثابت عن أسماء… وساق الأثر كما تقدم»؟.

قال أبو محمد: لا حجة لأهل هذا القول في شيء من هذه الأخبار، لأنه ليس في شيء منها ولا من غيرها، أنه عليه الصلاة والسلام أمرهما بذلك، وإنما كانتا متبرعتين بذلك وهما أهل الفضل والمبرة رضي الله عنهما، ونحن لا نمنع من ذلك إن تطوعت المرأة به، إنما نتكلم على سر الحق الذي به الفتيا والقضاء بإلزامه.

جاء في فتح الباري (9/417):

وحكى ابن بطال أن بعض الشيوخ قال: لا نعلم في شيء من الآثار أن النبي ﷺ قضى على فاطمة بالخدمة الباطنة وإنما جرى الأمر بينهم على ما تعارفوه من حسن العشرة وجميل الأخلاق وأما أن تجبر المرأة على كل شيء من الخدمة فلا أصل له، بل الإجماع منعقد على أن على الزوج مؤنة الزوجة كلها، ونقل الطحاوي الإجماع على أن الزوج ليس له إخراج خادم المرأة من بيته، فدل على أنه يلزمه نفقة الخادم على حسب الحاجة إليه.

قال ابن القيم في زاد المعاد (5/165):

في ثنايا ذكره خلاف أهل العلم في المسألة: وقولهم إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعًا وإحسانًا يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة فلم يقل لعلي لا خدمة عليها وإنما هي عليك وهو ﷺ لا يحابي في الحكم أحدًا، ولما رأى أسماء والعلف على رأسها والزبير معه لم يقل له: لا خدمة عليها وأن هذا ظلم لها بل أقره على استخدامها وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهن مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية هذا أمر لا ريب فيه.

جاء في مجموع الفتاوى (34/91):

وتنازع العلماء: هل عليها أن تخدم في مثل فراش المنزل ومناولة الطعام والشراب والخبز والطحن والطعام وبهائمه: مثل علف دابته ونحو ذلك؟

فمنهم من قال: لا تجب الخدمة وهذا القول ضعيف: كضعف قول من قال: لا تجب عليه العشرة والوطء، فإن هذا ليس معاشرة له بالمعروف، بل الصاحب في السفر الذي هو نظير الإنسان وصاحبه في المسكن إن لم يعاونه على مصلحة لم يكن قد عاشره بالمعروف وقيل هو الصواب وجوب الخدمة فإن الزوج سيدها في كتاب الله، وهي عانية عنده بسنة رسول الله ﷺ وعلى العاني والعبد الخدمة، ولأن ذلك هو المعروف ثم من هؤلاء من قال: تجب الخدمة اليسيرة ومنهم من قال: تجب الخدمة بالمعروف، وهذا هو الصواب فعليها أن تخدمه الخدمة المعروفة من مثلها لمثله ويتنوع ذلك بتنوع الأحوال، فخدمة البدوية ليست كخدمة القروية وخدمة القوية ليست كخدمة الضعيفة.

تعقيب وترجيح:

والذي اختاره في ذلك وأرجحه بعد عرض أقوال أهل العلم هو ما ذهب إليه الجمهور منهم الأئمة الأربعة من أن خدمة المرأة لزوجها ليست واجبة وإنما مستحبة.

وأما أن تجبر المرأة على شيء من الخدمة فلا أصل له، بل الإجماع منعقد على أن على الزوج مؤنة الزوجة كلها، ونقل الطحاوي الإجماع على أن الزوج ليس له إخراج خادم المرأة من بيته فدل على أنه يلزمه نفقة الخادم على حسب الحاجة إليه فتح الباري (9/417).

 

Pin It on Pinterest

Share This