المقالة الثانية والسبعون_فقه الطلاق

المقالة الثانية والسبعون

فقه الطلاق

 بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

     فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن طلاق الغائب وهل تحريم المرأة يقع طلاقًا أم لا؟ ونستكمل ما بدأناه سائلين الله -عز وجل- أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.

أولًا: تعريف الظهار:

الظهار: مشتق من الظهر، وإنما خصوا الظهر بذلك من بين سائر الأعضاء؛ لأن كل مركوب يسمى ظهرًا لحصول الركوب على ظهره في الأغلب، فشبهوا الزوجة بذلك-المغني (8/554).

ثانيًا: حكمه:

الظهار محرم لقول الله تعالى: ﴿وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ الْقَوْلِ وَزُورًا ۚ﴾ [المجادلة: 2]، ومعناه أن الزوجة ليست كالأم في التحريم وقال تعالى: ﴿مَّا هُنَّ أُمَّهَـٰتِهِمْ ۖ ﴾ [المجادلة: 2]، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّـٰٓـِٔى تُظَـٰهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَـٰتِكُمْ ۚ﴾ [الأحزاب: 4].

وقال ابن القيم في زاد المعاد (5/287):

الظهار حرام لا يجوز الإقدام عليه؛ لأنه -كما أخبر الله عنه- منكر من القول وزور وكلاهما حرام.

ثالثًا: هل الظهار مختص بالأم؟

تحرير محل النزاع:

أولًا: أجمع أهل العلم على أن من قال لزوجته أنت علي كظهر أمي، فقد وقع منه الظهار.

قال تعالى: الَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَآئِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَـٰتِهِمْ ۖ ﴾ [المجادلة: 2].

– عن عروة بن الزبير قال: قالت عائشة: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليَّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي، ظاهر مني، والله إني أشكو إليك، فما برحتْ حتى نزل جبرائيل بهؤلاء الآيات: ﴿قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَـٰدِلُكَ فِى زَوْجِهَا وَتَشْتَكِىٓ إِلَى اللَّهِ﴾ [المجادلة: 1]. صحيح سنن ابن ماجة (2063)، ومسند الإمام أحمد (6/46).

قال ابن المنذر في الإجماع (ص: 1/84 – 426):

وأجمعوا على أن صريح الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي.

ثانيًا: اختلفوا في باقي الألفاظ – كقوله: أنت علي كأختي أو كظهر امرأة محرمة من النسب أو الرضاع – هل يقع بها الظهار أو لا؟ الجمهور على وقوعه بهذه الألفاظ، منهم الأئمة الأربعة.

أقوال أهل العلم في المسألة:

جاء في شرح الموطأ للزرقاني (3/212):

والظهار من ذوات المحارم من الرضاعة والنسب سواء؛ لأنه تشبيه من تحل بمن تحرم، فهو شامل لمن حرمت بالرضاعة.

جاء في الأم (9/217):

وإن قال: أنت علي كظهر امرأة محرمة من نسب أو رضاع، قامت في ذلك مقام الأم.

جاء في المغني (7/228):

قال ابن قدامة: أن يشبهها بظهر من تحرم عليه من ذوي رحمه كجدته وعمته وخالته وأخته، فهذا ظهار في قول أكثر أهل العلم، منهم الحسن وعطاء وجابر بن زيد والشعبي والنخعي والزهري والثوري والأوزاعي ومالك وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور وأصحاب الرأي وهو جديد قولي الشافعي: أن يشبهها بظهر من تحرم عليه على التأبيد سوى الأقارب كالأمهات المرضعات والأخوال من الرضاعة وحلائل الآباء والأبناء وأمهات النساء والربائب اللائي دخل بأمهن – فهو ظهار أيضًا.

جاء في السيل الجرار (2/448):

وأما قوله: وكنايتها، كأمي أو مثلها… إلخ، فصحيح لأن اللفظ إذا احتمل معنيين أو معاني لم ينصرف إلى أحدهما إلا بالنية من المتكلم.

رابعًا: كفارة الظهار:

عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن كان مريضًا لا يستطيع الصيام فعليه إطعام ستين مسكينًا دليل ذلك قوله تعالى:

﴿وَالَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ ذَٰلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۖ فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ۚ ﴾ [المجادلة: 3-4].

عن عبد الرحمن بن ثوبان، أن سلمان بن صخر الأنصاري أحد بني بياضة جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان فلما مضى نصف رمضان وقع عليها ليلًا، فأتى رسول الله r فذكر ذلك له فقال له رسول الله ﷺ: «أَعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَ: لَا أَجِدُهَا، قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، قَالَ: لَا أَسْتَطِيعُ، قَالَ: أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَ: لَا أَجِدُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّـهِ لِفَرْوَةَ بْنِ عَمْرٍو: أَعْطِهِ ذَلِكَ الْعَرَقَ وَهُوَ مِكْتَلٌ يَأْخُذُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا أَوْ سِتَّةَ عَشَرَ صَاعًا إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا»-صحيح سنن الترمذي (1200)، والبيهقي (7/390).

قال أبو عيسى الترمذي في جامع الترمذي (ص: 213):

هذا حديث حسن يقال سلمان بن صخر ويقال سلمة بن صخر البياضي والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم في كفارة الظهار.

خامسًا: معنى العود الموجب للكفارة:

ذهب جمهور العلماء أن العود هو الرجوع إلى الحال الذي كان عليه قبل الظهار وهو إباحة الوطء، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وابن القيم وغيرهم.

وهذا هو الراجح عندي لما سيأتي من أدلة أهل العلم.

وذهب أهل الظاهر إلى أن معنى العود أي إعادة لفظ الظهار فإن لم يعد لفظ الظهار فلا ظهار ولا كفارة وهذا مذهب ابن حزم.

أقوال أهل العلم:

قال السرخسي في المبسوط (6/263):

في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ فقال: علماؤنا -رحمهم الله- هو العزم على الجماع الذي هو إمساك بالمعروف.

قال الماوردي في الحاوي (10/445):

العود هو مفارقة الحال التي هو فيها إلى حال كان عليها، كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ﴾ [الإسراء: 8]، والحال التي هو عليها: تحريم الظهار، والتي كان عليها: إباحة النكاح.

قال ابن القيم في زاد المعاد (5/292):ٍٍ

ونكتة المسألة: أن القول في معنى المقول والمقول هو التحريم، والعود له هو العود إليه، وهو استباحه عائد إليه بعد تحريمه، وهذا جارٍ على قواعد اللغة العربية واستعمالها، وهذا الذي عليه جمهور السلف والخلف كما قال قتادة وطاوس والحسن والزهري ومالك وغيرهم، ولا يعرف عن أحد من السلف أنه فسر الآية بإعادة اللفظ البتة لا من الصحابة ولا من التابعين ولا مَنْ بعدهم.

جاء في الكافي في فقه أحمد (3/260):

والعود هو الوطء في ظاهر كلام أحمد والخرقي، قال أحمد: العود هو الغشيان؛ لأن العود في القول فعل ضد ما قال، كما أن العود في الهبة استرجاع ما وهب، فالمظاهر محرم للوطء على نفسه ومانع لها منه، فالعود فعله.

سادسًا: متى تجب الكفارة على المظاهر؟

ذهب جمهور العلماء إلى أن الكفارة تجب على المظاهر قبل المسيس؛ لقوله تعالى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ ﴾ [المجادلة: 3]، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.

واختلفوا في معنى المسيس، فذهب قوم إلى أن المسيس هو الجماع.

وقال آخرون: المسيس هو الجماع ومقدماته من التقبيل والمباشرة والنظر إلى الزوجة بشهوة ونحوه.

أقوال الفقهاء في وقت وجوب الكفارة:

جاء في بدائع الصنائع (3/341):

فللظهار أحكام منها: حرمة الوطء قبل التكفير لقوله عز وجل:
﴿وَالَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ ﴾ [المجادلة: 3].

قال أبو عمر بن عبد البر في الاستذكار (6/53):

وكذلك المظاهر عصى ربه – إذا كان مظاهرًا – إذا كان عالمًا بتحريم وطء امرأته قبل الكفارة، وفرجها عليه محرم كما كان حتى يكفِّر، وليس له أن يعود إلى وطئها حتى يكفر لقول الله تعالى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ ﴾ [المجادلة: 3].

قال الشافعي في الأم (5/400):

معنى قول الله تعالى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ ﴾ وَقَّتَ لأن يؤدي ما أوجب عليه من الكفارة فيها قبل المماسة.

قال المرداوي في الإنصاف (9/207):

ويحرم وطء المظاهر منها قبل التكفير.

معنى المسيس عند الفقهاء:

قال البغوي في تفسيره (8/52):

والمراد بالتماس: المجامعة، فلا يحل للمظاهر وطء امرأته التي ظاهر منها ما لم يكفر.

قال القرطبي في أحكام القرآن (17/283):

قوله تعالى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ﴾ أي يجامعها، فلا يجوز للمظاهر الوطء قبل التكفير.

جاء في الدر المنثور للسيوطي (8/75):

أخرج ابن المنذر والبيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: ﴿وَالَّذِينَ يُظَـٰهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا﴾ قال: هو الرجل يقول لامرأته: أنت علي كظهر أمي، فإذا قال ذلك – فليس له أن يقربها بنكاح ولا غيره حتى يكفر بعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا والمس: النكاح.

جاء في فتح القدير للشوكاني (5/258):

﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ﴾ المراد بالتماس هنا: الجماع، وبه قال الجمهور؛ فلا يجوز للمظاهر الوطء حتى يكفر.

تعقيب وترجيح

الراجح عندي أن وقت الكفارة يكون قبل التماس؛ لقول الله تعالى: ﴿مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ۚ﴾ وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.

أما المراد بقوله تعالى: ﴿يَتَمَآسَّا﴾ أي المس وهو الجماع كما قال جمهور المفسرين، والله تعالى أعلم.

 

 

Pin It on Pinterest

Share This