المقالة الثانية والستون_فقه النكاح

فقه النكاح

 بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن صوم المرأة بإذن زوجها إذا كان تطوعًا، وعدم إذن المرأة في بيت زوجها لأحد إلا بإذنه، والترهيب من كفران العشير، وخدمة المرأة لزوجها واجبة أم مستحبة؟ ونستكمل فقه النكاح  سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.

أولًا: استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره:

– عن سالم عن أبيه عن النبي ﷺ: «إِذَا اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَلَا يَمْنَعْهَا»– أخرجه البخاري (5238)، ومسلم (442).

وفي رواية: «لَا تَمْنَعُوا نِسَاءَكُمْ الْمَسَاجِدَ إِذَا اسْتَأْذَنَّكُمْ إِلَيْهَا» أخرجه مسلم (135- 442).

جاء في شرح مسلم (2/399):

قوله ﷺ: «لَا تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ الله» هذا وشبهه من أحاديث الباب ظاهر في أنها لا تمنع المسجد لكن بشروط، ذكرها العلماء مأخوذة من الأحاديث، وهو ألا تكون متطيبة ولا متزينة ولا ذات خلاخل يسمع صوتها ولا ثياب فاخرة ولا مختلطة بالرجال ولا شابة ونحوها ممن يفتتن بها وألا يكون في الطريق ما يخاف به مفسدة ونحوها، وهذا النهي عن منعهن من الخروج محمول على كراهة التنزيه إذا كانت المرأة ذات زوج أو سيد ووجد الشروط المذكورة فإن لم يكن لها زوج ولا سيد حرم المنع إذا وجدت الشروط.

جاء في المجموع شرح المهذب (4/ 199):

يستحب للزوج أن يأذن لها إذا استأذنته إلى المسجد للصلاة إذا كانت عجوزا لا تشتهى وأمن المفسدة عليها وعلى غيرها للأحاديث المذكورة فإن منعها لم يحرم عليه هذا مذهبنا قال البيهقي وبه قال عامة العلماء ويجاب عن حديث ” لا تمنعوا إماء الله مساجد الله ” بأنه نهي تنزيه لأن حق الزوج في ملازمة المسكن واجب فلا تتركه للفضيلة.

ثانيًا: لا تباشر المرأةُ المرأةَ فتنعتها لزوجها:

– عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال النبي ﷺ: «لَا تُبَاشِرُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ فَتَنْعَتَهَا لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا»– أخرجه البخاري (5240).

قال القابسي:

هذا أصل لمالك في سد الذرائع، فإن الحكمة في هذا النهي خشية أن يعجب الزوج الوصف المذكور فيفضي ذلك إلى تطليق الواصفة أو الافتتان بالموصوفة- فتح الباري (9/250).

ثالثًا: جواز هجر الزوجة تأديبًا:

تعريف الهجر:

الهجر لغة: مصدر هجر، وهو ضد الوصل، وهجره يهجره هجرًا وهجرانًا، والاسم الهجرة، وهجر فلان فلانًا: أي قاطعه، والهجر: الترك والإعراض- لسان العرب (5/250).

الهجر اصطلاحًا: ترك ما يلزم تعاهده، ومفارقة الإنسان غيره، إما بالبدن أو باللسان أو بالقلب- مغني المحتاج (3/259)، كشاف القناع (5/209).

حكم هجر الزوجة:

الأصل أن هجر المسلم لأخيه المسلم من غير سبب محظور، ويدخل في ذلك هجر الزوجة، فإن وجد سبب يستدعي هجر الزوجة فقد اتفق الفقهاء على جواز الهجر.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:

1- قال تعالى: ﴿وَالَّـٰتِى تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ [النساء: 34].

2- عن جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، يَقُولُ: اعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ شَهْرًا- صحيح مسلم (1084).

3- أن للهجر أثرًا كبيرًا في تأديب النساء، لأن المرأة بطبيعتها لا تصبر على بعد زوجها، فكان للهجر أثر في تأديب المرأة.

أقوال أهل العلم:

قال العلامة ابن كثير في تفسيره (1/ 468):

والنساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن، والنشوز: هو الارتفاع، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها التاركة لأمره المعرضة عنه المبغضة له فمتى ظهر له منها أمارات النشوز فليعظها وليخوفها عقاب الله في عصيانه، فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال… ثم ساق جملة من الأحاديث الدالة على حق الزوج كما سبق بيانه، ثم قال: وقوله:  ﴿ وَاهْجُرُوهُنَّ فِى الْمَضَاجِعِ ﴾ قال غير واحد: الْهَجْرُ: هو ألا يجامعها ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره.

وزاد آخرون: ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها، وقيل: يعظها فإن هي قبلت وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها من غير أن يذر نكاحها، وذلك عليها شديد.

وقال آخرون: الهجر هو ألا يضاجعها.

وعن معاوية بن حيدة القشيري أنه قال: يا رسول الله! ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوْ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْتِ » صحيح سنن أبي داود (2142).

وقوله: ﴿وَاضْرِبُوهُنَّ﴾ أي: إذا لم يرتد عن بالموعظة ولا بالهجران، فلكم أن تضربوهن ضربًا غير مبِّرح كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي ﷺ أنه قال في حجة الوداع: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»- أخرجه مسلم (1218).

وقوله تعالى: ﴿فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا﴾ أي: إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها مما أباحه الله له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك وليس له ضربها، ولا هجرانها ﴿إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا﴾ تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب، فإن الله العلي الكبير وليهن وهو منتقم ممن ظلمهن وبغى عليهن.

قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (5/178):

أمر الله أن يبدأ النساء بالموعظة أولا ثم بالهجران، فإن لم ينجَعا فالضرب فإنه هو الذي يصلحها له ويحملها على توفية حقه والضرب في هذه الآية هو ضرب الأدب غير المبُرح وهو الذي لا يكسر عظمًا ولا يشين جارحة كاللكزة ونحوها، فإن المقصود منه الصلاح لا غير.

قال الصنعاني في سبل السلام (3/ 207):

واختلف في تفسير الهجر، فالجمهور فسروه بترك الدخول عليهن والإقامة عندهن على ظاهر الآية، وهو من الهجران بمعنى البعد، وقيل: يضاجعها ويوليها ظهره وقيل: يترك جماعها، وقيل: يجامعها ولا يكلمها وقيل من الهجر الإغلاظ في القول، وقيل: من الهجار وهو الحبل الذي يربط به البعير أي أوثقوهن في البيوت قاله الطبري واستدل له ووهاه ابن العربي.

قال الشافعي: قال -عز وجل-: ﴿وَالَّـٰتِى تَخَافُونَ﴾ يحتمل إذا رأى الدلالات في إيغال المرأة وإقبالها على النشوز فكان للخوف موضع أن يعظها، فإن أبدت نشوزًا هجرها فإن أقامت عليه ضربها، وذلك أن العظة مباحة قبل الفعل المكروه إذا رؤيت أسبابه وأن لا مؤنة فيها عليها كضربها وأن العظة غير محرمة من المرء لأخيه، فكيف لامرأته والهجرة لا تكون إلا بما يحل به الهجرة؛ لأن الهجرة محرمة في غير هذا الموضع فوق ثلاث والضرب لا يكون إلا بيان الفعل فالآية في العظة والهجرة والضرب على بيان الفعل تدل على أن حالات المرأة في اختلاف ما تعاقب فيه من العظة والهجرة والضرب مختلفة، فإذا اختلفت فلا يشبه معناها إلا ما وصفت- شرح المهذب (18/135).

جاء في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 334):

ومنها ولاية التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته بأن كانت ناشزة، فله أن يؤدبها لكن على الترتيب، فيعظها أولا على الرفق واللين بأن يقول لها كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب ولا تكوني من كذا وكذا، فلعل تقبل الموعظة، فتترك النشوز، فإن نجعت فيها الموعظة، ورجعت إلى الفراش وإلا هجرها.

جاء في الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي (2/ 343):

(ووعظ) الزوج (من نشزت) النشوز الخروج عن الطاعة الواجبة كأن منعته الاستمتاع بها أو خرجت بلا إذن لمحل تعلم أنه لا يأذن فيه أو تركت حقوق الله تعالى كالغسل أو الصلاة ومنه إغلاق الباب دونه كما مر والوعظ التذكير بما يلين القلب لقبول الطاعة واجتناب المنكر(ثم) إذا لم يفد الوعظ (هجرها).

جاء في حاشية البجيرمي على الخطيب(3/ 475):

(فإن أبت) مع وعظه (إلا النشوز هجرها) في المضجع، أي يجوز له ذلك لظاهر الآية، ولأن في الهجر أثرا ظاهرا في تأديب النساء. والمراد أن يهجر فراشها فلا يضاجعها فيه.

جاء في المبدع في شرح المقنع (6/ 263):

(وإذا ظهر منها أمارات النشوز، بألا تجيبه إلى الاستمتاع، أو تجيبه متبرمة متكرهة – وعظها) بأن يذكر لها ما أوجب الله تعالى عليها من الحق، وما يلحقها من الإثم بالمخالفة، وما يسقط بذلك من النفقة والكسوة، وما يباح له من هجرها وضربها.

Pin It on Pinterest

Share This