عالم الجن

>> عالم الجن

مبحث عن عالم الجن

 

  • مقدمة.
  • المطلب الأول: أسماء وأصناف الجن.
  • المطلب الثاني: هل كان إبليس من الملائكة أم من الجان؟
  • المطلب الثالث: خصائص الجن.
  •   المطلب الرابع: هل يمكن للإنس رؤية الجن على صورهم التي خلقوا عليها؟
  • المطلب الخامس: صفات الجن.
  • المطلب السادس: الأشياء التي يعجز الجن عن فعلها.
  • المطلب السابع: الأماكن التي يسكنها الجن.
  • المطلب الثامن: هل الشياطين لا تزال تسترق السمع؟
  • المطلب التاسع: هل يمس الشيطان جسد الإنسان؟
  •  المطلب العاشر: هل يجامع الجن الإنسية؟
  • المطلب الحادي عشر: من وجد في نفسه وسواسا, هل يجوز أن يقول عندي وسواس قهري؟
  • المطلب الثاني عشر: طرق العلاج والتحصين من الشيطان وجنوده.
  • المطلب الثالث عشر: عداوة الشيطان بني آدم.
  • المطلب الرابع عشر: تحريم التشبه بالشيطان.
  • المطلب الخامس عشر: هل أرسل النبي صلى الله عليه وسلم للجن؟
  • المطلب السادس عشر: الجن يموتون ويبعثون ويحاسبون يوم القيامة.
  • المطلب السابع عشر: هل يدخل مؤمنو الجن الجنة؟
  • المطلب الثامن عشر: هل النبوة خاصة بالإنس دون الجن؟

 مقدمة

     بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:-

من أصول الإيمان أن يؤمن العبد بالغيب, قال تعالى: (الم  –  ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ  فِيهِ  هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ – الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) البقرة: (1-3), والجن من الغيب الذي ينبغي للمسلم أن يعتقد بوجوده, فجميع العقلاء من جميع الأديان يؤمن بوجود الجن وأنكرت ذلك طوائف الفلاسفة والقرامطة والباطنية والقدرية ومن شابههم. (1).

فعالم الجن عالم من العوالم التي خلقها الله سبحانه وتعالى ، فمنهم المؤمن ومنهم الكافر. وقد بين لنا ربنا تبارك وتعالى كيفية التحصن من شر الكافرين منهم، وكيف نتعامل مع مؤمنيهم. وسوف أبين في هذا البحث – بإذن الله تعالى- الأمور المتعلقة بعالم الجن، من حيث أسماء الجن وأصنافهم، وخصائصهم وصفاتهم, وهل إبليس من الملائكة أم من الجان؟ و الأشياء التي يعجز الجن عن فعلها, والأماكن التي يسكنها,  وصور من عداوة الشيطان للإنسان, وتحريم التشبه بالشيطان, ومآل مؤمني الجن، ومسهم للإنسان، وحكم الاستعانة بهم، وهل يجامع الجن الإنسية؟ وطرق العلاج والتحصن من الشياطين، وغير ذلك من مسائل، سائلةً المولى – جلا وعلا- أن ينفع به، وأن يجعله خالصًا لوجهه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

المطلب الأول: أسماء وأصناف الجن.

     الجن عند أهل الكلام وأهل العلم باللسان ينزلون على مراتب فإذا ذكروا الواحد من الجن خالصًا قالوا جني، فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا عامر، والجمع عمار، وإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا أرواح، فإن خبث وتعرم فهو شيطان، فإن زاد على ذلك فهو مارد، فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا عفريت، والجمع عفاريت- التمهيد لابن عبد البر (11/117-118).

     ونذكر ههنا أسماء وأصناف الجن:

الشيطان:

معنى الشيطان لغة:

الشيطان النون فيه أصلية، وهو من شَطَنَ.أي: تباعد… وقيل:النون فيه زائدة من شَاطَ يشيطُ، احترق غضبًا، فالشيطان مخلوق من النار كما دلت عليه الآية {وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 15].

 قال أبو عبيدة:

“الشيطان اسم لكل عارم من الجن والإنس، والحيوانات، قال تعالى: { شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ } [الأنعام: 112]، وقال: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ  } [الأنعام: 121] {وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ } [البقرة: 14] أي: أصحابهم من الجن والإنس.

وقوله: {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ } [الصافات: 65]، قيل: هي حيةٌ خفيفة الجسم، وقيل: أراد به عارم الجن فتُشبِّه به لقُبح تصورها..” (2).ا هـ

وبناء على هذا، فالشيطان من الجن الكافر، ولا يكون مؤمنًا، ويطلق أيضًا على الإنسان قال تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) الأنعام: 112 .

   قال ابن كثير – رحمه الله – في تفسيره (3/319):

     أي: لهم أعداء من شياطين الإنس والجن، ومن هؤلاء وهؤلاء، قبحهم الله ولعنهم.

   قال الشنقيطي في أضواء البيان (1/491):

     “ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ جَعَلَ لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا، وَبَيَّنَ هُنَا أَنَّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ هُمْ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ أَعْدَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مِنَ الْمُجْرِمِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ )[25 \ 31] (3)، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُجْرِمِينَ شَيَاطِينُ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، وَذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مِنَ الْإِنْسِ شَيَاطِينَ، وَصَرَّحَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: (وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ) الْآيَةَ [2 \ 14] (4) ، وَقَدْ جَاءَ  الْخَبَرُ بِذَلِكَ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ (5)، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ مُتَمَرِّدٍ شَيْطَانًا، سَوَاءٌ كَانَ مِنَ الْجِنِّ أَوْ مِنَ الْإِنْسِ كَمَا ذَكَرْنَا، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا، وَفِي الْحَدِيثِ: «الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ شَيْطَانٌ»(6) ، وَقَوْلُهُ: شَيَاطِينُ، بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: عَدُوًّا، أَوْ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِـ «جَعَلْنَا» ، وَالثَّانِي: «عَدُوًّا» ، أَيْ: جَعَلْنَا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَدُوًّا”.

   الجن:

     قال ابن منظور في لسان العرب (13/92):

    جن الشيء يجنه جنًا: ستره. وكل شيء ستر عنك فقد جن عنك. وجنه الليل يجنه جنًا وجنونًا وجن عليه يجن، بالضم، جنونًا، وأجنه: ستره؛ وبه سمي الجن لاستتارهم واختفائهم عن الأبصار، ومنه سمي الجنين لاستتاره في بطن أمه. وجن الليل وجنونه وجنانه: شدة ظلمته وادلهمامه، وقيل: اختلاط ظلامه لأن ذلك كله ساتر.ا هـ

   l عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: ” انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، وقالوا: يا قومنا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا } [الجن: 1- 2]، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ } [الجن: 1] وإنما أوحي إليه قول الجن” (7).

     قال  الكرماني في شرح صحيح البخاري (5/134):

     وفيه وجود الجن ووجود الشياطين. فان قلت الحدث يدل على أنها نوع واحد. قلت: وهو كذلك إلا أنهما صارا صنفين باعتبار أمر عرض لهما وهو الكفر والإيمان فالكافر منهم سم بالشياطين والمؤمن بالجن.

والجن منهم المؤمن ومنهم الكافر.
قال تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا ٱلۡمُسۡلِمُونَ وَمِنَّا ٱلۡقَٰسِطُونَۖ فَمَنۡ أَسۡلَمَ فَأُوْلَٰٓئِكَ تَحَرَّوۡاْ رَشَدٗا (14) وَأَمَّا ٱلۡقَٰسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَبٗا (15) } [الجن: 14، 15].

   قال ابن القيم في طريق الهجرتين (ص:415):

 قد تضمنت هذه الآيات انقسامهم إلى ثلاث طبقات: صالحين، ودون الصالحين، وكفار. وهذه الطبقات بإزاءِ طبقات بني دم فإنها ثلاثة: أبرار، ومقتصدون وكفار.

 الجان:

     قال تعالى: ( وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ ) الحجر:27

   قال الطبري في جامع البيان (17/99):

     وعني بالجانّ هاهنا: إبليس أبا الجنّ.

   قال ابن الجوزي في زاد المسير (2/533):

     قوله تعالى: وَالْجَانَّ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه مسيخ الجن  ، كما أن القردة والخنازير مسيخ الإِنس ، رواه عكرمة عن ابن عباس. والثاني: أنه أبو الجن، قاله أبو صالح عن ابن عباس، وروي عنه الضحاك أنه قال: الجانُّ أبو الجن، وليسوا بشياطين، والشياطين ولد إِبليس  لا يموتون إِلا مع إِبليس، والجن يموتون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر. والثالث: أنه إِبليس، قاله الحسن، وعطاء، وقتادة، ومقاتل.

     فإن قيل: أليس أبو الجن هو إِبليس؟ فعنه جوابان: أحدهما: أنه هو، فيكون هذا القول هو الذي قبله. والثاني: أن الجانَّ أبو الجن، وإِبليس أبو الشياطين، فبينهما إِذًا فرق على ما ذكرنا عن ابن عباس، قال العلماء: وإِنما سمي جانّاً، لتواريه عن العيون.

     قال البيضاوي في أنوار التنزيل وأسرار التأويل (3/210):

     وَالْجَانَّ أبا الجن. وقيل إبليس ويجوز أن يراد به الجنس كما هو الظاهر من الإِنسان.

 العفريت:

العفريت من كل شيء المبالغ، يقال: فلان عفريت نِفريْتُ، وعفريةٌ نفريةٌ… والعفرية: الداهية (8).

قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (13/203):

“يقال للشديد إذا كان معه خبث ودهاء: عِفر وعفرية وعفريت وعفارية… والعفريت من الشياطين: القوي المارد والتاء زائدة. ا هـ

    lقال الله تعالى: { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ  } [النمل: 39].

قال الطبري في جامع البيان (19/464):

     يقول تعالى ذكره: قال رئيس من الجنّ مارد قويّ. وللعرب فيه لغتان:

عفريت، وعفرية، فمن قال: عفرية، جمعه: عفاري، ومن قال: عفريت، جمعه: عفاريت. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.ا هــ

   l وعن أبي هُرَيرَة قال: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ جَعَلَ يَفْتِكُ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ، لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ، وَإِنَّ اللهَ أَمْكَنَنِي مِنْهُ فَذَعَتُّهُ، فَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى جَنْبِ سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ أَجْمَعُونَ – أَوْ كُلُّكُمْ – ثُمَّ ذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]، فَرَدَّهُ اللهُ خَاسِئًا»(9) (10).

   قال الحافظ في الفتح (6/459):

     عفريت متمرد من إنس أو جان مثل زبنية جماعته زبانية الزبانية.

العامر:

      عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بالمدينة نفرًا من الجن قد أسلموا، فمن رأى شيئًا من هذه العوامر فليؤذنه

ثلاثًا، فإن بدا له بعد فليقتله، فإنه شيطان»(11).

 قال ابن حجر في فتح الباري (6/349):

     قال الزهري: وهي العوامر، قال أهل اللغة عمار البيوت: سكانها من الجن، وتسميتهن عوامر لطول لبثهن في البيوت، مأخوذ من العمر وهو طول البقاء.

 أرواح:

 عن ابن عباس، أن ضمادا، قدم مكة وكان من أزد شنوءة، وكان يرقي من هذه الريح، فسمع سفهاء من أهل مكة، يقولون: إن محمدا مجنون، فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال فلقيه، فقال: يا محمد إني أرقي من هذه الريح، وإن الله يشفي على يدي من شاء، فهل لك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، أما بعد» قال: فقال: أعد علي كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات، قال: فقال: لقد سمعت قول الكهنة، وقول السحرة، وقول الشعراء، فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغن ناعوس البحر، قال: فقال: هات يدك أبايعك على الإسلام، قال: فبايعه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعلى قومك»، قال: وعلى قومي، قال: فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية، فمروا بقومه، فقال صاحب السرية للجيش: هل أصبتم من هؤلاء شيئا؟ فقال رجل من القوم: أصبت منهم مطهرة، فقال: ردوها، فإن هؤلاء قوم ضماد(12).

     قال النووي في شرح مسلم (6/157):

     والمراد بالريح هنا الجنون ومس الجن، في غير رواية مسلم يرقي من الأرواح أي الجن سموا بذلك لأنهم لا يبصرهم الناس فهم كالروح والريح.

 مارد:

    lقال تعالى: ( وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ ) الصافات: (7)

     قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (15/65):

    والمارد: العاتي من الجن والإنس، والعرب تسميه شيطانا.

     قال ابن كثير في تفسيره (7/6):

     المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه.

     قال الشيخ السعدي في تيسير الكريم الرحمن (ص:700):

     حراسة السماء عن كل شيطان مارد، يصل بتمرده إلى استماع الملأ الأعلى،

وهم الملائكة، فإذا استمعت قذفتها بالشهب الثواقب. ا هـ

   l وعن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «أتاكم رمضان شهر مبارك فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين، ولله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم»(13).

   l عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: «إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت الشياطين مردة الجن وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنان فلا يغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار»(14).

     قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (3/291):

     مردة الجن: جمع ما رد كطلبة وجهلة وهو المتجرد للشر ومنه الأمرد لتجرده من الشعر وهو تخصيص بعد تعميم أو عطف تفسير وبيان كالتتميم، وقيل الحكمة في تقييد الشياطين وتصفيدهم كيلا يوسوسوا في الصائمين. وأمارة ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن المعاصي ورجوعهم بالتوبة إلى الله تعالى.

     وأما ما يوجد خلاف ذلك في بعضهم فإنها تأثيرات من تسويلات الشياطين أغرقت في عمق تلك النفوس الشريرة وباضت في رؤوسها.

     وقيل قد خص من عموم صفدت الشياطين زعيم زمرتهم وصاحب دعوتهم لكأن الإنظار الذي سأله من الله فأجيب إليه فيقع ما يقع من المعاصي بتسويله وإغوائه. ويمكن أن يكون التقييد كناية عن ضعفهم في الإغواء والإضلال كذا في المرقاة.

 الغول:

  l   عن جابر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا غول»(15).

     قال النووي في شرح مسلم (14/217):

     قال جمهور العلماء كانت العرب تزعم أن الغيلان في الفلوات وهي جنس

من الشياطين فتتراءى للناس وتتغول تغولا أي تتلون تلونًا فتضلهم عن الطريق فتهلكهم، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم ذاك ،وقال آخرون ليس المراد بالحديث نفي وجود الغول وإنما معناه إبطال ما تزعمه العرب من تلون الغول بالصور المختلفة واغتيالها، قالوا: ومعنى لا غول أي لاتستطيع أن تضل أحدًا ويشهد له حديث آخر لا غول ولكن السعالي، قال العلماء: السعالي بالسين المفتوحة والعين المهملتين وهم سحرة الجن أي ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخيل.

     قال ابن عبد البر في التمهيد (16/267):

     قال أبو عمر: الغول وجمعها أغوال والسعلاة وجمعها السعالى: ضربان من الجن ونوع من شياطينهن، قالو:ا إنها تتصور صورًا كثيرة في القفار أمام الرفاق وغيرها فتطول مرة وتصغر أخرى وتقبح مرة وتحسن أخرى مرة في صورة بنات آدم وبني آدم ومرة في صورة الدواب وغير ذلك كيف شاءت.

     قال المناوي في فيض القدير  (6/434):

     قال الطيبي: لا التي لنفي الجنس دخلت على المذكورات ونفت ذواتها وهي غير منفية، فيوجه النفي إلى أوصافها وأحوالها التي هي مخالفة الشرع، فإن العدوى وصفر والهامة موجودة والمنفي هو ما زعمت الجاهلية، لا إثباتها فإن نفي الذات لإرادة نفي الصفات أبلغ في باب الكناية.

خنزب:

     قال ابن الأثير في النهاية في غريب الأثر (2/83):

     قال أبو عمرو: وهو لقب له. والخنزب قطعة لحم منتنة، ويروى بالكسر والضم.

   l عن عثمان بن أبي العاص، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا» قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني(16).

الخبث والخبائث:

   l عن عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنسا، يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث»(17).

     قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1/110):

     الخبث والخبائث: قيل ذكران الشياطين وإناثهم، أو الخبث الشر كله،

والخبائث الخطايا أو الأفعال المذمومة.

    قال ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (4/92):

     “الخبث” بضم الخاء قطعًا، والباء مضمومة أيضًا، ويجوز الإسكان، …وهو

جمع خبيث. “والخبائث” جمع خبيثة فكأنه استعاذ من ذكران الشياطين وإناثهم.

  قال النووي في شرح مسلم (4/71):

     واختلفوا في معناه: فقيل هو الشر وقيل الكفر وقيل الخبث: الشياطين، والخبائث: المعاصي.

 القرين:

l     عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما منكم من أحد، إلا وقد وكل به قرينه من الجن» قالوا: وإياك؟ يا رسول الله قال: «وإياي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير»(18).

 قال النووي في شرح مسلم (17/158،157):

     وفي هذا الحديث إشارة إلى التحذير من فتنة القرين ووسوسته وإغوائه

   فأعلمنا بأنه معنا لنحترز منه بحسب الإمكان.

إبليس:

l   قال تعالى: ( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) الكهف:50

     قال ابن فارس  في معجم مقاييس اللغة (1/300):

     (بلس) الباء واللام والسين أصل واحد، وما بعده فلا معول عليه.

فالأصل اليأس، يقال أبلس إذا يئس. قال الله تعالى: { إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [المؤمنون: 77] ، قالوا: ومن ذلك اشتق اسم إبليس، كأنه يئس من رحمة الله.

     قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (15/7):

     والشياطين هم مردة الإنس والجن، وجميع الجن ولد إبليس. والله أعلم.

المطلب الثاني: هل كان إبليس من الملائكة أم من الجان؟

قال الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) البقرة: (34)

وقال سبحانه: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ) الأعراف: (11)

وقال أيضا: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ – إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) الحجر: (30 – 31)

وقال: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) الكهف: (50)

وقال: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) الرحمن: (15)

l وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) (19).

للعلماء في هذه المسألة قولان:

الأول: أن إبليس كان من الملائكة, وحجتهم في ذلك قول الله تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ – إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) الحجر:(30– 31), قالوا الاستثناء في الآية متصل, فدل على أن إبليس كان من الملائكة, وفسروا قول الله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) الكهف: (50)

أي: الملائكة الذين هم خزنة الجنة.

وهذا ما ذهب إليه ابن جرير الطبري والبغوي والقاسمي وغيرهم.

الثاني: أن إبليس لم يكن من الملائكة, وحجتهم في ذلك:

1- قول الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) الكهف: (50), فدلت الآية على أنه كان من الجن.

2- الآية التي تدل على أن له ذرية – وسيأتي بيان ذلك – ومن المعلوم أن الملائكة ليس لهم ذرية.

3- قول الله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) الأعراف: (12)

فالشيطان خلق من نار, كما قال تعالى: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) الحجر: (27), وقال: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) الرحمن: (15)

وقد تقدم في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) (20).

4- قالوا الاستثناء في قوله: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ – إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) الحجر: (30 – 31) منقطع, و من ثم فإن إبليس ليس من الملائكة.

وهذا ماذهب إليه ابن كثير, والماوردي, وابن حزم, وابن تيمية, وابن القيم, والشنقيطي, وابن عثيمين, وغيرهم.

أقوال أهل العلم في المسألة:

أولا: القائلون بأن إبليس كان من الملائكة:

قال ابن جرير في تفسيره (1/325) :

في معرض تفسيره لقوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) البقرة: (34), والرد على من أنكر أن إبليس كان من الملائكة:

قال: وهذه علل تنبئ عن ضعف معرفة أهلها. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الله جل ثناؤه خلق أصناف ملائكته من أصناف من خلقه شتى، فخلق بعضا من نور. وبعضا من نار، وبعضا مما شاء من غير ذلك. وليس في ترك الله جل ثناؤه الخبر عما خلق منه ملائكته وإخباره عما خلق منه إبليس ما يوجب أن يكون إبليس خارجا عن معناهم، إذ كان جائزا أن يكون خلق صنفا من ملائكته من نار كان منهم إبليس، وأن يكون أفرد إبليس بأن خلقه من نار السموم دون سائر ملائكته. وكذلك غير مخرجه أن يكون كان من الملائكة بأن كان له نسل وذرية لما ركب فيه من الشهوة واللذة التي نزعت من سائر الملائكة لما أراد الله به من المعصية. وأما خبر الله عن أنه من الجن، فغير مدفوع أن يسمى ما اجتن من الأشياء عن الأبصار كلها جنا، كما قد ذكرنا قبل في شعر الأعشى، فيكون إبليس والملائكة منهم لاجتنانهم عن أبصار بني آدم.

قال البغوي في تفسيره (1/104) :

واختلفوا فيه، فقال ابن عباس وأكثر المفسرين: كان إبليس من الملائكة، وقال الحسن: كان من الجن ولم يكن من الملائكة لقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] ، فهو أصل الجن كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من النار والملائكة خلقوا من النور، ولأن له ذرية ولا ذرية للملائكة، والأول أصح لأن خطاب السجود كان مع الملائكة، وقوله: كان من الجن، أي: من الملائكة الذين هم خزنة الجنة.

قال القاسمي في محاسن التأويل (1/290, 291) :

للعلماء في إبليس، هل كان من الملائكة أم لا؟ قولان: أحدهما أنه كان من الملائكة. قاله ابن عباس وابن مسعود وسعيد بن المسيّب، واختاره الشيخ موفق الدين والشيخ أبو الحسن الأشعريّ وأئمة المالكية وابن جرير الطبريّ. قال البغويّ: هذا قول أكثر المفسرين، لأنه سبحانه أمر الملائكة بالسجود لآدم. قال تعالى: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ فلولا أنه من الملائكة، لما توجه الأمر إليه بالسجود، ولو لم يتوجه الأمر إليه بالسجود لم يكن عاصيا، ولما استحق الخزي والنكال. والقول الثاني أنه كان من الجن، ولم يكن من الملائكة. قاله ابن عباس، في رواية، والحسن وقتادة، واختاره الزمخشريّ وأبو البقاء العكبري والكواشيّ في تفسيره. لقوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [الكهف: 50] ، فهو أصل الجن، كما أن آدم أصل الإنس، ولأنه خلق من نار، والملائكة خلقوا من نور، ولأن له ذرية، ولا ذرية للملائكة.

قال في الكشاف: إنما تناوله الأمر، وهو للملائكة خاصة، لأن إبليس كان في صحبتهم، وكان يعبد الله عبادتهم، فلما أمروا بالسجود لآدم والتواضع له كرامة له، كان الجنيّ الذي معهم أجدر بأن يتواضع. والقول الأول هو الصحيح الذي عليه جمهور العلماء وصححه البغوي. وأجابوا عن قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ أي من الملائكة الذين هم خزنة الجنة.

ثانيا: القائلون أن إبليس ليس من الملائكة, بل هو من الجن:

قال الماوردي في الحاوي الكبير (5 / 7) :

وقال تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ – إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) الحجر: (30 – 31), وليس إبليس من الملائكة.

قال ابن حزم في المحلى ( 7 / 109) :

وقال تعالى: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ – إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) الحجر: (30 – 31),فاستثنى إبليس من الملائكة وليس منهم, بل من الجن الذين ينسلون والملائكة لا تنسل.

قال ابن كثير في تفسيره ( 9 /140) (21):

وقوله: فسجدوا إلا إبليس كان من الجن أي خانه أصله، فإنه خلق من مارج من نار، وأصل خلق الملائكة من نور.

كما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «خلقت الملائكة من نور، وخلق إبليس من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم»، فعند الحاجة نضح كل وعاء بما فيه، وخانه الطبع عند الحاجة وذلك أنه كان قد توسم بأفعال الملائكة وتشبه بهم وتعبد وتنسك، فلهذا دخل في خطابهم وعصى بالمخالفة، ونبه تعالى هاهنا على أنه من الجن أي على إنه خلق من نار، كما قال: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف: 12- ص: 76]

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (4 / 346) :

في معرض كلامه عن سجود الملائكة لآدم: ولم يكن في المأمورين بالسجود أحد من الشياطين؛ لكن أبوهم إبليس هو كان مأمورا فامتنع وعصى وجعله بعض الناس من الملائكة لدخوله في الأمر بالسجود وبعضهم من الجن لأن له قبيلا وذرية ولكونه خلق من نار والملائكة خلقوا من نور. والتحقيق: أنه كان منهم باعتبار صورته وليس منهم باعتبار أصله ولا باعتبار مثاله.

قال الشنقيطي في أضواء البيان (3 / 291) :

بعد أن ذكر الخلاف في المسألة كما تقدم: وأظهر الحجج في المسألة حجة من قال: إنه غير ملك. لأن قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ – الآية [18 \ 50] ، وهو أظهر شيء في الموضوع من نصوص الوحي. والعلم عند الله تعالى.

قال ابن عثيمين في تفسير سورة الكهف ( ص: 90) :

(اسْجُدُوا) امتثالاً لأمر الله (إِلاَّ إِبْلِيسَ) لم يسجد. وإبليس هو الشيطان ولم يسجد، بَيَّنَ الله سبب ذلك في قوله: (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) فالجملة استئنافية لبيان حال إبليس أنه كان من الجن أي: من هذا الصنف وإلا فهو أبوهم.

( فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ ) أي: خرج عن طاعة الله تعالى في أمره، وأصل الفسوق الخروج، ومنه قولهم فسقت التمرة إذا انفرجت وانفتحت.

فإذا قال قائل: إن ظاهر القرآن أن إبليس كان من الملائكة؟

فالجواب: لا، ليس ظاهر القرآن؛ لأنه قال: (إِلاَّ إِبْلِيسَ) ثم ذكر أنه (كَانَ مِنَ الْجِنِّ) ، نعم القرآن يدل على أن الأمر توجه إلى إبليس كما قد توجه إلى الملائكة، ولكن لماذا؟ قال العلماء إنه كان – أي: إبليس – يأتي إلى الملائكة ويجتمع إليهم فوجه الخطاب إلى هذا المجتمع من الملائكة الذين خُلقوا من النور ومن الشيطان الذي خُلق من النار، فرجع الملائكة إلى أصلهم والشيطان إلى أصله، وهو الاستكبار والإباء والمجادلة بالباطل لأنه أبى واستكبر وجادل.

الراجح:

والذي اعتقده أنه الصواب وأرجحه هو ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني؛ لأنه هو الذي يوافقه ظاهر الآيات والأحاديث الصحيحة كما بينا اول المسألة.

وهذا ما ذهب إليه ابن كثير والماوردي وابن حزم وابن تيمية والشنقيطي وابن العثيمين وغيرهم, والله تعالى أعلم.

المطلب الثالث: من خصائص الجن:

  أنه يرانا هو وقبيله:

     قال الله تبارك وتعالى: { إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ الأعراف: (27)

 قال ابن جرير الطبري في جامع البيان (12/396):

     يعني جل ثناؤه بذلك: إن الشيطان يراكم هو ، و”الهاء” في”إنه” عائدة

على الشيطان  و”قبيله”، يعني: وصنفه وجنسه الذي هو منه واحدٌ جمع جيلًا  وهم الجن.

 ومن خصائصه أنه قد يتشكل في صورة إنسان:

l        كما جاء في حديث أبي هُرَيرَة الذي أخرجه البخاري مُعلقًا، وفيه أنَّ أبَا هُرَيرَة قال: وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ، فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، وَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنِّي مُحْتَاجٌ، وَعَلَيَّ عِيَالٌ وَلِي حَاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قَالَ: فَخَلَّيْتُ عَنْهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وَسَيَعُودُ»، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ سَيَعُودُ، لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّهُ سَيَعُودُ، فَرَصَدْتُهُ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: دَعْنِي فَإِنِّي مُحْتَاجٌ وَعَلَيَّ عِيَالٌ، لاَ أَعُودُ، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ شَكَا حَاجَةً شَدِيدَةً، وَعِيَالًا، فَرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ»، فَرَصَدْتُهُ الثَّالِثَةَ، فَجَاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ، فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، وَهَذَا آخِرُ ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، أَنَّكَ تَزْعُمُ لاَ تَعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ قَالَ: دَعْنِي أُعَلِّمْكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهَا، قُلْتُ: مَا هُوَ؟ قَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ، فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة: 255]، حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ، فَإِنَّكَ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَنَّكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، فَأَصْبَحْتُ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ»، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، زَعَمَ أَنَّهُ يُعَلِّمُنِي كَلِمَاتٍ يَنْفَعُنِي اللَّهُ بِهَا، فَخَلَّيْتُ سَبِيلَهُ، قَالَ: «مَا هِيَ»، قُلْتُ: قَالَ لِي: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ مِنْ أَوَّلِهَا حَتَّى تَخْتِمَ الآيَةَ: {اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ} [البقرة: 255]، وَقَالَ لِي: لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبَكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ – وَكَانُوا أَحْرَصَ شَيْءٍ عَلَى الخَيْرِ – فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِبُ مُنْذُ ثَلاَثِ لَيَالٍ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ»، قَالَ: لاَ، قَالَ: «ذَاكَ شَيْطَانٌ»(22).

 ومنها: أنه يتشكل في صورة حيوان.

l  عن أَبي السَّائِبِ، مَوْلَى هِشَامِ بْنِ زُهْرَةَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ فِي بَيْتِهِ، قَالَ: فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَجَلَسْتُ أَنْتَظِرُهُ حَتَّى يَقْضِيَ صَلَاتَهُ، فَسَمِعْتُ تَحْرِيكًا فِي عَرَاجِينَ فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ، فَالْتَفَتُّ فَإِذَا حَيَّةٌ فَوَثَبْتُ لِأَقْتُلَهَا، فَأَشَارَ إِلَيَّ أَنِ اجْلِسْ فَجَلَسْتُ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَشَارَ إِلَى بَيْتٍ فِي الدَّارِ، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْتَ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: كَانَ فِيهِ فَتًى مِنَّا حَدِيثُ عَهْدٍ بِعُرْسٍ، قَالَ: فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْخَنْدَقِ فَكَانَ ذَلِكَ الْفَتَى يَسْتَأْذِنُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْصَافِ النَّهَارِ فَيَرْجِعُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاسْتَأْذَنَهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (خُذْ عَلَيْكَ سِلَاحَكَ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكَ قُرَيْظَةَ)، فَأَخَذَ الرَّجُلُ سِلَاحَهُ، ثُمَّ رَجَعَ فَإِذَا امْرَأَتُهُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ قَائِمَةً فَأَهْوَى إِلَيْهَا الرُّمْحَ لِيَطْعُنَهَا بِهِ وَأَصَابَتْهُ غَيْرَةٌ، فَقَالَتْ لَهُ: اكْفُفْ عَلَيْكَ رُمْحَكَ وَادْخُلِ الْبَيْتَ حَتَّى تَنْظُرَ مَا الَّذِي أَخْرَجَنِي، فَدَخَلَ فَإِذَا بِحَيَّةٍ عَظِيمَةٍ مُنْطَوِيَةٍ عَلَى الْفِرَاشِ فَأَهْوَى إِلَيْهَا بِالرُّمْحِ فَانْتَظَمَهَا بِهِ، ثُمَّ خَرَجَ فَرَكَزَهُ فِي الدَّارِ فَاضْطَرَبَتْ عَلَيْهِ، فَمَا يُدْرَي أَيُّهُمَا كَانَ أَسْرَعَ مَوْتًا الْحَيَّةُ أَمِ الْفَتَى، قَالَ: فَجِئْنَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ وَقُلْنَا: ادْعُ اللهَ يُحْيِيهِ لَنَا، فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِصَاحِبِكُمْ»، ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ، فَاقْتُلُوهُ، فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» (23).

 إمكان رؤية الإنس للجن في أكثر من صورة:

     اعلم أن مذهب أهل السنة والجماعة هو إمكان رؤية الإنس للجن، وحجتهم في ذلك الأحاديث التي أوردتها آنفًا، وأنكرت المعتزلة إمكان رؤية الإنس للجن (24) .

قال الخطابي في أعلام الحديث ( 1 / 399 – 400) :

بعد أن ذكر حديث أبي هريرة(25) .

  وفيه دليل على أن رؤية البشر الجن غير مستحيلة، والجن أجسام لطيفة، والجسم وإن لطف فإن دركه غير ممتنع أصلاً….. فأما قول الله تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم} فإن ذلك حكم الأعم الأغلب من أحوال بني آدم، امتحنهم الله بذلك، وابتلاهم ليفزعوا إليه ويستعيذوا به من شرهم، ويطلبوا الأمان من غائلتهم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (15 / 7):

الذي في القرآن أنهم يرون الإنس من حيث لا يراهم الإنس وهذا حق يقتضي أنهم يرون الإنس في حال لا يراهم الإنس فيها وليس فيه أنهم لا يراهم أحد من الإنس بحال؛ بل قد يراهم الصالحون وغير الصالحين أيضا؛ لكن لا يرونهم في كل حال.

    وقال أيضا – في مجموع الفتاوى (19/44):

     الجن يتصورون في صور الإنس والبهائم فيتصورون في صور الحيات والعقارب وغيرها وفي صور الإبل والبقر والغنم والخيل والبغال والحمير وفي صور الطير وفي صور بني آدم كما أتى الشيطان قريشًا في صورة سراقة بن مالك بن جعشم (26) لما أرادوا الخروج إلى بدر قال تعالى: { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ } إلى قوله: {َاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(27). وكما روي أنه تصور في صورة شيخ نجدي لما اجتمعوا بدار الندوة هل يقتلوا الرسول أو يحبسونه أو يخرجونه؟(28) كما قال تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}(29)  فإذا كان حيات البيوت قد تكون جنًا فتؤذن ثلاثا(30) فإن ذهبت وإلا قتلت فإنها إن كانت حية قتلت، وإن كانت جنية فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك، والعادي هو الصائل الذي يجوز دفعه بما يدفع ضرره ولو كان قتلًا، وأما قتلهم بدون سبب يبيح ذلك فلا يجوز.

المطلب الرابع: هل يمكن للإنس رؤية الجن على صورهم التي خلقوا عليها؟

اختلف العلماء في إمكان رؤية الإنس الجن على صورهم التي خلقوا عليها.

فذهب فريق إلى نفي رؤية الإنس الجن على صورهم الأصلية, وحجتهم في ذلك قول الله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الأعراف: (27), أما إذا تشكلوا في غير صورهم أمكن رؤيتهم, كما دلت الأحاديث التي أورتها في المسألة على  ذلك, أما صورهم الأصلية, فهذا مما اختص به الأنبياء.

وهذا مذهب الشافعي, والحافظ بن حجر, وابن بطال, والبدر العيني, والقاضي عياض.

وقال آخرون: لا مانع من رؤية الإنس والجن على صورهم التي خلقوا عليها, وحجتهم في ذلك حديث أبي هريرة المتقدم في المسألة, وهذا مذهب النووي.

قال الشافعي في الجامع لأحكام القرآن (2/194) جمع البيهقي:

من زعم من أهل العدالة انه يرى الجن أبطلت شهادته؛ لأن الله عز وجل يقول: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الأعراف: (27), إلا أن يكون نبيًا.

قال ابن حجر في فتح الباري (6 / 396):

بعد أن ذكر كلام الشافعي:

وهذا محمول على من يدعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها, وأما من ادّعى أنه يرى شيئا منهم بعد ان يتطور على صور شتى من الحيوان فلا يقدح فيه, وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور.

قال ابن بطال في شرحه لصحيح البخاري ( 2 / 109 ) :

ورؤيته عليه السلام للعفريت هو ما خُصَّ به كما خُصَّ برؤية الملائكة، فقد أخبر أن جبريل له ستمائة جناح….. ورأى الشيطان فى هذه الليلة وأقدر عليه لتجسمه؛ لأن الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنه ألقى فى روعه ما وهب سليمان، فلم ينفذ ما قوى عليه من حبسه رغبة عما أراد سليمان الانفراد به، وحرصًا على إجابة الله دعوته، وأما غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الناس فلا يمكن من هذا ولا يرى أحد الشيطان على صورته غير الرسول؛ لأن الله يقول: (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) [الأعراف: 27] ، لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل فى غير شكله، وتصور فى غير صورته، كما تشكل الذى طعنه الأنصارى حين وجده فى بيته فى صورة حية، فقتلهُ، فمات الرجل به.

وهذا ما ذهب إليه البدر العيني والقاضي عياض(31).

قال النووي في شرح مسلم: ( 3 / 34):

قوله صلى الله عليه وسلم (فلقد هممت أن أربطه حتى تصبحوا تنظرون إليه أجمعون أو كلكم) فيه دليل على أن الجن موجودون وأنهم قد يراهم بعض الآدميين.

 وأما قول الله تعالى إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم فمحمول على الغالب فلو كانت رؤيتهم محالا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال من رؤيته إياه ومن أنه كان يربطه لينظروا كلهم إليه ويلعب به ولدان أهل المدينة, قال القاضي: وقيل إن رؤيتهم على خلقهم وصورهم الأصلية ممتنعة لظاهر الآية إلا للأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن خرقت له العادة وإنما يراهم بنو آدم في صور غير صورهم كما جاء في الآثار.

 قلت (النووي) : هذه دعوى مجردة فإن لم يصح لها مستند فهي مردودة.

@ الراجح: هو ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من نفي رؤية الإنس والجن على صورهم التي خلقوا عليها, لقوله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) الأعراف: (27), أما إذا تشكلوا على غير صورهم أمكن للإنس رؤيتهم وقد دلت الأحاديث على ذلك, وعلى هذا فالآية تحمل على منع رؤيتهم في حال دون حال, وهذا القول يجمع بين الآية والأحاديث, والله تعالى أعلم

المطلب الخامس: صفات الجن :

الجن له صفات كسائر مخلوقات الله تعالى, منها:

أنه خلق من نار:

وقد قال الله تبارك وتعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) الأعراف: 12

وقال سبحانه: (وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ) الحجر: 27

وقال أيضا: (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ) الرحمن: 15

l وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم) (32).

 هل للجن ذرية؟

نعم, له ذرية كما دل الكتاب العزيز على ذلك.

قال الله تعالى: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ۚ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) الكهف: (50)

واختلف العلماء في كيفية حدوث هذه الذرية, هل هم من صلبه؟ والبعض قال أن لا ذرية له. والذي ينبغي التعويل عليه ما دل عليه الدليل من الكتاب أو السنة, والآية صريحة الدلالة على أن لإبليس ذرية.

قال الشنقيطي في أضواء البيان (3/ 292) :

وقوله في هذه الآية الكريمة: وذريته [18 \ 50] ، دليل على أن للشيطان ذرية. فادعاء أنه لا ذرية له مناقض لهذه الآية مناقضة صريحة كما ترى. وكل ما ناقض صريح القرآن فهو باطل بلا شك! ولكن طريقة وجود نسله هل هي عن تزويج أو غيره، لا دليل عليها من نص صريح، والعلماء مختلفون فيها.

وقال ابن عثيمين في تفسير سورة الكهف ( ص: 92) :

قوله: (وَذُرِّيَّتَهُ) أي: من ولدوا منه، سُئل بعض السلف – سأله ناس من المتعمقين – فقالوا هل للشيطان زوجة؟ قال إني لم أحضر العقد، وهذا السؤال لا داعي له، نحن نؤمن بأن له ذرية أما من زوجة أو من غير زوجة ما ندري، أليس الله قد خلق حواء من آدم؟ بلى، فيجوز أن الله خلق ذرية إبليس منه كما خلق حواء من آدم.

وهذه المسائل – مسائل الغيب – لا ينبغي للإنسان أن يورد عليها شيئاً يزيد على ما جاء في النص؛ لأن هذه الأمور فوق مستوانا، نحن نؤمن بأن لإبليس ذرية ولكن هل يلزمنا أن نؤمن بأن له زوجة؟

الجواب: لا يلزمنا.

هل الجن يأكلون ويشربون؟

نعم, قد دلت السنة المطهرة على أن الجن يأكلون, وأن الشيطان يأكل ويشرب, ويستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه.

l فعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال: «من هذا؟» فقال: أنا أبو هريرة، فقال: «ابغني أحجارا أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة». فأتيته بأحجار أحملها في طرف ثوبي، حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: «هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم، ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاما» (33).

l وعن أبي بكر بن عبيد الله بن عبد الله بن عمر، عن جده ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، وإذا شرب فليشرب بيمينه فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله»(34).

l وعن جابر بن عبد الله: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا دخل الرجلُ بيتَه ، فذكر اللهَ عند دخولِه وعند طعامِه ، قال الشيطانُ : لا مَبيتَ لكم ولا عشاءَ . وإذا دخل فلم يذكر اللهَ عند دخولِه ، قال الشيطانُ : أدركتُم المَبيتَ . وإذا لم يذكر اللهَ عند طعامِه ، قال : أدركتُم المَبيتَ والعَشاءَ ) (35).

l وعن حذيفة قال: كنا إذا حضَرنا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ طعامًا لم نضعْ أيديَنا ، حتى يبدأ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ، فيضع يدَه . وإنا حضرْنا معه ، مرةً ، طعامًا . فجاءت جاريةٌ كأنها تُدفعُ . فذهبتْ لتضعَ يدَها في الطعامِ، فأخذ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بيدِها . ثم جاء أعرابيٌّ كأنما يُدفَعُ . فأخذ بيدِه . فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ( إنَّ الشيطانَ يستحِلُّ الطعامَ أن لا يُذكَرَ اسمُ اللهِ عليه . وإنه جاء بهذه الجاريةِ لِيستحِلَّ بها . فأخذتُ بيدِها . فجاء بهذا الأعرابيِّ لِيستحِلَّ به . فأخذتُ بيدِه . والذي نفسي بيدِه ! إنَّ يدَه في يدي مع يدِها ) (36).

قال النووي في شرح مسلم (7/211) :

وقوله صلى الله عليه وسلم (إن يده في يدي مع يدها) هكذا هو في معظم الأصول يدها وفي بعضها يدهما فهذا ظاهر والتثنية تعود إلى الجارية والأعرابي ومعناه أن يدي في يد الشيطان مع يد الجارية والأعرابي وأما على رواية يدها بالإفراد فيعود الضمير على الجارية وقد حكى القاضي عياض رضي الله عنه أن الوجه التثنية والظاهر أن رواية الإفراد أيضا مستقيمة فان إثبات يدها لاينفى يد الأعرابي وإذا صحت الرواية بالإفراد وجب قبولها وتأويلها على ما ذكرناه والله أعلم.

 قوله صلى الله عليه وسلم (إن الشيطان يستحل الطعام أن لايذكر اسم الله تعالى عليه) معنى يستحل يتمكن من أكله ومعناه أنه يتمكن من أكل الطعام إذا شرع فيه إنسان بغير ذكر الله تعالى وأما إذا لم يشرع فيه أحد فلايتمكن وإن كان جماعة فذكر اسم الله بعضهم دون بعض لم يتمكن منه ثم الصواب الذي عليه جماهير العلماء من السلف والخلف من المحدثين والفقهاء والمتكلمين أن هذا الحديث وشبهه من الأحاديث الواردة في أكل الشيطان محمولة على ظواهرها وأن الشيطان يأكل حقيقة إذ العقل لايحيله والشرع لم ينكره بل أثبته فوجب قبوله واعتقاده والله أعلم.

ومن صفات الشيطان أن له قرونا:

l عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قرني شيطان، أو الشيطان» (37).

l وعن العلاء بن عبد الرحمن، أنه دخل على أنس بن مالك في داره بالبصرة، حين انصرف من الظهر، وداره بجنب المسجد، فلما دخلنا عليه، قال: أصليتم العصر؟ فقلنا له: إنما انصرفنا الساعة من الظهر، قال: فصلوا العصر، فقمنا، فصلينا، فلما انصرفنا، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقرها أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا»(38).

l وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير إلى المشرق فقال: «ها إن الفتنة ها هنا، إن الفتنة ها هنا من حيث يطلع قرن الشيطان»(39).

قال الحافظ في الفتح (6 / 397 ) :

فقوله تطلع بين قرني الشيطان أي بالنسبة إلى من يشاهد الشمس عند طلوعها فلو شاهد الشيطان لرآه منتصبا عندها.

قال النووي في شرح مسلم (3 / 375 ) :

المراد بقرني الشيطان حزبه وأتباعه وقيل قوته وغلبته وانتشار فساده وقيل القرنان ناحيتا الرأس وأنه على ظاهره وهذا هو الأقوى قالوا ومعناه أنه يدني رأسه إلى الشمس في هذه الأوقات ليكون الساجدون لها من الكفار كالساجدين له في الصورة وحينئذ يكون له ولبنيه تسلط ظاهر وتمكن من أن يلبسوا على المصلين صلاتهم فكرهت الصلاة حينئذ صيانة لها كما كرهت في الأماكن التي هي مأوى الشيطان.

سرعة الحركة والانتشار والقدرة على الأعمال الشاقة:

قال الله جل ثناؤه: (وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) سبأ : (12)

وقال تعالى: (قَالَ عِفْرِيتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ ۖ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ) النمل: (39)

قال السعدي في تفسيره (ص: 605) :

 {قَالَ عِفْريتٌ مِنَ الْجِنِّ} والعفريت: هو القوي النشيط جدا: {أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} والظاهر أن سليمان إذ ذاك في الشام فيكون بينه وبين سبأ نحو مسيرة أربعة أشهر شهران ذهابا وشهران إيابا، ومع ذلك يقول هذا العفريت: أنا التزم بالمجيء به على كبره وثقله، وبعده قبل أن تقوم من مجلسك الذي أنت فيه. والمعتاد من المجالس الطويلة أن تكون معظم الضحى نحو ثلث يوم هذا نهاية المعتاد، وقد يكون دون ذلك أو أكثر. ا هـ

وقال تبارك وتعالى: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا) الجن: (8)

l وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانَ جُنحُ اللَّيلِ أو أمسَيتُم فكفُّوا صِبيانَكم فإنَّ الشَّياطينَ تنتشِرُ حينئذٍ فإذا ذهبَ ساعةٌ منَ اللَّيلِ فخلُّوهم فأغلقوا الأبوابَ واذكروا اسمَ اللَّهِ فإنَّ الشَّيطانَ لا يفتَحُ بابًا مغلقًا وأوكوا قِرَبَكم واذكروا اسمَ اللَّهِ وخَمِّروا آنيتَكم واذكروا اسمَ اللَّهِ ولو أن تعرُضوا عليها شيئًا وأطفِئوا مصابيحَكم) (40).
ومنها: أن بعض الكائنات تراه:

l عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله، فإنها رأت ملكا، وإذا سمعتم نهيق الحمار فتعوذوا بالله من الشيطان، فإنه رأى شيطانا) (41).

قال ابن الملقن في التوضيح لشرح الجامع الصحيح (19 / 243, 244) باختصار:

فيه دلالة أن الله جعل للديك إدراكًا، كما جعله للحمير، وأن كل نوع من الملائكة والشياطين موجودان، وهذا معلوم في الشرع قطعًا، والمنكر لشيء منها كافر، كما نبه عليه القرطبي قال: وكأنه إنما أمر بالدعاء عند صراخ الديكة؛ لتؤمن الملائكة على ذلك؛ ولتستغفر له وتشهد له بالتضرع والإخلاص فتتوافق الدعوتان، فتقع الإجابة. ومنه يؤخذ استحباب الدعاء عند حضور الصالحين. وأما التعوذ بعد نهيق الحمار؛ فلأن الشيطان إذا حضر يخاف شره فيتعوذ منه.

المطلب السادس: الأشياء التي يعجز الجن عن فعلها:

الله جل وعلا لم يعط للجن القدرة المطلقة على فعل ما يشاءون, وإنما أعطى لهم بعض القدرات لحكمة وأعجزهم عن فعل أشياء كثيرة, ومنها:

 عدم القدرة على أن يأتوا بالمعجزات والآيات البينات كرسل الله تعالى:

قال تعالى: (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) الإسراء: (88)

قال تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ – وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ – إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ – فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ)

 الشعراء: (210-213)

قال ابن كثير في تفسير ( 6 / 148 , 149) :

يقول تعالى مخبرا عن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله وما تنزلت به الشياطين ثم ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها أنه ما ينبغي لهم، أي ليس هو من بغيتهم ولا من طلبتهم، لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة، ولهذا قال تعالى: وما ينبغي لهم. وقوله تعالى: وما يستطيعون أي ولو انبغى لهم ما استطاعوا ذلك، قال الله تعالى: ( لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ )[الحشر: 21] ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته، لما وصلوا إلى ذلك، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله، لأن السماء ملئت حرسا شديدا وشهبا في مدة إنزال القرآن على رسول الله، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه لئلا يشتبه الأمر، وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله.

 ومنها: لا يستطيعون التمثل في صورة النبي صلى الله عليه وسلم:

l عن أبي هريرة، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رآني في المنام فسيراني في اليقظة، ولا يتمثل الشيطان بي) (42).

 ويعجزون عن النفوذ من أقطار السماوات والأرض:

قال تبارك وتعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا ۚ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) الرحمن: (33)

قال الشوكاني في فتح القدير ( 5 / 165 ):

 أي: إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات والأرض ونواحيهما هربا من قضاء الله وقدره فانفذوا منها وخلصوا أنفسكم، يقال: نفذ الشيء من الشيء إذا خلص منه كما يخلص السهم لا تنفذون إلا بسلطان أي: لا تقدرون على النفوذ إلا بقوة وقهر، ولا قوة لكم على ذلك ولا قدرة، والسلطان: القوة التي يتسلط بها صاحبها على الأمر، والأمر بالنفوذ أمر تعجيز.

 ويعجزون عن فتح الأبواب المغلقة:

l فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا كان جنح الليل، أو أمسيتم، فكفوا صبيانكم، فإن الشياطين تنتشر حينئذ، فإذا ذهبت ساعة من الليل فخلوهم، وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله، فإن الشيطان لا يفتح بابا مغلقا»(43).

المطلب السابع: الأماكن التي يسكنها الجن :

هذه الأماكن لا تُعرف إلا بنص من القرآن والسنة, فإذا عرفها العبد ينبغي له أن يتحصن عند تواجده فيها احترازا من شر الشياطين, ومن هذه الأماكن:

المـاء:

 l كما جاء في صحيح مسلم  من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئا، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت ” (44).

قال النووي في شرح مسلم ( 9 / 173) :

العرش هو سرير الملك, ومعناه: أن مركزه البحر, ومنه يبعث سراياه في نواحي الأرض.

 الأماكن المستقذرة:

كالخلاء, وقد علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستعيذ بالله من شر الشيطان عند دخول الخلاء.

l عن عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنسا، يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث (45).

 الأسواق:

يكثر تواجدهم في الأسواق.

l قال سلمان: لا تكونن إن استطعت، أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإنها معركة الشيطان، وبها ينصب رايته. قال: وأنبئت أن جبريل عليه السلام، أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم، وعنده أم سلمة، قال: فجعل يتحدث، ثم قام فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: «من هذا؟» أو كما قال: قالت: هذا دحية، قال: فقالت أم سلمة: ايم الله ما حسبته إلا إياه، حتى سمعت خطبة نبي الله صلى الله عليه وسلم – يخبر خبرنا أو كما قال: قال: فقلت لأبي عثمان: ممن سمعت هذا؟ قال: من أسامة بن زيد (46).
قال القاضي عياض في إكمال المعلم بفوائد مسلم (7/477) :

وقوله فى السوق: ” معركة الشيطان “: المعركة موضع القتال لتعارك الأبطال فيها، ومصارعة بعضهم بعضاً، يشبه السوق وفعل الشيطان بأهلها، ونيله منهم فيها أكثر مما ينال فى غيرها، من حمله على الخديعة، والخلابة، والعقود الفاسدة، والأيمان الكاذبة، وبلوغه أهله فيهم بمعركة الحرب، ومن يصرع فيها. وقوله: ” وبها ينصب رايته “: إعلاماً بثبوته هناك ومجتمع أعوانه إليك، وأن السوق مطية إغوائه، ومقام نزغه وكيده.

قال أبو العباس في المفهم (6 / 81) :

وإنما كانت الأسواق أبغض البلاد إلى الله ؛ لأنها مخصوصة بطلب الدنيا ، ومخادعة العباد ، والإعراض عن ذكر الله ؛ ولأنها مظان الأيمان الفاجرة ، وهي معركة الشيطان ، وبها يركز رايته.

المطلب الثامن: هل الشياطين لا تزال تسترق السمع؟

     في المسألة نزاع بين أهل العلم:

      sفذهب فريق: إلى أن الشيطان لا يسترق السمع لكنه يخطف الكلمة من

الملائكة، فإما يتبعه شهاب ثاقب فيحرقه، وإما لا يلحقه فيسترق السمع وينزل بها، وحجتهم:

   l قوله تعالى: (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ  – وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ  – لَّايَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ  – دُحُورًا  وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ  – إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ) الصافات: [ 6 – 10]

     قال ابن كثير في تفسيره ( 7 /  6-7 ) :

     قوله ها هنا:{ وَحِفْظًا } تقديره: وحفظناها حفظًا،{ مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ  } يعني:المتمرد العاتي إذا أراد أن يسترق السمع، أتاه شهاب ثاقب فأحرقه، ولهذا قال: { لَّايَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَىٰ } أي: لئلا يصلوا  إلى الملأ الأعلى، وهي السماوات ومن فيها من الملائكة، إذا تكلموا بما يوحيه الله مما يقوله من شرعه وقدره، كما تقدم بيان ذلك في الأحاديث التي أوردناها عند قوله تعالى:{ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ:23]

     وقوله: { إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ } أي: إلا من اختطف من الشياطين الخطفة، وهي الكلمة يسمعها من السماء فيلقيها إلى الذي تحته، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها بقدر الله قبل أن

يأتيه الشهاب فيحرقه، فيذهب بها الآخر إلى الكاهن، كما تقدم في الحديث (47)،

ولهذا قال:{ إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } أي: مستنير.

قال السعدي في تفسير الكريم الرحمن (ص: 700  ) :

     ولولا أنه [تعالى] استثنى، لكان ذلك دليلًا على أنهم لا يستمعون شيئًا أصلًا ولكن قال: {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي: إلا من تلقف من الشياطين المردة، الكلمة الواحدة على وجه الخفية والسرقة {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} تارة يدركه قبل أن يوصلها إلى أوليائه، فينقطع خبر السماء، وتارة يخبر بها قبل أن يدركه الشهاب، فيكذبون معها مائة كذبة يروجونها بسبب الكلمة التي سمعت من السماء.ا هـ

     l وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كأنه سلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال: الحق، وهو العلي الكبير، فيسمعها مسترق السمع، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض – ووصف سفيان بكفه فحرفها، وبدد بين أصابعه – فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدرك الشهاب قبل أن يلقيها، وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فيقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا: كذا وكذا، فيصدق بتلك الكلمة التي سمع من السماء “(48).

l عن عائشة رضي الله عنهما قالت: سأل أناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان، فقال: «إنهم ليسوا بشيء»، فقالوا: يا رسول الله، فإنهم يحدثون بالشيء يكون حقًا، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني، فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاجة، فيخلطون فيه أكثر من مائة كذبة»(49).

 قال الحافظ في فتح الباري  (10/219):

    قوله يخطفها الجني كذا للأكثر وفي رواية السرخسي يخطفها من الجني، أي الكاهن يخطفها من الجني، أو الجني الذي يلقى الكاهن يخطفها من جني آخر فوقه، ويخطفها بخاء معجمة وطاء مفتوحة وقد تكسر بعدها فاء ومعناه الأخذ بسرعة.

   s وقال آخرون: أنهم لا يستطيعون استراق السمع بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم مطلقا وحجتهم:

   l قوله تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ  – وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ  – إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) الشعراء: [ 210 – 212 ]

   l وقد قال أهل التفسير أن الشياطين معزولون عن سماع القرآن لا كلام الملائكة، والسابق والسياق يدلان على هذا.

     قال الطبري في تفسيره ( 19 / 403 – 404 ) :

     يقول تعالى ذكره: وما تنزلت بهذا القرآن الشياطين على محمد، ولكنه ينزل به الروح الأمين. (وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ) يقول: وما ينبغي للشياطين أن ينزلوا به عليه، ولا يصلح لهم ذلك. (وَمَا يَسْتَطِيعُونَ) يقول: وما يستطيعون أن يتنزلوا به، لأنهم لا يصلون إلى استماعه في المكان الذي هو به من السماء. (إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ) يقول: إن الشياطين عن سمع القرآن من المكان الذي هو به من السماء لمعزولون، فكيف يستطيعون أن يتنزلوا به.

     قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (10/11):

     واختلف في الشهاب هل يقتل أم لا. فقال ابن عباس: الشهاب يجرح ويحرق ويخبل ولا يقتل. وقال الحسن وطائفة: يقتل، فعلى هذا القول في قتلهم بالشهب قبل إلقاء السمع إلى الجن قولان: أحدهما- أنهم يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم، فعلى هذا لا تصل أخبار السماء إلى غير الأنبياء، ولذلك انقطعت الكهانة. والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن، ولذلك ما يعودون إلى استراقه، ولو لم يصل لانقطع الاستراق وانقطع الإحراق، ذكره الماوردي، قلت والقول الأول أصح.

الراجح

     ما تطمئن إليه النفس وينشرح له الصدر هو القول الأول لأهل العلم؛ لأنه يوافق الاستثناء الذي جاء في آية سورة سبأ في قوله: “إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ”، وكذا حديث أبي هريرة المتقدم وهو صحيح وصريح في إثبات أن الجن يخطف بعض الكلمات التي يسمعها من الملائكة، فربما أدركه الشهاب فأحرقه، أو ربما لم يدركه فيلقيها إلى من تحته من الجن كما جاء في الحديث.

     أما أن يسمع الجن القرآن في الملأ الأعلى فهذا ممتنع لقوله تعالى “إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ”، وبهذا نكون قد جمعنا بين أدلة الكتاب والسنة، والله تعالى أعلى وأعلم.

المطلب التاسع: هل يمس الشيطان جسد الإنسان؟

     نعم، وهذا اعتقاد أهل السنة والجماعة، وخالفهم في ذلك المعتزلة وغيرهم(50) ممن ينكرون مس الشيطان للإنسان، ومن أدلة أهل السنة:

     قوله سبحانه:{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ  ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا  وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا  فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ  وَمَنْ عَادَ فَأُولَٰئكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].

     قال القرطبي في تفسيره (3/355) :

     في هذه الآية دليل على فساد إنكار من أنكر الصرع من جهة الجن، وزعم أنه من فعل الطبائع، وأن الشيطان لا يسلك في الإنسان ولا يكون منه مس.

     قال ابن كثير في تفسيره (1/546) :

     أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه، وتخبط الشيطان له.

     قال القاسمي  في محاسن التأويل (2/219):

     في القاموس خبطه ضربه شديدًا،كتخبطه واختبطه. وفي (العباب) كل من ضربه بيده فصرعه فقد خبطه وتخبطه.وأصل المسّ باليد، ثم استعير للجنون،لأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه.

     قال الماوردي في النكت والعيون ( 1 / 348):

     قال ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والحسن: لا يقومون يوم القيامة من

قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ،يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس، يعني الجنون.

    قال السعدي في تيسير الكريم الرحمن ( ص: 116 ) :

     { إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ } أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال.

     4 وقد جاءت أدلة من السنة المطهرة فيها إثبات أن الشيطان يمس جسد الإنسان:

   l الدليل الأول: عن عثمان بن أبي العاص قال: (لمَّا استعمَلني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ على الطَّائفِ جعلَ يعرضُ لي شيءٌ في صلاتي حتَّى ما أدري ما أُصلِّي، فلمَّا رأيتُ ذلِكَ رحلتُ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ؛ فقال:ابنَ أبي العاصِ؟قلت: نعَم يا رسولَ اللَّهِ. قال: ما جاءَ بِك؟ قلت: يا رسولَ اللَّهِ، عرضَ لي شيءٌ في صلواتي حتَّى ما أدري ما أصلِّي قال: ذاكَ الشَّيطانُ ادنُه فدنوتُ منْهُ، فجلستُ على صدورِ قدميَّ، قال: فضربَ صدري بيدِهِ، وتفلَ في فَمي وقال: اخرُجْ عدوَّ اللَّهِ ففعلَ ذلِكَ ثلاثَ مرَّاتٍ، ثمَّ قال: الحق بعَملِكَ قال: فقالَ عُثمان: فلعمري ما أحسَبُهُ خالطني بعدُ)(51).
l الدليل الثاني: وعَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ فَلَمَّا رَجَعَتِ انْطَلَقَ مَعَهَا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلاَنِ مِنَ الأَنْصَارِ فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: «إِنَّمَا هِيَ صَفِيَّةُ»، قَالاَ: سُبْحَانَ اللَّهِ،قَالَ:«إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ»(52).

   l الدليل الثالث: وعن عطاء بن أبي رباح رضي الله عنه:( قال لي ابنُ عباسٍ:ألا أُريك امرأةً من أهلِ الجنةِ ؟ قلتُ بلى .قال :هذه المرأةُ السوداءُ.أتتِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالت ” إني أُصْرَعُ . وإني أتكشَّفُ . فادعُ اللهَ لي . قال ” إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنةُ . وإن شئتِ دعوتُ اللهَ أن يعافيكِ ” . قالت: أصبرُ . قالت : فإني أتكشَّفُ . فادعُ اللهَ أن لا أتكشَّفُ ، فدعا لها.)(53).

     قال ابن حجر في الفتح (10 / 119) في معرض شرحه لحديث المراة التي تصرع:

     قوله: (باب فضل من يصرع من الريح) انحباس الريح قد يكون سببًا للصرع وهي علة تمنع الأعضاء الرئيسة عن انفعالها منعًا غير تام…. إلى أن قال: وقد يكون الصرع من الجن ولا يقع إلا من النفوس الخبيثة منهم إما لاستحسان بعض الصور الإنسية وإما لإيقاع الأذية به، والأول هو الذي يثبته جميع الأطباء ويذكرون علاجه والثاني يجحده كثير منهم.

   l الدليل الرابع: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا كانَ جُنحُ اللَّيلِ أو أمسَيتُم فكفُّوا صِبيانَكم فإنَّ الشَّياطينَ تنتشِرُ حينئذٍ فإذا ذهبَ ساعةٌ منَ اللَّيلِ فخلُّوهم فأغلقوا الأبوابَ واذكروا اسمَ اللَّهِ فإنَّ الشَّيطانَ لا يفتَحُ بابًا مغلقًا وأوكوا قِرَبَكم واذكروا اسمَ اللَّهِ وخَمِّروا آنيتَكم واذكروا اسمَ اللَّهِ ولو أن  تعرُضوا عليها شيئًا وأطفِئوا مصابيحَكم)(54).

    قال النووي في شرحه على مسلم: ( 7 / 205) :

     هذا الحديث فيه جمل من أنواع الخير والأدب الجامعة لمصالح الآخرة والدنيا، فأمر صلى الله عليه وسلم بهذه الآداب التي هي سبب للسلامة من إيذاء الشيطان، وجعل الله عز وجل هذه الأسباب أسبابًا للسلامة من إيذائه فلا يقدر على كشف إناء ولا حل سقاء ولا فتح باب ولا إيذاء صبي وغيره إذا وجدت هذه الأسباب، وهذا كما جاء في الحديث الصحيح(55) إن العبد إذا سمى عند دخول بيته قال الشيطان لا مبيت أي لاسلطان لنا على المبيت عند هؤلاء وكذلك إذا قال الرجل عند جماع أهله اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا(56) كان سبب سلامة المولود من ضرر الشيطان وكذلك شبه هذا مما هو  مشهور في الأحاديث الصحيحة.

المطلب العاشر: هل يجامع الجن الإنسية؟

     لا يوجد دليل صريح، لكن استنبط العلماء إمكانية ذلك من قوله تعالى: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ) [الرحمن: 74 ].

     قال أبو جعفر  الطبري في تفسيره: (23 / 65):

     عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، قال: إذا جامع الرجل ولم يسمّ، انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه، فذلك قوله: (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) .

     قال القرطبي في تفسيره (17 / 181):

     يعلمك أن نساء الآدميات قد يطمثهن الجان، وأن الحور العين قد برين من هذا العيب ونزهن، والطمث الجماع.

     قال ابن كثير في تفسيره (7/504):

     بل هن أبكار عرب أتراب، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن.

    قال ابن الجوي في زاد المسير  (4/214):

     قال الشعبي: هُنَّ من نساء الدنيا لَمْ يَمْسَسْهُنَّ مذ أُنشئن خَلْقٌ. وفي الآية دليل على أن الجِنِّيَّ يَغْشَى المرأة كالإنسيّ.

     قال الشيخ السعدي في تفسير الكريم الرحمن (831):

     لم ينلهن قبلهم أحد من الإنس والجن، بل هن أبكار عرب، متحببات إلى أزواجهن، بحسن التبعل والتغنج والملاحة والدلال. ا هـ

   l عن ابن عباس قال: قال النبي r: «أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ بِاسْمِ اللهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا»(57).

    قال الحافظ ابن حجر  في فتح الباري (9/229):

     وقيل لم يضره بمشاركة أبيه في جماع أمه كما جاء عن مجاهد أن الذي يجامع ولا يسمي يلتف الشيطان على إحليله فيجامع معه ولعل هذا أقرب الأجوبة

     قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (19/39):

     وصرعهم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق كما يتفق للإنس مع الإنس .

     قال المرداوي في الإنصاف ( 2/98،97):

     لو قالت امرأة: لي جني يجامعني كالرجل. فقال أبو المعالي: لا غسل عليها؛ لعدم الإيلاج والاحتلام. قال في «الفروع»: وفيه نظر.

     قال الحصفكي في الدر المختار (1/161):

     (و) عند (إيلاج حشفة) هي ما فوق الختان (آدمي) احتراز عن الجني يعني إذا لم تنزل وإذا لم يظهر لها في صورة الآدمي.

     جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير  (1/128):

     ولو رأت امرأة في اليقظة من جني ما تراه من إنسي من الوطء واللذة أو رأى الرجل في اليقظة أنه جامع جنية قال ابن ناجي الظاهر أنه لا غسل على الرجل ولا على المرأة ما لم يحصل إنزال وقال الحطاب: الظاهر أنه لا غسل عليهما ما لم يحصل إنزال أو شك فيه لأن الشك في الإنزال يوجب الغسل واعترضه البدر القرافي بأن الموافق لمذهب أهل السنة من أن الجن لهم حقيقة الاختيالات كما تقول الحكماء وأنهم أجسام نارية لهم قوة التشكل ولقول مالك بجواز نكاح الجن وجوب الغسل على كل من الرجل والمرأة وإن لم يحصل الإنزال ولا شك فيه.

المطلب الحادي عشر: من وجد في نفسه وسواسا, هل يجوز أن يقول عندي وسواس قهري؟

هذه اللفظة لم ترد في كتابٍ ولا في سنة, والشيطان ليس له سلطان حجة على الإنسان, ولا يستطيع أن يقهره, إنما الإنسان إذا اتبعه وترك التمسك بالكتاب والسنة جعل الله له عليه سلطانا, ولكن لا نقول وسواسا قهريا.

قال الله جل في علاه: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) الحجر: (42).

 وقال تعالى: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِيلًا) الإسراء: (65) .

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من التلفظ بكلمات يتعاظم بها الشيطان على المسلم:

 lفعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنتُ رديفَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم فعثرت دابةٌ, فقلتُ: تَعِسَ الشيطانُ ,فقال: لا تقل تَعِسَ الشيطانُ؛ فإنك إذا قلتَ ذلك تعاظمَ حتى يكونَ مثلَ البيتِ ، ويقولُ: بقوتي، ولكن قل: بسمِ اللهِ؛ فإنك إذا قلتَ ذلك، تصاغرَ حتى يكونَ مثلَ الذبابِ) (58)

قال ابن القيم في زاد المعاد (2/324) :

قول القائل: أخزى الله الشيطان، وقبح الله الشيطان، فإن ذلك كله يفرحه، ويقول علم ابن آدم أني قد نلته بقوتي، وذلك مما يعينه على إغوائه، ولا يفيده شيئا، فأرشد النبي صلى الله عليه وسلم من مسه شيء من الشيطان، أن يذكر الله تعالى، ويذكر اسمه ويستعيذ بالله منه، فإن ذلك أنفع له وأغيظ للشيطان.انتهى

وقد قال الله تعالى: (إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ) النحل: (100)

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ) سبأ: (20)

وقال تبارك وتعالى في موضع آخر: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ  وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي  فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم  مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ  إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ  إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) إبراهيم: (22) .

 وقال جل ذكره: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) النساء: (76).

قال الشنقيطي في دفع إيهام الاضطراب (ص 134 – 135) :

( في معرض كلامه عن الجمع بين السلطان المثبت للشيطان والمنفي عنه )

 والجواب من وجهين:

l الأول: أن السلطان المثبت له هو سلطان إضلاله لهم بتزيينه, والسلطان المنفي هو سلطان الحجة.

فلم يكن لإبليس عليهم من حجة يتسلط بها, غير أنه دعاهم فأجابوه بلا حجة ولا برهان.

وإطلاق السلطان على البرهان كثير في القرآن.

l الثاني: أن الله لم يجعل له عليهم سلطانا ابتداءً ألبتة, ولكنهم هم الذين سلطوه على أنفسهم بطاعته ودخولهم في حزبه.

فلم يتسلط عليهم بقوة؛ لأن الله يقول: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) النساء: 76

إنما تسلط عليهم بإرادتهم واختيارهم, ذكر هذا الجواب بوجهيه العلامة ابن القيم -.

المطلب الثاني عشر: طرق العلاج والتحصين من الشيطان وجنوده:

     خلق الله تعالى الشيطان، وهو شر، وعلمنا كيف نتحصن من شره ومن همزه ونفخه ونفثه ومن وساوسه، وقد جاءت طرق كثيرة في الكتاب والسنة للتحصن من الشيطان منها:

 1- الاستعاذة بالله الرحيم من الشيطان الرجيم:

     قال تعالى : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } فصلت: (36)

    4التعوذ عند الغضب:

    l عن سُلَيْمَانُ بْنُ صُرَدٍ، قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلاَنِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ عِنْدَهُ جُلُوسٌ، وَأَحَدُهُمَا يَسُبُّ صَاحِبَهُ، مُغْضَبًا قَدِ احْمَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” إِنِّي لَأَعْلَمُ كَلِمَةً، لَوْ قَالَهَا لَذَهَبَ عَنْهُ مَا يَجِدُ، لَوْ قَالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ”(59).

   l وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ” يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ كَذَا، مَنْ خَلَقَ كَذَا، حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ” (60).

   l وعن عثمان بن أبي العاص، أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفل على يسارك ثلاثا» قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني(61).

    4تعويذ الصبيان:

     l كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَوِّذُ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: ” إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ، مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ

وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لاَمَّةٍ “(62).

     قال الإمام ابن القيم في إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1 / 90 – 101) باختصار:

     أمر سبحانه بالاستعاذة به من الشيطان عند قراءة القرآن. وفي ذلك وجوه:

   u منها: أن القرآن شفاء لما في الصدور، يذهب لما يلقيه الشيطان فيها من الوساوس والشهوات والإرادات الفاسدة، فهو دواء لما أمَرَّه فيها الشيطان، فأمر أن يطرد مادة الداء ويخلي منه القلب ليصادف الدواء محلاً خاليا، فيتمكن منه، ويؤثر فيه، كما قيل:

     أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوى… فَصَادَفَ قَلْباً خَالِياً فَتَمَكّنَا

     فيجيء هذا الدواء الشافي إلى قلب قد خلا من مزاحم ومضاد له فينجع فيه.

   u ومنها: أن القرآن مادة الهدى والعلم والخير في القلب، كما أن الماء مادة النبات، والشيطان نار يحرق النبات أولا فأولا، فكلما أحس بنبات الخير في القلب سعى في إفساده وإحراقه، فأمر أن يستعيذ بالله عز وجل منه لئلا يفسد عليه ما يحصل له بالقرآن.

     والفرق بين هذا الوجه والوجه الذي قبله، أن الاستعاذة في الوجه الأول لأجل حصول فائدة القرآن، وفي الوجه الثاني لأجل بقائها وحفظها وثباتها.

   u ومنها: أن الملائكة تدنو من قارئ القرآن وتستمع لقراءته. كما في حديث أُسيد ابنُ حضَير لما كان يقرأ ورأى مثل الظلة فيها مثل المصابيح، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: “تِلْكَ المَلائِكُة”.

   u ومنها: أن الشيطان يجلب على القارئ بخيله ورجله، حتى يشغله عن المقصود بالقرآن، وهو تدبره وتفهمه ومعرفة ما أراد به المتكلم به سبحانه، فيحرص بجهده على أن يحول بين قلبه وبين مقصود القرآن، فلا يكمل انتفاع القارئ به، فأمر عند الشروع أن يستعيذ بالله عز وجل منه.

 u   ومنها: أن القارئ مُناجٍ لله تعالى كلامه، والله تعالى أشد أذناً للقارئ الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته. والشيطان إنما قراءته الشعر والغناء. فأُمر القارئ أن يطرده بالاستعاذة عند مناجاته تعالى واستماع الرب قراءته.

   ومنها: أن الله سبحانه أخبر أنه ما أرسل من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى

ألقى الشيطان في أمنيته، والسلف كلهم على أن المعنى: إذا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.

   u ومنها: أن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهم بالخير، أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ ليقطعه عنه، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: “إِنّ شَيْطَاناً تَفَلّتَ عَلَىَّ البَارِحَةَ، فأَرَادَ أَنْ يَقْطَعَ عَلَىَّ صَلاتِي” الحديث.

     وكلما كان الفعل أنفع للعبد وأحب إلى الله تعالى كان اعتراض الشيطان له أكثر. وفي مسند الإمام أحمد من حديث سبرة بن أبي الفاكه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إِنّ الشّيْطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدَمَ بِأَطْرُقِهِ، فَقَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الإسْلامِ، فَقَالَ: أَتُسْلِمُ وَتَذَرُ دِينَكَ وَدِينَ آبَائِكَ وآبَاءِ آبَائِكَ؟ فعصاهُ فَأَسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْهِجْرَةِ، فَقَالَ: أَتُهاجِرُ وَتَذَرُ أَرْضَكَ وَسَماءَكَ؟ وَإِنَما مَثَلُ المهَاجِرِ كالفَرَسِ في الطول فَعَصَاهُ وَهاجَر، ثُمَّ قعَدَ لَهُ بِطَرِيقِ الْجِهَادِ، وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ وَالمَال فقال: تقَاتِلُ فَتُقْتَلُ، فَتُنْكَحُ المَرْأَةُ وَيُقْسَمُ المَالُ؟ قَالَ: فَعَصَاهُ فَجَاهَدَ”(63). فالشيطان بالرصد للإنسان على طريق كل خير.

   u ومنها: أن الاستعاذة قبل القراءة عنوان وإعلام بأن المأتي به بعدها القرآن، ولهذا لم تشرع الاستعاذة بين يدي كلام غيره، بل الاستعاذة مقدمة وتنبيه للسامع أن الذي يأتي بعدها هو التلاوة، فإذا سمع السامع الاستعاذة استعد لاستماع كلام الله تعالى، ثم شرع ذلك للقارئ، وإن كان وحده، لما ذكرنا من الحكم وغيرها.

     وقال أيضًا – في المصدر السابق:

   l عن أحمد من رواية عبد الله: “أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ”(64).

   l لحديث أبي سعيد، وهو مذهب الحسن وابن سيرين، ويدل عليه ما رواه أبو داود في قصة الإفك:

   l “أَنّ النبي صلى الله عليه وسلم جَلَسَ وَكَشَفَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَ: أَعُوذُ بِاللهِ السَّمِيعِ العليم مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ” (65).

   l وعن أحمد رواية أخرى أنه يقول: “أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ إِنّ اللهَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ”.

     وبه قال سفيان الثوري ومسلم بن يسار، واختاره القاضي في المجرد وابن عقيل؛ لأن قوله: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشّيْطَان الرَّجِيمِ} [فصلت: 36] .

ظاهره أنه يستعيذ بقوله “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم” وقوله في الآية الأخرى: {فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} [فصلت: 36]  يقتضي أن يلحق بالاستعاذة وصفه بأنه هو السميع العليم في جملة مستقلة بنفسها مؤكدة بحرف “إن” لأنه سبحانه هكذا ذكره.

   l وقال إسحاق: الذي أختاره ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم: “الّلهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الشّيْطَانِ الرَّجِيمِ مِنْ هَمْزِهِ وَنَفْخِهِ وَنَفْثِه”(66).

     وقد جاء في الحديث تفسير ذلك، قال: “وهمزه: المُؤتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر”.

    وقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِك مِنْ هَمَزاتِ الشّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أنْ يَحْضُرُونِ} [المؤمنون: 97 – 98]

     وظاهر الحديث أن الهمز نوع غير النفخ والنفث، وقد يقال- وهو الأظهر- إن همزات الشياطين إذا أفردت دخل فيها جميع إصاباتهم لابن آدم، وإذا قرنت بالنفخ والنفث كانت نوعًا خاصًا، كنظائر ذلك.

   2-  قراءة القرآن الكريم

     قال تعالى (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَّسْتُورًا) الإسراء: (45)

 قراءة سورة البقرة

   l عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تجعلوا بيوتكم مقابر، إن الشيطان ينفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة» (67).

   l وعن أبي أمامة الباهلي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه، اقرءوا الزهراوين البقرة، وسورة آل عمران، فإنهما تأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان، أو كأنهما غيايتان، أو كأنهما فرقان من طير صواف، تحاجان عن أصحابهما، اقرءوا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة» (68)  قال معاوية: بلغني أن البطلة: السحرة.

   قراءة المعوذتين

    l عن أبي سعيد «كان  رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ من الجان وعين الإنسان حتى نزلت المعوذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما» (69).

3-  الدعاء وذكر الله عز وجل :

   l قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ  إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) غافر : 60

   l قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأمرَكم أنْ تَذكروا اللهَ، فإنَّ مَثَلَ

ذلك كمثَلِ رجلٍ خرجَ العَدُوُّ في أثَرِه سِراعاً، حتى إذا أتى على حصنٍ حصينٍ

فأحرز نفسَه منهم، كذلك العبدُ، لا يُحرِزُ نفسَه من الشيطان إلا بذكْرِ الله) (70).

    4- المحافظة على أذكار الصباح والمساء:

     وخاصة قول: (لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ

عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، فإنها حرز لك من الشيطان حتى تمسي.

   l فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ” مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ” (71).

     5- الدعاء عند دخول الخلاء:

 l عن عبد العزيز بن صهيب، قال: سمعت أنسا، يقول:كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل الخلاء قال (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث) (72).

6- المحافظة على أذكار النوم:

l الإيواء إلى الفراش على وضوء, والاضجاع على الشق الأيمن؛ والحفاظ على أذكار النوم, فعن سهيل، قال: كان أبو صالح يأمرنا، إذا أراد أحدنا أن ينام، أن يضطجع على شقه الأيمن، ثم يقول: «اللهم رب السماوات ورب الأرض ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، ومنزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر» وكان يروي ذلك عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم(73).

قال النووي في شرح مسلم (17 / 36):

قوله أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته أي من شر كل شيء من المخلوقات لأنها كلها في سلطانه وهو آخذ بنواصيها. ا هـ

l وعن أبي هريرة ؓ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أوى أحدُكم إلى فراشِه ، فليأخذْ داخِلةَ إزارِه ، فلينفُضْ بها فراشَه ، وليسمِّ اللهَ. فإنه لا يعلمُ ما خلَفه بعده على فراشِه . فإذا أراد أن يضطجعَ ، فليضطجعْ على شقِّه الأيمنِ. وليقلْ : سبحانك اللهمَّ ! ربي بك وضعتُ جنبي . وبك أرفعُه . إن أمسكتَ نفسي ، فاغفرْ لها . وإن أرسلتَها ، فاحفظْها بما تحفظُ به عبادَك الصالحين) (74).

وكذلك الحفاظ على قراءة آية الكرسي قبل النوم وقد سبق بيان فضلها(75).

4 وفي الجملة عليك الحفاظ على تلاوة القرآن وأذكار الصباح والمساء وقراءة الأوراد اليومية فكل هذا حرز لك من الشيطان.

المطلب الثالث عشر: صور من عداوة الشيطان لبني آدم :

الصراع بين الشيطان وبني آدم سنة ماضية لن تتغير, منذ أن خلق الله تعالى آدم وأمر الملائكة وإبليس بالسجود له, فسجدوا وأبى إبليس واستكبر حسدا منه لآدم – عليه السلام – وتوعد له ولذريته بالإضلال والإغواء.

وقد حذرنا الله تعالى من عداوته في أكثر من موضع من كتابه العزيز.

قال عز وجل: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) فاطر: 6

وقال تعالى: (إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) البقرة: (169)

وقال: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) البقرة: (168)

وقال: (وَمَن يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا) النساء: (38)

وقال: (قَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا) النساء: (118)

وقال: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ – إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ص: (82-83)

وقال: (إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ) القصص: (15)

ومن صور عداوته:
1- إلقاء الوساوس في قلب العبد:
وهذه من أخبث طرق الشيطان التي يسلكها لإغواء العبد, بأن يلقي الوساوس في قلبه؛ ليشككه في وجود الله تعالى, فإذا استجاب لتلك الوساوس ولم يعتصم بالله تعالى ويتعوذ من شر الشيطان وشركه وقع في شراكه وأصبح من حزبه, (أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ) المجادلة: 19

l قال أبو هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته. (76).

l وفي رواية: عن أبي هريرة، قال: جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: «وقد وجدتموه؟» قالوا: نعم، قال: «ذاك صريح الإيمان» (77).

جاء في إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري ( 5 / 294 ) :

إذا بلغ قوله: من خلق ربك (فليستعذ بالله) من وسوسته بأن يقول أعوذ بالله من الشيطان الرجيم قال تعالى: { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف: 200] (ولينته) عن الاسترسال معه في ذلك وليبادر إلى قطعه بالإعراض عنه فإنه تندفع الوسوسة عنه لأن الأمر الطارئ بغير أصل يدفع بغير نظر في دليل إذ لا أصل له ينظر فيه.

قال الخطابي: لو أذن -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في محاجته لكان الجواب سهلاً على كل موحد ولكان الجواب مأخوذًا من فحوى كلامه، فإن أوّل كلامه يناقض آخره لأن جميع المخلوقات من ملك وإنس وجن وحيوان وجماد داخل تحت اسم الخلق، ولو فتح هذا الباب الذي ذكره للزم منه أن يقال: ومن خلق ذلك الشيء ويمتدّ القول في ذلك إلى ما لا يتناهى والقول بما لا يتناهى فاسد فسقط السؤال من أصله.

قال الملا القاري في مرقاة المفاتيح ( 1 / 137 ) :

إذا بلغ أحدكم هذا القول يعني من خلق ربك، أو التقدير بلغ الشيطان هذا القول (فليستعذ بالله) : طردا للشيطان إشارة إلى قوله تعالى: { إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [الحجر: 40] وإيماء إلى قوله – عليه الصلاة والسلام -: (لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) فإن العبد بحوله، وقوته ليس له قوة المغالبة مع الشيطان، ومجادلته، فيجب عليه أن يلتجئ إلى مولاه، ويعتصم بالله من الشيطان الذي أوقعه في هذا الخاطر الذي لا أقبح منه؛ فيقول بلسانه: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ويلوذ بجنابه إلى جنابه أن يدفع عنه شره، وكيده، فإنه مع اللطف الإلهي لا أضعف منه، ولا أذل، فإنه مشبه بالكلب الواقف على الباب، ولذا قال تعالى: { إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا } [النساء: 76]
قال ابن الملقن في التوضيح ( 19 / 200 – 201) :
ووجه الحديث: ترك التفكير فيما يخطر في القلب من وساوس الشيطان، والامتناع عن قبولها، والكف عن مجاراته في ذلك، وحسم المادة في ذلك بالإعراض عنه والاستعاذة بذكر الله، ولو أذن في مراجعته والرد عليه لكان الرد على كل موحد سهلاً؛ وذلك أن جوابه متلقى من سؤاله، وذلك أنه إذا قال ما تقدم، فقد نقض بأول كلامه آخره؛ لأنه يلزم منه أن يقال: ومن خلق ذلك الشيء. وامتد القول في ذلك إلى ما لا يتناهى، والقول مما لا يتناهى فاسد فسقط السؤال من أصله، وأشد من هذا الجواب وأحسن في موضع المطالبة أن تقول: دلنا المُحْدَثِ على مُحْدِث أَحْدَثَه ومريد أراده على الصفة التي وقع عليها حيًّا قادرًا، فإذا ثبت من هذِه صفاته فلا بد أن يكون قديمًا أو محدثًا، فإن قلنا: محدث صار من القسم الأول، وتسلسل القول فيه ولزم القول بالقدم، فإذا ثبت قدمه لم يبق إلا أن يقال: هو طبيعة، فيسأل الطبائعيين عن هذِه الطبيعة، فإن قالوا: قديمة، فيسألهم هل يوجب أثرها عند وجودها؟ فإن قالوا: نعم. كان باطلاً عيانًا؛ لأن سائر المخلوقات تلزم أن توجد كلها قديمة عند وجودها؛ إذ وجودها جملة من وجودهم، ولا يتراخى منه شيء عن شيء، وهذا مردود عيانًا، وإن قالوا: (هي تريده. يفصل بأسباب)؛ فقد سلموا أن القديم مريد قادر. وعاد الخلاف بيننا في تسمية القديم، وإن قالوا: محدثة، أقمنا دليل الحدث ودلت على محدث ويسئل عنه ويتسلسل القول في ذلك.

2 – تثبيط العبد عن الطاعة:

l عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ” يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب كل عقدة مكانها: عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان ” (78).

3- الاختلاس من صلاة المرء.

l عن عائشة، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: «هو اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد»(79).

وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ” إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان، وله ضراط، حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى النداء أقبل، حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر، حتى إذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، يقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى ” (80).

4- دوام إغوائة لابن آدم منذ ولادته إلى موته:

l عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم «كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد، غير عيسى ابن مريم، ذهب يطعن فطعن في الحجاب» (81).

l وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد، فيستهل صارخا من مس الشيطان إياه، إلا مريم وابنها»، ثم يقول أبو هريرة: واقرءوا إن شئتم: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36] (82).

l وفي رواية: عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صياح المولود حين يقع، نزغة من الشيطان»  (83).

5- ضحك الشيطان من ابن آدم :

التثاؤب من الشيطان, فإذا تثآب أحد ولم يكظم تثاؤبه ولم يرده ضحك الشيطان منه ودخل فيه فمه لتشويه صورته.

l عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: ” إن الله يحب العطاس، ويكره التثاؤب، فإذا عطس فحمد الله، فحق على كل مسلم سمعه أن يشمته، وأما التثاؤب: فإنما هو من الشيطان، فليرده ما استطاع، فإذا قال: ها، ضحك منه الشيطان “(84).

 lوقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا تثاءب أحدكم، فليمسك بيده على فيه، فإن الشيطان يدخل» (85).

قال البدر العيني في عمدة القاري (15 / 178) :

قوله: (من الشيطان) ، وإنما جعله من الشيطان كراهة له لأنه إنما يكون مع ثقل البدن وامتلائه وميله إلى الكسل والنوم، وأضافه إلى الشيطان لأنه هو الذي يدعو إلى إعطاء النفس شهواتها، وأراد به التحذير من السبب الذي يتولد منه، وهو التوسع في المطعم والشبع، فيثقل عن الطاعات ويكسل عن الخيرات.

قوله: (فليرده) أي: ليكظم وليضع يده على الفم لئلا يبلغ الشيطان مراده من تشويه صورته ودخول فمه وضحكه منه.

6 – تحزين المسلم:

قال الله تعالى: (إِنَّمَا النَّجْوَىٰ مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) المجادلة: (10)

u وأذكر هاهنا كلاما نفيسا لابن القيم عن أضرار الحزن:

قال ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين ( 279 – 280) :

l وفى الصحيح (86) عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول فى دعائه: “اللَّهم إنى أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والجبن والبخل، وضلع الدين وغلبة الرجال”…. إلى أن قال: وذلك لأن الحزن يضعف القلب ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن، قال تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] ، فالحزن مرض من أمراض القلب يمنعه من نهوضه وسيره وتشميره، والثواب عليه ثواب المصائب التى يبتلى العبد بها بغير اختياره، كالمرض والألم ونحوهما، وأما أن يكون عبادة مأْموراً بتحصيلها وطلبها فلا، ففرق بين ما يثاب عليه العبد من المأمورات، وما يثاب عليه من البليات. ولكن يحمد فى الحزن سببه ومصدره ولازمه لا ذاته، فإن المؤمن إما أن يحزن.. على تفريطه وتقصيره خدمة ربه وعبوديته، وأما أن يحزن على تورّطه فى مخالفته ومعصيه وضياع أيامه وأوقاته.

وهذا يدل على صحة الإيمان فى قلبه وعلى حياته، حيث شغل قلبه بمثل هذا الألم فحزن عليه، ولو كان قلبه ميتاً لم يحس بذلك ولم يحزن ولم يتألم، فما لجرح بميت إيلام، وكلما كان قلبه أشد حياة كان شعوره بهذا الألم أقوى، ولكن الحزن لا يجدى عليه، فإنه يضعفه كما تقدم.

بل الذى ينفعه أن يستقبل السير ويجد ويشمر، ويبذل جهده، وهذا نظير من انقطع عن رفقته فى السفر، فجلس فى الطريق حزيناً كئيباً يشهد انقطاعه ويحدث نفسه باللحاق بالقوم. فكلما فتر وحزن حدث نفسه باللحاق برفقته، ووعدها إن صبرت أن تلحق بهم، ويزول عنها وحشة الانقطاع. فهكذا السالك إلى منازل الأبرار، وديار المقربين وأخص من هذا الحزن حزنه على قطع الوقت بالتفرقة المضعفة للقلب عن تمام سيره وجده فى سلوكه، فإن التفرقة من أعظم البلاء على السالك، ولا سيما فى ابتداء أمره، فالأول حزن على التفريط فى الأعمال، وهذا حزن على نقص حاله مع الله وتفرقة قلبه وكيف صار ظرفاً لتفرقة حاله، واشتغال قلبه بغير معبوده.

وأخص من هذا الحزن حزنه على جزءٍ من أجزاءِ قلبه كيف هو خال من محبة الله؟ وعلى جزءٍ من أجزاءِ بدنه كيف هو منصرف فى غير محاب الله؟ فهذا حزن الخاصة، ويدخل فى هذا حزنهم على كل معارض يشغلهم عما هم بصدده من خاطر أو إرادة أو شاغل من خارج.

فهذه المراتب من الحزن لا بد منها فى الطريق ولكن الكيس من لا يدعها تملكه وتقعده، بل يجعل عوض فكرته فيها فكرته فيما يدفعها به، فإن المكروه إذا ورد على النفس، فإن كانت صغيرة اشتغلت بفكرها فيه وفى حصوله عن الفكرة فى الأسباب التى يدفعها به فأَورثها الحزن، وإن كانت نفساً كبيرة شريفة لم تفكر فيه، بل تصرف فكرها إلى ما ينفعها فإن علمت منه مخرجاً فكرت فى طريق ذلك المخرج وأسبابه وإن علمت أنه لا مخرج منه، فكرت فى عبودية الله فيه. وكان ذلك عوضاً لها من الحزن، فعلى كل حال لا فائدة لها فى الحزن أصلاً والله أعلم.

وقال السعدي في تفسيره ( 846) :

يقول تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى} أي: تناجي أعداء المؤمنين بالمؤمنين، بالمكر والخديعة، وطلب السوء من الشيطان، الذي كيده ضعيف ومكره غير مفيد.

{لِيَحزن الَّذِينَ آمَنُوا} هذا غاية هذا المكر ومقصوده، {وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} فإن الله تعالى وعد المؤمنين بالكفاية والنصر على الأعداء، وقال تعالى: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} فأعداء الله ورسوله والمؤمنين، مهما تناجوا ومكروا، فإن ضرر ذلك عائد إلى أنفسهم، ولا يضر المؤمنين إلا شيء قدره الله وقضاه، {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أي: ليعتمدوا عليه ويثقوا بوعده، فإن من توكل على الله كفاه، وتولى أمر دينه ودنياه. ا هـ

l وعن جابر، قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله رأيت في المنام كأن رأسي ضرب فتدحرج فاشتددت على أثره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأعرابي: «لا تحدث الناس بتلعب الشيطان بك في منامك»

وقال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم بعد، يخطب فقال: «لا يحدثن أحدكم بتلعب الشيطان به في منامه»(87).

l وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اقترب الزمان لم تكد تكذب، رؤيا المؤمن ورؤيا المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» وما كان من النبوة فإنه لا يكذب قال محمد: – وأنا أقول هذه – قال: وكان يقال: ” الرؤيا ثلاث: حديث النفس، وتخويف الشيطان، وبشرى من الله، فمن رأى شيئا يكرهه فلا يقصه على أحد وليقم فليصل ” (88).

 lوعن أبي قتادة, قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم شيئا يكرهه، فلينفث عن يساره ثلاث مرات وليتعوذ بالله من شرها، فإنها لن تضره» فقال: «إن كنت لأرى الرؤيا أثقل علي من جبل، فما هو إلا أن سمعت بهذا الحديث، فما أباليها»(89).

7- التحريش بين المسلمين:

l عن أبي سفيان، عن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: «إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم»(90).

قال القاري في المرقاة: (1/ 142, 143) :

أي يسعى في التحريش (بينهم) أي: في إغراء بعضهم على بعض، والتحريض بالشر بين الناس من قتل، وخصومة، والمعنى لكن الشيطان غير آيس من إغراء المؤمنين، وحملهم على الفتن بل له مطمع في ذلك، قيل: ولعله أخبر عما يجري فيما بعده من التحريش الذي وقع بين أصحابه أي: أيس الشيطان أن يعبد فيها لكن طمع في التحريش بين ساكنيها، وكان كما أخبر فكان معجزة له – عليه الصلاة والسلام -.
قال النووي في شرحه على مسلم: (17 / 156) :

هذا الحديث من معجزات النبوة وقد سبق بيان جزيرة العرب ومعناه أيس أن يعبده أهل جزيرة العرب ولكنه سعى في التحريش بينهم بالخصومات والشحناء والحروب والفتن ونحوها. ا هـ

إلى غير ذلك من طرق إغواء وإضلال بني آدم من هذا العدو المضل الخبيث.

8- إرسال سرايا لإغواء العباد:
l عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئا، قال ثم يجيء أحدهم فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: نعم أنت “(91).

قال ابن القيم في إغاثة اللهفان ( 1 / 281 ) :

في معرض شرحه للحديث: فالشيطان وحزبه قد أغروا بإيقاع الطلاق، والتفريق بين المرء وزوجه، وكثيراَ ما يندم المطلق، ولا يصبر عن امرأته، ولا تطاوعه نفسه أن يصبر عنها إلى أن تتزوج زواج رغبة تبقى فيه مع الزوج إلى أن يموت عنها أو يفارقها إذا قضى منها وطره، ولابد له من المرأة، فيهرع إلى التحليل وهو حيلة من عشر حيل نصبوها للناس.
9- تزيين المعاصي:

قال تعالى: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ – ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) الأعراف: ( 16 – 17 )

وقال سبحانه: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ – إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الحجر: (39 – 40)

وقال: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ – إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)
ص (82 – 83 )

المطلب الرابع عشر: تحريم التشبه بالشيطان:

لا يجوز التشبه بصفات الشيطان ؛ ذلك لأنه شرٌ محض, ومن هذه الصفات:

 الكبر:

 فيحرم التكبر على الخلق بصفة عامة, والتكبر على الله بصفة خاصة, قال تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) الأعراف: (12).

قال ابن كثير في تفسيره (3/353 ) :

وقول إبليس لعنه الله أنا خير منه من العذر الذي هو أكبر من الذنب، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول، يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بين أنه خير منه بأنه خلق من نار، والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه، وقاس قياسا فاسدا في مقابلة نص. ا هـ

 وقال سبحانه: (إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) ص: (74)

قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ( 15 / 227) :

” إلا إبليس” أنف من السجود له جهلا بأن السجود له طاعة لله، والأنفة من طاعة الله استكبارا كفر، ولذلك كان من الكافرين باستكباره عن أمر الله تعالى. اهـ

l وعن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر» قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة، قال: «إن الله جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس»(92).

الحسد:

 كما حسد إبليس آدم حين أمره الله تبارك وتعالى مع الملائكة بالسجود له, فالحسد من صفات إبليس, وإذَا علمَ الحاسدُ أَنَّهُ بحسدِه للمؤمنينَ يكونُ جنديَّا من جندِ إبليسِ يسخرُهُ لإمضاءِ ما يريدُ في عبادِ الله الصالحينَ لا نكَفَّ عَن حسدِهِ، فَمَنْ ذَا الذيِ يريدُ أنَ يكونَ جنديًّا لإبليسَ اللعين وعدوًّا للهِ ربَّ العالمينَ معترضًا عَلىَ قدرِه وشرعِه مسخطًا لهُ مُرضيًا لأوليائه الشياطين؟!!

التبذير والإسراف:

وهي صفات يبغضها الله سبحانه وتعالى, وجعل المبذرين إخوانا للشياطين, فقال: (إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) الإسراء: 27

قال السعدي في تيسير الكريم الرحمن ( 456 ) :

{إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} لأن الشيطان لا يدعو إلا إلى كل خصلة ذميمة فيدعو الإنسان إلى البخل والإمساك فإذا عصاه، دعاه إلى الإسراف والتبذير. والله تعالى إنما يأمر بأعدل الأمور وأقسطها ويمدح عليه، كما في قوله عن عباد الرحمن الأبرار {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما}

 زيادة الفُرش:

l عن جابر بن عبد الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «فراش للرجل، وفراش لامرأته، والثالث للضيف، والرابع للشيطان» (93).

ويقاس عليها الزيادة عن اللازم في كل شيء كاللباس وغيره.

قال النووي في شرحه على مسلم: ( 14 / 60) :

قال العلماء معناه أن مازاد على الحاجة فاتخاذه إنما هو للمباهاة والاختيال والالتهاء بزينة الدنيا وما كان بهذه الصفة فهو مذموم وكل مذموم يضاف إلى الشيطان لأنه يرتضيه ويوسوس به ويحسنه ويساعد عليه وقيل إنه على ظاهره وأنه إذا كان لغير حاجة كان للشيطان عليه مبيت ومقيل كما أنه يحصل له المبيت بالبيت الذي لايذكر الله تعالى صاحبه عند دخوله عشاء وأما تعديد الفراش للزوج والزوجة فلا بأس به لأنه قد يحتاج كل واحد منهما إلى فراش عند المرض ونحوه وغير ذلك.

 النزغ بين العباد:

قال تعالى: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) الإسراء: (53)

وقال عن يوسف عليه السلام: (مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) يوسف: (100)

ونزغ بني آدم المشي بينهم بالنميمة, وهذا من كبائر الذنوب, وصاحبها متوعد بعدم دخول الجنة؛ فعن همام، قال: كنا مع حذيفة، فقيل له: إن رجلا يرفع الحديث إلى عثمان، فقال له حذيفة: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يدخل الجنة قتات»(94).

قال الطبري في جامع البيان (13 / 363) :

وقوله: {من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي} [يوسف: 100] يعني: من بعد أن أفسد ما بيني وبينهم وجهل بعضنا على بعض، يقال منه: نزغ الشيطان بين فلان وفلان، ينزغ نزغا ونزوغا . ا هـ

إلى غير ذلك من صفات إبليس والتي يحرم على ابن آدم التشبه بها.

المطلب الخامس عشر: هل أرسل النبي صلى الله عليه وسلم للجن؟

أجمع العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الثقلين الإنس والجن.

والأدلة على ذلك من الكتاب وصحيح السنة كثيرة:

 أولا: الأدلة من القرآن:

قول الله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) الفرقان: (1)

قال ابن القيم في طريق الهجرتين ( ص: 417) :

وقد اتفق المسلمون على أن كفار الجن فى النار وقد دلَّ على ذلك القرآن فى غير موضع كقوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّى لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [السجدة: 13] ، وقوله تعالى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:85] الآية، فملؤها منه به وبكفار ذريته. وقال تعالى: {ادْخُلُوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ فِى النَّارِ} [الأعراف: 38] . وقال تعالى فى حكاية عن مؤمنهم: {وَأَنّا مِنّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنّا الْقَاسِطُونَ} إلى قوله: {حَطَباً} [الجن: 14-15] ، وقال الله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِن الجن والإنس} [الأعراف: 179] وقال تعالى: {فكبكبِوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُون وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} وجنوده إن لم يختص بالشياطين فهم داخلون فى عمومه.

وبالجملة فهذا أمر معلوم بالاضطرار من دين الإسلام، وهو يستلزم تكليف الجن بشرائع الأنبياءِ ووجوب اتباعهم لهم. فأما شريعتنا فأجمع المسلمون على أن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث إلى الجن والإنس، وأنه يجب على الجن طاعته، كما يجب على الإنس.

قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (13 / 2) :

والمراد ب” العالمين” هنا الإنس والجن، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان رسولا إليهما، ونذيرا لهما، وأنه خاتم الأنبياء. انتهى.

وقال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا ۖ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ – قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ – يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ – وَمَن لَّا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءُ ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) الأحقاف: (29-32)

وقال: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا – يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ ۖ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا – وَأَنَّهُ تَعَالَىٰ جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا – وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا – وَأَنَّا ظَنَنَّا أَن لَّن تَقُولَ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا – وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) الجن: (1-6)

قال السعدي في تيسير الكريم الرحمن ( 783 ) :

في معرض تفسيره لآيات سورة الأحقاف:

كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة.

فالإنس يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم، وأما الجن فصرفهم الله إليه بقدرته وأرسل إليه {نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} أي: وصى بعضهم بعضا بذلك، {فَلَمَّا قُضِي} وقد وعوه وأثر ذلك فيهم {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ} نصحا منهم لهم وإقامة لحجة الله عليهم وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن.

{قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} لأن كتاب موسى أصل للإنجيل وعمدة لبني إسرائيل في أحكام الشرع، وإنما الإنجيل متمم ومكمل ومغير لبعض الأحكام.

{مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي} هذا الكتاب الذي سمعناه {إِلَى الْحَقِّ} وهو الصواب في كل مطلوب وخبر {وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} موصل إلى الله وإلى جنته من العلم بالله وبأحكامه الدينية وأحكام الجزاء.

فلما مدحوا القرآن وبينوا محله ومرتبته دعوهم إلى الإيمان به، فقالوا: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} أي: الذي لا يدعو إلا إلى ربه لا يدعوكم إلى غرض من أغراضه ولا هوى وإنما يدعوكم إلى ربكم ليثيبكم ويزيل عنكم كل شر ومكروه، ولهذا قالوا: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} وإذا أجارهم من العذاب الأليم فما ثم بعد ذلك إلا النعيم فهذا جزاء من أجاب داعي الله.

{وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرْضِ} فإن الله على كل شيء قدير فلا يفوته هارب ولا يغالبه مغالب. {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} وأي ضلال أبلغ من ضلال من نادته الرسل ووصلت إليه النذر بالآيات البينات، والحجج المتواترات فأعرض واستكبر؟ “

قال ابن تيمية في الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ( 2 / 78 ) :

بل أنه أرسل إلى الثقلين الجن والإنس جميعا. وهذا كله من الأمور الظاهرة المتواترة عنه، التي اتفق على نقلها عنه أصحابه مع كثرتهم، وتفرق ديارهم وأحوالهم، وقد صحبه عشرات ألوف، لا يحصي عددهم على الحقيقة إلا الله تعالى، ونقل ذلك عنهم التابعون، وهم أضعاف الصحابة عددا، ثم ذلك منقول قرنا بعد قرن إلى زمننا مع كثرة المسلمين، وانتشارهم في مشارق الأرض ومغاربها.

جاء في شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز (ص: 126)

قال الطحاوي: وهو المبعوث إلى عامة الجن وكافة الورى بالحق والهدى, وبالنور والضياء.

 ثانيا:الأدلة من السنة على أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الجن:

l عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: ” انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ فقالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب، قالوا: ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له، فقالوا: هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء، فهنالك حين رجعوا إلى قومهم، وقالوا: يا قومنا: {إنا سمعنا قرآنا عجبا، يهدي إلى الرشد، فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا} [الجن: 2]، فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم: {قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1] وإنما أوحي إليه قول الجن ” (95).

l وروى مسلم في صحيحه من طريق عامر, قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة، أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ولكنا كنا مع رسول الله ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب. فقلنا: استطير أو اغتيل. قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء. قال: فقلنا يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم. فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن» قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم وسألوه الزاد فقال: ” لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما وكل بعرة علف لدوابكم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم» (96).

l وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه كان يحمل مع النبي صلى الله عليه وسلم إداوة لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال: «من هذا؟» فقال: أنا أبو هريرة، فقال: «ابغني أحجارا أستنفض بها، ولا تأتني بعظم ولا بروثة». فأتيته بأحجار أحملها في طرف [ص:47] ثوبي، حتى وضعتها إلى جنبه، ثم انصرفت حتى إذا فرغ مشيت، فقلت: ما بال العظم والروثة؟ قال: «هما من طعام الجن، وإنه أتاني وفد جن نصيبين، ونعم الجن، فسألوني الزاد، فدعوت الله لهم أن لا يمروا بعظم، ولا بروثة إلا وجدوا عليها طعاما»  (97)

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى ( 11 / 303 ) :

ومما يجب أن يعلم أن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم إلى جميع الإنس والجن فلم يبق إنسي ولا جني إلا وجب عليه الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم واتباعه فعليه أن يصدقه فيما أخبر ويطيعه فيما أمر ومن قامت عليه الحجة برسالته فلم يؤمن به فهو كافر سواء كان إنسيا أو جنيا. ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الثقلين باتفاق المسلمين وقد استمعت الجن القرآن وولوا إلى قومهم منذرين, ثم ساق جملة أدلة من الكتاب والسنة كما تقدم.

المطلب السادس عشر : الجن يموتون ويبعثون ويحاسبون, ومنهم المؤمنون ومنهم الكافرون:

قال الله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَٰذَا ۚ قَالُوا شَهِدْنَا عَلَىٰ أَنفُسِنَا ۖ وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ) الأنعام: (130)

وقال سبحانه: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ) الأعراف: (38)

وقال: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ – إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ۚ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ۗ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هود: (118-119)

وقال: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) الأحقاف: (18)
وقوله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ – وَيَبْقَىٰ وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) الرحمن: (26-27)
وقال: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ ۖ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا – وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) الجن : (14-15).

قال الطبري في جامع البيان (9 / 559 – 560) :

القول في تأويل قوله تعالى: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا شهدنا على أنفسنا وغرتهم الحياة الدنيا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين} [الأنعام: 130] وهذا خبر من الله جل ثناؤه عما هو قائل يوم القيامة لهؤلاء العادلين به من مشركي الإنس والجن، يخبر أنه يقول لهم تعالى ذكره يومئذ: {يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي} [الأنعام: 130] ؟ يقول: يخبرونكم بما أوحي إليهم من تنبيهي إياكم على مواضع حججي، وتعريفي لكم أدلتي على توحيدي وتصديق أنبيائي، والعمل بأمري والانتهاء إلى حدودي. {وينذرونكم لقاء يومكم هذا} [الأنعام: 130] يقول: يحذرونكم لقاء عذابي في يومكم هذا، وعقابي على معصيتكم إياي، فتنتهوا عن معاصي. وهذا من الله جل ثناؤه تقريع وتوبيخ لهؤلاء الكفرة على ما سلف منهم في الدنيا من الفسوق والمعاصي، ومعناه: قد أتاكم رسل منكم ينبهونكم على خطأ ما كنتم عليه مقيمين بالحجج البالغة، وينذرونكم وعيد الله على مقامكم على ما كنتم عليه مقيمين، فلم تقبلوا ذلك ولم تتذكروا ولم تعتبروا.

وقال القاسمي في محاسن التأويل ( 4 / 493 – 494) :

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130)

مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ أي: في الدنيا رسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي بالأمر والنهي يُنْذِرُونَكُمْ يخوفونكم قاءَ يَوْمِكُمْ هذا وهو يوم الحشر الذي قد عاينوا فيه أفانين الأهوال. الُوا يعني الجن والإنس. هِدْنا عَلى أَنْفُسِنا أي: أقررنا بإتيان الرسل وإنذارهم، وبتكذيب دعوتهم، كما فصّل في قوله تعالى: قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: 9] .

غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي: ما فيها من الزهرة والنعيم، وهو بيان لما أدّاهم في الدنيا إلى الكفر شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: في الآخرة. قال المهايميّ: بعد شهادة جوارحهم نَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ أي: في الدنيا بما جاءتهم الرسل.

قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (19 /38 / 39) :

وقد ذكر الله في القرآن من خطاب الثقلين ما يبين هذا الأصل كقوله تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا} وقد أخبر الله عن الجن أنهم قالوا: { وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أي: مذاهب شتى: مسلمون وكفار؛ وأهل سنة وأهل بدعة وقالوا: { وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} { وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} والقاسط: الجائر يقال: قسط إذا جار وأقسط إذا عدل. وكافرهم معذب في الآخرة باتفاق العلماء. وأما مؤمنهم فجمهور العلماء على أنه في الجنة. ا هـ

 lوعن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقول: «أعوذ بعزتك، الذي لا إله إلا أنت الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون» (98).

  المطلب السابع عشر: هل يدخل مؤمنو الجن الجنة؟

    قال الله تعالى: {قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ } [الأعراف: 38].
وقال جل ذكره: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ }[الرحمن: 46].

   وقال تعالى حكاية عن الجن: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَٰئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا  وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا } [الجن: 14، 15].

    وقال جل ذكره حكاية عنهم أيضًا: {!يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [الأحقاف: 31].

     تنازع العلماء في هذه المسألة:

     u فذهب فريق من أهل العلم أن مؤمني الجن في الجنة، ومن أظهر ما استدلوا به قوله تعالى: { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ – فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ  }[الرحمن:  46 – 47]، فالله تعالى جعل التكليف على الثقلين، فعلم أن من أساء منهما فهو في النار، ومن أحسن فهو في الجنة.

     وهذا مذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى وابن القيم وجماعة من السلف، ومن المفسرين القرطبي وابن كثير والسعدي والشنقيطي وغيرهم.

u وقال آخرون ليس لمؤمني الجن ثواب غير أنهم يجارون من النار، وحجتهم قول الله تعالى: { يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وهذا مذهب أبي حنيفة وغيره.

أقوال أهل العلم في المسألة:

     قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ( 16 /210):

     في معرض شرحه لآيات سورة الأحقاف: هذه الآي تدل على أن الجن كالإنس في الأمر والنهي والثواب والعقاب. وقال الحسن: ليس لمؤمني الجن ثواب غير نجاتهم من النار، يدل عليه قوله تعالى:” { يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }. وبه قال أبو حنيفة قال: ليس ثواب الجن إلا أن يجاروا من النار، ثم يقال لهم: كونوا ترابًا مثل البهائم. وقال آخرون: إنهم كما يعاقبون في الإساءة يجازون في الإحسان مثل الإنس. وإليه ذهب مالك والشافعي وابن أبي ليلى. وقد قال الضحاك: الجن يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. قال القشيري: والصحيح أن هذا مما لم يقطع فيه بشيء، والعلم عند الله.

     قلت: قوله تعالى:” وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا”  [الانعام: 132] يدل على أنهم يثابون ويدخلون الجنة، لأنه قال في أول الآية:” يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي – إلى أن قال- وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ” [الانعام: 132 – 130]. والله أعلم.

   وقال السعدي في تفسير  الكريم الرحمن (ص: 783) :

     { يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وإذا أجارهم من العذاب الأليم فما ثم بعد ذلك إلا النعيم، فهذا جزاء من أجاب داعي الله.

  وقال الشنقيطي في أضواء البيان (7/236، 237) :

     في شرحه لآية الأحقاف: منطوق هذه الآية أن من أجاب داعي الله محمدًا صلى الله عليه وسلم وآمن به وبما جاء به من الحق غفر الله له ذنوبه، وأجاره من العذاب الأليم، ومفهومها أعني: مفهوم مخالفتها المعروف بدليل الخطاب، أن من لم يجب داعي الله من الجنّ ولم يؤمن به لم يغفر له، ولم يجره من عذاب أليم، بل يعذبه ويدخله النار، وهذا المفهوم جاء مصرحًا به مبينًا في آيات أخر، كقوله تعالى: {ôوَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [هود: 119]،

     وقوله تعالى: {ôوَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [السجدة: 13]… وذكر آيات أخرى.ا هـ

     أَمَّا دُخُولُ الْمُؤْمِنِينَ الْمُجِيبِينَ دَاعِيَ اللَّهِ مِنَ الْجِنِّ الْجَنَّةَ فلم تتعرض الآية الكريمة بإثبات ولا نفي، وقد دلت آية أخرى على أن المؤمنين من الجنّ يدخلون الجنة، وهي قوله تعالى في سورة الرحمن:  }وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ – فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 46، 47].

     وبه تعلم أن ما ذهب إليه بعض أهل العلم، قائلين إنه يفهم من هذه الآية(99) أن المؤمنين من الجن لا يدخلون الجنة- وأن جزاء إيمانهم وإجابتهم داعي الله هو الغفران وإجارتهم من العذاب الأليم فقط، كما هو نص الآية- كله خلاف التحقيق..

     وقد تمسك جماعة من العلماء منهم الإمام أبي حنيفة- رحمه الله تعالى – بظاهر هذه الآية، فقالوا: إن المؤمنين المطيعين من الجن لا يدخلون الجنة، مع أنه جاء في آية أخرى ما يدل على أن مؤمنيهم في الجنة، وهي قوله تعالى: } وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } لأنه تعالى بين شمولها للجن والإنس بقوله: } فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ويستأنس لهذا بقوله تعالى: }لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } [الرحمن: 56] فإنه يشير إلى أن في الجنة جنًّا يطمثون النساء كالإنس… إلى أن قال: ولو سلّمنا أن قوله: { يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ }  يفهم منه عدم دخولهم الجنة، فإنه يدل عليه بالمفهوم، وقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ – فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } يدل على دخولهم الجنة بعموم المنطوق.والمنطوق مقدم على المفهوم كما تقرر في الأصول.

    قال ابن كثير في تفسيره (4/210) :

     في شرحه آية الأحقاف: وقد استدل بهذه الآية من ذهب من أهل العلم إلى أن الجن المؤمنين لا يدخلون الجنة، وإنما جزاء صالحيهم أن يجاروا من عذاب النار يوم القيامة، ولهذا قالوا: في هذا المقام، وهو مقام تبجح ومبالغة فلو كان لهم جزاء على الإيمان أعلى من هذا لأوشك أن يذكروه.

     والحق:أن مؤمنيهم كمؤمني الإنس يدخلون الجنة،كما هو مذهب جماعة من السلف، وقد استدل بعضهم لهذا بقوله عز وجل }óلَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } [الرحمن: 74]، وفي هذا الاستدلال نظر، وأحسن منه قوله جل وعلا:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ  و فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 46، 47] فقد أمتنَّ تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة، وقد قابلت الجن هذه الآية بالشكر القولي أبلغ من الإنس، فقالوا: ولا بشيء من آلآئك ربنا نكذب فلك الحمد، فلم يكن تعالى ليمتنَّ عليهم بجزاء لا يحصل لهم، وأيضًا فإنه إذا كان يجازي كافرهم بالنار وهو مقام عدل- فلأن يجازي مؤمنهم بالجنة- وهو مقام فضل- بطريق الأولى و الأحرى..

قال ابن القيم في طريق الهجرتين (ص: 424، 425):

     بعد أن ذكر جملة من الآيات الدالة على أن الجن مكلفون.فإذا علم تكليفهم بشرائع الأنبياء ومطالبتهم بها، وحشرهم يوم القيامة للثواب والعقاب، علم أن محسنهم في الجنة كما أن مسيئهم في النار.

وقد دل على ذلك قوله تعالى حكاية عن مؤمنهم: {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ  فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا } [الجن: 13] وبهذه الآية احتج البخاري.

     ووجه الاحتجاج بها أن البخس المنفي هو: نقصان الثواب، والرهق الزيادة في العقوبة على ما عمل، فلا ينقص من ثواب حسناته، ولا يزيد في سيئاته، ونظير هذا قوله تعالى: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا } [طه: 112] أي لا يخاف زيادة سيئاته، ولا نقصان حسناته، وأيضًا فقد قال تعالى:{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ  فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [الرحمن: 46]،وذكر ما في الجنتين إلى قوله تعالى: }لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } وهذا يدل على أن ثواب محسنهم الجنة من وجوه… وساق أربعة أوجه لذلك.

      @وهذا هو الراجح عندي؛ لما تقدم من أدلة أهل العلم ولأنه يوافق مقتضى عدل الله ورحمته وفضله والله أعلم.

المطلب الثامن عشر: هل النبوة خاصة بالإنس دون الجن؟

     إن الله تعالى شرف الرسل وأكرمهم بالنبوة والرسالة، فهم أفضل الخلق، أما الجن فمن ذرية إبليس وخلقوا من نار. وقد ذهب فريق من أهل العلم إلى أن للجن رسل، وحجتهم قول الله تعالى: { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } [الأنعام: 130]، وهذا قول الضحاك ومن وافقه، وهذا قول مرجوح وسيأتي بيان ذلك.

وقال جل ذكره عن إبراهيم عليه السلام: { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27].

     فكل الأنبياء والرسل من ذريته، وغير ذلك من الأدلة. وقال عز وجل: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا  فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ  قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } [الأحقاف: 29، 30].

     قال أبو جعفر الطبري في جامع البيان ( 9/ 561 – 562) :

     وأما الذين قالوا بقول الضحاك، فإنهم قالوا: إن الله تعالى ذكره أخبر أن من الجن رسلًا أرسلوا إليهم، كما أخبر أن من الإنس رسلًا أرسلوا إليهم. قالوا: ولو جاز أن يكون خبره عن رسل الجن بمعنى أنهم رسل الإنس، جاز أن يكون خبره عن رسل الإنس بمعنى أنهم رسل الجن. قالوا: وفي فساد هذا المعنى ما يدل على أن الخبرين جميعًا بمعنى الخبر عنهم أنهم رسل الله، لأن ذلك هو المعروف في الخطاب دون غيره .

   قال ابن كثير في تفسيره (4/208-209) :

     في معرض شرحه للآية: وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نذر، وليس فيهم رُسُل،ولا شك أن الجن لم يبعث الله تعالى منهم رسولاً، لقوله تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَىٰ }[يوسف: 109] وقال عز وجل{ وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ } [الفرقان: 20] وقال عن إبراهيم الخليل عليه السلام:{ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ} [العنكبوت: 27] فكل نبي بعثه الله تعالى بعد إبراهيم من ذريته وسلالته، فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام:{uيَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام: 130] فالمراد من مجموع الجنسين، فيصدق على أحدهما وهو الإنس، كقوله:{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] أي أحدهما، ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم، فقال مخبرًا عنهم:{(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ} [الأحقاف: 30]… وقولهم:{مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ }أي: من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله.

  وقال القرطبي في تفسيره ( 7 / 85 – 86 ):

     قوله تعالى:{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} أي: يوم

نحشرهم نقول لهم ألم يأتكم رسل،فحذف، فيعترفون  بما فيه افتضاحهم. ومعنى” منكم” في الخلق والتكليف والمخاطبة. ولما كانت الجن ممن يخاطب ويعقل قال:”منكم”وإن كانت الرسل من الإنس وغلب الإنس في الخطاب كما يغلب المذكر على المؤنث.وقال ابن عباس: رسل الجن هم الذين بلغوا قومهم ما سمعوه من الوحي(100) ،كما قال:” وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ”. وقال مقاتل والضحاك: أرسل الله رسلا من الجن كما أرسل من الإنس(101). وقال مجاهد: الرسل من الإنس، والنذر من الجن، ثم قرأ” إلى قومهم منذرين “. وهو معنى قول ابن عباس، وهو الصحيح على ما يأتي بيانه في” الأحقاف ” (102). وقال الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى الإنس والجن جميعًا. قلت: وهذا لا يصح، بل في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى كل أحمر وأسود) الحديث(103).

     قال البغوي رحمه الله في تفسيره ( 3/ 190):

     بعد أن ذكر أقوال العلماء كما تقدم من كلام القرطبي:قال مجاهد: الرسل

من الإنس والنذر من الجن، ثم قرأ { وَلَّوْا إِلَىٰ قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } [الأحقاف:

29] وهم قوم يسمعون كلام الرسل فيبلغون الجن ما سمعوا، وليس للجن

رسل.

     فعلى هذا قوله (رسل منكم) ينصرف إلى أحد الصنفين وهم الإنس، كما قال:{ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن: 22] وإنما يخرج من الملح دون العذب، قال:{ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا}  [نوح : 16]،وإنما هو في سماء واحدة.

وهذا هو الراجح عندي والله تعالى أعلم.

تم بحمد الله تعالى

 كتبته

أم تميم / د: عزة بنت محمد رشاد

Pin It on Pinterest

Share This