باب النكاح – الحقوق الزوجية
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن نكاح الشغار، ونكاح المسلمين من أهل الشرك، وحكم نكاح أهل الكتاب، ونستكمل فقه النكاح سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
الحقوق الزوجية:
أولاً: حق الزوجة على الزوج:
1- الصداق
لغة: الصداق بفتح الصاد المهملة وكسرها، مأخوذ من الصدق لإشعاره بصدق رغبة الزوج في الزوجة، وفيه سبع لغات وله ثمانية أسماء يجمعها قوله:
صداق ومهر نحلة وفريضة حباء وأجر ثم عقر علائقه
والصداق: هو صداق المرأة، سمي بذلك لقوته وأنه حق يلزم- مقاييس اللغة (3/ 339)، المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (1/ 335).
شرعًا: وهو ما يجعل للزوجة في نظير الاستمتاع بها- حاشية الصاوي على الشرح الصغير(2/ 428)
مشروعيته:
الأصل في مشروعيته الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) [النساء: 24]، وقال تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء: 4]، قال أبو عبيد: يعني عن طيب نفس بالفريضة التي فرض الله تعالى، وقيل النحلة: الهبة والصداق في معناها، لأن كل واحد من الزوجين يستمتع بصاحبه وجعل الصداق للمرأة فكأنه عطية بغير عوض، وقيل نحلة من الله تعالى للنساء، وقال تعالى: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء: 24].
أما السنة: فروى أنس: « أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ رَأَى عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، وَعَلَيْهِ رَدْعُ زَعْفَرَانٍ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: مَهْيَمْ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً قَالَ: مَا أَصْدَقْتَهَا؟ قَالَ: وَزْنَ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ قَالَ: بَارَكَ اللهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»- أخرجه البخاري (5155) ومسلم (1427).
وعنه أن رسول الله ﷺ أَعْتَقَ صَفِيَّةَ وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا- أخرجه البخاري (5086)، ومسلم (85- 1365).
وأجمع المسلمون على مشروعية الصداق في النكاح.
قال ابن المنذر: وأجمعوا أن للمرأة أن تمنع من دخول الزوج عليها حتى يعطيها مهرها- الإجماع لابن المنذر (ص: 39).
حكم الزواج بغير صداق:
اختلف الفقهاء في حكم الزواج بغير صداق على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء: المالكية والشافعية والحنابلة وغيرهم إلى أن الصداق واجب، وإن اشترط عدم الصداق فالنكاح صحيح والشرط فاسد.
واستدلوا على ذلك وجوب الصداق بما يأتي:
قول الله تعالى: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء: 4].
وقوله: (فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) [النساء: 24].
وجه الدلالة:
هذا أمرٌ من الله أزواجَ النساء المدخول بهن والمسمَّى لهن الصداق، أن يؤتوهن صدُقاتهن، دون المطلقات قبل الدخول ممن لم يسمّ لها في عقد النكاح صداق- تفسير الطبري (7/ 554).
وحجتهم في جواز النكاح بغير صداق:
قول الله تعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [البقرة: 236].
القول الثاني: ذهب بعض الحنفية وشيخ الإسلام ابن تيمية ، أن الصداق شرط في صحة عقد النكاح، فإن لم يسم صداقًا فالنكاح باطل.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
قول الله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم) [النساء: 24].
وجه الدلالة:
دلت الآية على وجوب النكاح، فمن طلب النكاح بلا مهر لم يفعل ما أحل الله- مجموع الفتاوى (34/ 126)
أقوال أهل العلم في المسألة:
أولًا: من قال بوجوب الصداق وإن اشترط عدم الصداق فالنكاح صحيح والشرط فاسد:
قال ابن همام في فتح القدير (3/304):
ويصح النكاح وإن لم يسم فيه مهرًا.
قال الحطاب في مواهب الجليل (3/481):
في معرض ذكره لأركان النكاح، وأما الشهود والصداق فلا ينبغي أن يعدا في الأركان ولا في الشروط لوجود النكاح الشرعي بدونهما.
قال الشيرازي في المهذب (18/3):
المستحب أن لا يعقد النكاح إلا بصداق، لما روي عن سعد بن سهل رضي الله عنه: «أن امرأة قالت: وقد وهبت نفسي لك يا رسول الله ﷺ فرد في رأيك، فقال رجل: زوجنيها قال: قال ﷺ: أطلب ولو خاتمًا من حديد، فذهب فلم يجئ، فقال رسول الله ﷺ: هل معك من القرآن شيء؟ فقال: نعم فزوجه بما معه من قرآن» أخرجه البخاري (5149). ولأن ذلك أقطع للخصوصية ويجوز من غير صداق لقوله تعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [البقرة: 236]. فأثبت الطلاق مع عدم الفريضة.
جاء في السيل الجرار (2/281):
لم يرد ما يدل على أن المهر شرط من شروط العقد أو ركن من أركانه، وأما قوله سبحانه: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) [الممتحنة: 10] فالمراد أن المهر واجب للمنكوحة لا يجوز أخذ مطلقها منه ولو كان العقد لا يصح إلا بالمهر لم يقل الله عز وجل (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) هذه الآية تفيد أن العقد قد يقع قبل فرض المهر.
جاء في الشرح الممتع (5/295):
وهو واجب في كل عقد نكاح، أما إذا اشترط عدم المهر، فالمذهب أن النكاح صحيح والشرط فاسد ولها المهر.
وقول شيخ الإسلام: إن النكاح باطل لا يصح -إذا شرط عدم المهر- قال لأن الله تعالى إنما أباح ما سوى المحرمات بشرط، فقال: (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) [النساء: 24] ولأننا لو أجزنا النكاح مع شرط انتفاء المهر لم يكن هناك فرق بين النبي ﷺ وبين غيره في جواز النكاح بالهبة إلا في اللفظ والألفاظ لا عبرة لها بل العبرة بالمعاني.
ثانيًا: من قال الصداق شرط في صحة عقد النكاح، فإن لم يسم صداقًا فالنكاح باطل.
قال الكاساني في بدائع الصنائع (2/406):
في ذكره لشروط النكاح: ومنها المهر، فلا جواز للنكاح بدون المهر عندنا… ثم حكى الخلاف في المسألة – إلى أن قال: ولنا قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَٰلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ) [النساء: 24] أخبر سبحانه وتعالى أنه أحل ما وراء ذلك بشرط الابتغاء بالمال ودل أنه لا جواز للنكاح بدون المال.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (34/ 126):
فمن تزوج بشرط أنه لا يجب مهر فلم. يعتبر الذي أذن الله؛ فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصنا غير مسافح كما قال تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} فمن طلب النكاح بلا مهر فلم يفعل ما أحل الله وهذا بخلاف من اعتقد أنه لا بد من مهر؛ لكن لم يقدره كما قال تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} فهذا نكاح المهر المعروف وهو مهر المثل.
تعقيب وترجيح:
ما ذهب إليه جماهير العلماء من أن النكاح صحيح مع انعدام الصداق – إذا رضيت الزوجة – هو ما أرجحه، لأن الجمهور استدل بقول الله تعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [البقرة: 236]، فموضع الدليل من هذه الآية: أن الله تعالى قد أثبت النكاح مع ترك الصداق، وجوز فيه الطلاق والطلاق يكون من نكاح صحيح، والله تعالى أعلم.
قدر الصداق:
سُئِلَتْ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ كَمْ كَانَ صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ؟ قَالَتْ: كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا قَالَتْ: أَتَدْرِي مَا النَّشُّ؟ قَالَ قُلْتُ: لَا قَالَتْ: نِصْفُ أُوقِيَّةٍ فَتِلْكَ خَمْسُ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَهَذَا صَدَاقُ رَسُولِ اللهِ ﷺ لِأَزْوَاجِه-أخرجه مسلم (1426).
الأوقية: أربعون درهمًا – شرح مسلم (5/233).
حديث سهل بن سعد الساعدي، وفيه: «…اذْهَبْ فَقَدْ مُلِّكْتَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ»-. متفق عليه. وقد تقدم تخريجه.
– حديث أنس بن مالك وفيه أن عبد الرحمن بن عوف قال لرسول الله ﷺ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً عَلَى وَزْنِ نَوَاةٍ مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ ﷺ: فَبَارَكَ اللهُ لَكَ أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ»- متفق عليه. وقد تقدم تخريجه.
– وعن أنس قال خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سُلَيْمٍ فَقَالَتْ: وَاللهِ مَا مِثْلُكَ يَا أَبَا طَلْحَةَ يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ كَافِرٌ وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، وَلَا يَحِلُّ لِي أَنْ أَتَزَوَّجَكَ فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي، وَمَا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ فَأَسْلَمَ فَكَانَ ذَلِكَ مَهْرَهَا- صحيح سنن النسائي (3341).
تقدم أن الصداق حقًا للمرأة شُرع لها لتنتفع به، ولم يرد دليل من كتاب أو سنة يحد أكثر المهر أو أقله.
ومن أهل العلم من قدره لكن لا دليل على التقدير من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس.
أقوال أهل العلم في المسألة:
جاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (2/ 136):
أقل المهر عشرة دراهم سواء كانت مضروبة أو غير مضروبة حتى يجوز وزن عشرة تبرا.
جاء في التاج والإكليل لمختصر خليل (5/ 186):
قال ابن عرفة: المشهور أن أقل المهر ربع دينار أو ثلاثة دراهم أو ما هو قيمة أحدهما، وأما أكثره فلا حد له.
جاء في الحاوي الكبير (9/ 400):
أقل المهر وأكثره غير مقدر، فهو معتبر بما تراضى عليه الزوجان من قليل وكثير، وسواء كان أكثر من مهر المثل، أو أقل،
جاء في الإنصاف (8/228):
لا يقدر أقله ولا أكثره، بل كل ما جاز أن يكون ثمنًا أو أجرة: جاز أن يكون صداقًا، هذا هو المذهب وعليه الأصحاب وقطعوا به.
قال ابن القيم في زاد المعاد (5/156):
إن المرأة إذا رضيت بعلم الزوج وحفظه للقرآن أو بعضه من مهرها، جاز ذلك وكان ما يحصل لها من انتفاعها بالقرآن والعلم هو صداقها… إلى أن قال: وأين الحكم بتقدير المهر بثلاثة دراهم أو عشرة من النص؟ والقياس إلى الحكم بصحة كون المهر ما ذكرنا نصًا وقياسًا، وليس هذا مستويًا بين هذه المرأة الموهوبة التي وهبت نفسها للنبي ﷺ وهي خالصة له من دون المؤمنين، فإن تلك وهبت نفسها هبةً مجردةً عن ولي وصداق، بخلاف ما نحن فيه، فإن النكاح بولي وصداق، وإن كان غير مالي؛ فإن المرأة جعلته عوضًا عن المال لما يرجع إليها من نفعه ولم تهب نفسها للزوج هبةً مجردةً.
تعجيل الصداق وتأجيله:
لم يكن الصحابة يكتبون صداقات، لأنهم لم يكونوا يتزوجون على مؤخر، بل يعجلون المهر وإن أخروه فهو معروف، فلما صار الناس يتزوجون على المؤخر والمدة تَطُولُ ويُنْسَى، صاروا يكتبون المؤخر وصار ذلك حجة في إثبات الصداق- مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (32/131).
– عن ابن عباس قال: لما تزوج عليُّ فاطمةَ قال له رسول الله ﷺ: «أَعْطِهَا شَيْئًا قَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ قَالَ: أَيْنَ دِرْعُكَ الْحُطَمِيَّةُ؟» صحيح سنن أبي داود (2125).
والحُطمية: منسوبة إلى حُطَمة بطن من عبد القبس كانوا يعملون الدروع، ويقال إنها الدرع السابعة التي تحطم السلاح – معالم السنن (3/185).
جاء في عون المعبود (6/114):
وفي الحديث دليلٌ على أنه ينبغي تقديم شيء للزوجة قبل الدخول بها جبرًا لخاطرها، وهو المعروف عند الناس كافة ولم يذكر في الرواية هل أعطاها درعه المذكورة أو غيرها؟
وفي شرح منتقى الأخبار (6/206):
قال الشوكاني: وظاهر الحديث أن المهر لم يكن مسمى عند العقد، وتعقب بأنه يحتمل أنه كان مسمّى عند العقد ووقع التأجيل، ولكنه ﷺ أمره بتقديم شيء منه كرامةً للمرأةِ وتأنيسًا.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (32/195):
والأولى تعجيل الصداق كله للمرأة قبل الدخول إذا أمكن فإن قدم البعض وأخر البعض فهو جائز… إلى أن قال: وكانوا يعجلون الصداق كله قبل الدخول ولم يكونوا يؤخرون منه شيئًا.