المقال الحادي والعشرون_هل يجوز للنساء إتباع الجنائز وزيارة القبور ومن يُنزل المرأة في قبرها

>> المقال الحادي والعشرون: هل يجوز للنساء إتباع الجنائز وزيارة القبور ومن يُنزل المرأة في قبرها

فقه المرأة

باب الجنائز – المقالة الواحدة والعشرون

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

فقد ذكرنا في الحلقة الماضية كفن المرأة؟ ومقام الإمام من جنازة المرأة ؟ والحكم إذا اجتمعت جنائز الرجال والنساء، كيف توضع ليصلى عليها؟ وأيضًا صلاة النساء على الجنازة، ونستكمل أحكام الجنائز سائلين الله تعالى أن يتقبل جهد المقل وينفع به المسلمين.

أولًا: هل يجوز للنساء اتباع الجنازة؟

عن أم عطية رضي الله عنها قالت: “نُهينا عن اتباع الجنائز، ولم يعزم علينا”-أخرجه البخاري (1278)، ومسلم (938).

ذهب جمهور أهل العلم إلى كراهة اتباع النساء للجنازة، واستدلوا بقولها رضي الله عنها : «ولم يعزم علينا» أن الكراهة للتنزيه وليست للتحريم.

أقوال أهل العلم:

جاء في الإنصاف (2/518):

يكره للمرأة اتباعها على الصحيح من المذهب، نص عليه وعليه أكثر الأصحاب، … ورخص أحمد في اتباع جنازة يتبعها النساء.

قال أبو حفص: ويحرم بلوغ المرأة القبر.

قال الحافظ في الفتح (3/173):

(ولم يعزم علينا) أي ولم يؤكد علينا في المنع كما أكد علينا في غيره من المنهيات، فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير تحريم.

قال القرطبي: ظاهر سياق حديث أم عطية أن النهي للتنزيه، وبه قال جمهور أهل العلم، ومال مالك إلى الجواز وهو قول أهل المدينة.

جاء في المجموع (5/236):

وأما النساء فيكره لهن اتباعها ولا يحرم، وهذا هو الصواب وهو الذي قاله أصحابنا، وأما قول الشيخ نصر المقدسي رحمه الله: لا يجوز للنساء اتباع الجنازة فمحمول على كراهة التنزيه، فإن أراد به التحريم فهو مردود، مخالف لقول الأصحاب، بل للحديث الصحيح، قالت أم عطية.. وساق حديث الباب.

قال الصنعاني في سبل السلام (2/494):

قولها: لم يعزم علينا ظاهر في أن النهي للكراهة لا للتحريم كأنها فهمته من قرينة وإلا فأصله التحريم وإلى الكراهة ذهب جمهور أهل العلم.

ثانيًا: من يتولى إنزال الميتة في قبرها؟

1- عن أنس t قال: “شهدنا بنت رسول الله r ورسول الله r جالس على القبر، فرأيت عينيه تدمعان، فقال: “هل فيكم من أحد لم يقارف الليلة؟” فقال أبو طلحة: أنا قال: “فانزل في قبرها، فنزل في قبرها فقبرها”- أخرجه البخاري (1342).

يقارف: أي يكتسب، لقوله تعالى: وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ [الأنعام: 113] أي ليكتسبوا ما هم مكتسبون لكن لفظ المقارفة في الحديث أريد به ما هو أخص من ذلك وهو الجماع- الفتح (3/248) بتصرف.

2- عن أنس أن رقية لما ماتت قال رسول الله r: “لا يدخل القبر رجل قارف أهله الليلة” أخرجه أحمد (13431) وصححه النووي في المجموع (5/254).

3- عن عبد الرحمن بن أبزى قال: ماتت زينب بنت جحش فكبر عليها عمر بن الخطاب أربعًا ثم سأل أزواج النبي من يدخلها في قبرها؟ فقلن: من كان يدخل عليها في حياتها – أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (11650)،

لا خلاف بين أهل العلم أن الرجال هم الذين يتولون إنزال الميت في قبره وإن كان الميت امرأة، وذهب جمهور العلماء إلى أن المحارم هم أولى الناس بإنزال المرأة في قبرها وحجتهم حديث عبد الرحمن بن أبزى المتقدم، واستحب أكثر أهل العلم لمن وطئ أهله تلك الليلة أن لا يتولى إنزال الميتة في قبرها واستدلوا بأحاديث أنس التي ذكرناها في الباب.

وها هي أقوال أهل العلم في ذلك:

قال الكاساني في بدائع الصنائع (1/474):

وذو الرحم المحرم أولى بإدخال المرأة القبر من غيره لأنه يجوز له مسها حالة الحياة فكذا بعد الموت، وكذا ذو الرحم المحرم منها أولى من الأجنبي ولو لم يكن فيهم ذو رحم فلا بأس للأجانب وضعها في قبرها ولا يحتاج إلى إتيان النساء للوضع.

قال النووي في المجموع (5/253، 254) بتصرف:

ومما يحتج به من الأحاديث في كون الرجال هم الذي يتولون الدفن وإن كان الميت امرأة حديث أنس t.. وساق الحديث كما تقدم من رواية البخاري، قيل معناه لم يقارف أهله أي لم يجامع، وقيل : لم يقارف ذنبًا، ذكره البخاري عن ابن مبارك عن فليح والأول أرجح، ويؤيده حديث أنس “أن رقية لما ماتت قال رسول الله r: “لا يدخل القبر رجل قارف الليلة أهله” فلم يدخل عثمان بن عفان، رواه أحمد بن حنبل في مسنده، ومعلوم أن أبا طلحة أجنبي من بنات النبي ولكنه كان من صالحي الحاضرين ولم يكن لها هناك رجل محرم إلا النبي فلعله كان  له عذر في عدم نزول قبرها وكذا زوجها، ومعلوم أنها كانت أختها فاطمة وغيرها من محارمها وغيرهن هناك، فدل على أنه لا مدخل للنساء في إدخال القبر والدفن.

قال صاحب المغني (2/316، 317):

لا خلاف بين أهل العلم في أن أولى الناس بإدخال المرأة قبرها محرمها، وهو من كان يحل له النظر إليها في حياته ولها السفر معه، وقد روى الخلال بإسناده عن عمر أنه قام عند منبر رسول الله حين توفيت زينب بنت جحش فقال: ألا إني أرسلت إلى النسوة من يدخلها قبرها.. الحديث كما تقدم في الباب، ولأن محرمها أولى الناس بولايتها في الحياة، فكذلك بعد الموت وظاهر كلام أحمد: أن الأقارب يقدمون على الزوج، قال الخلال: استقامت الرواية عن أبي عبد الله أنه إذا حضر الأولياء والزوج فالأولياء أحب إليه فإن لم يكن الأولياء فالزوج أحق من الغريب، لما ذكرنا من خبر عمر.

جاء في المحلى (3/369) بتصرف:

وأحق الناس بإنزال المرأة في قبرها من لم يطأ تلك الليلة وإن كان أجنبيًا، حضر زوجها أو أولياؤها أو لم يحضروا.. واستدل بحديث أنس في البخاري كما تقدم في الباب.

تعقيب وترجيح

ما ذهب إليه أكثر أهل العلم من أن أولياء الميتة هم أولى الناس بإنزالها قبرها هو الصواب لأثر عمر بن الخطاب.

وأرى صحة ما ذهب إليه الشافعية ومن وافقهم أن المستحب لمن وطئ أهله تلك الليلة أن لا يتولى إنزال الميتة في قبرها لحديث أنس المتقدم، والله تعالى أعلى وأعلم.

ثالثًا: هل يجوز للنساء زيارة القبور؟

1- عن أبي هريرة أن رسول الله r لعن زوارات القبور – أخرجه ابن حبان (3168) وصحيح ابن ماجه (1576) وصحيح الترمذي (1056).

2- عن أنس بن مالك قال: مر النبي بامرأة تبكي عند قبر، فقال: «اتقي الله

واصبري” قالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمصيبتي ولم تعرفه، فقيل لها: إنه النبي فأتت باب النبي فلم تجد عنده بوابين، فقالت: لم أعرفك، فقال: “إنما الصبر عند الصدمة الأولى”- أخرجه البخاري (1283)، ومسلم (15-926).

3- وحديث بريدة وفيه “نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها”- أخرجه مسلم (977).

4- عن عائشة قالت: كيف أقول يا رسول الله –تعني إذا زارت القبور- قال قولي: “السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون”- أخرجه مسلم (974).

5- عن عبد الله بن أبي مليكة أن عائشة أقبلت ذات يوم من المقابر فقلت لها: يا أم المؤمنين من أين أقبلت؟ قالت: من قبر أخي عبد الرحمن بن أبي بكر، فقلت لها: أليس كان رسول الله نهى عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، كان نهى ثم أمر بزيارتها- أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7308).

تنازع الفقهاء في هذه المسألة فذهب طائفة إلى جواز زيارة النساء للقبور وحجتهم في ذلك أحاديث الباب التي ذكرناها، وقالوا: اللعن الذي جاء في الحديث للنساء اللاتي يكثرن الزيارة فيفضي بهن ذلك إلى المخالفات الشرعية كالتبرج والاختلاط بالرجال والصياح والندب واتخاذ القبور مجالس للكلام والنزهة وضياع الوقت ونحوه من المنكرات التي تحدث عند القبور، وهذا مذهب الشافعية ورواية عن أحمد وابن حزم وغيرهم.

وقالت طائفة: اللعن عام في المكثرات وغيرهن.

وهذا الراجح من مذهب أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية.

 ونذكر أقوال كل طائفة في المسألة.

أولا: المجيزون:

قال النووي في المجموع (5/286) بتصرف:

والمختار عند أصحابنا أنهن يدخلن في ضمن الرجال، ومما يدل على أن زيارتهن ليس حرامًا حديث أنس t أن النبي (: “مر بامرأة تبكي عند قبر…” وساق الحديث كما تقدم، وذكر بعده حديث عائشة وأنها سألت النبي ( كيف أقول -يعني إذا زرت القبور- وساق الحديث.

قال الحافظ في الفتح (3/177):

ويؤيد الجواز حديث الباب وموضع الدلالة منه أنه ( لم ينكر على المرأة قعودها عند القبر، وتقريره حجة، وممن حمل الإذن على عمومه للرجال والنساء عائشة فروى الحاكم من طريق ابن أبي مليكة، أنه رآها زارت قبر أخيها عبد الرحمن.. وساق الحديث.

قال أبو عيسى الترمذي في جامعه (1/188)

بعد أن ذكر حديث أن رسول الله ( لعن زوارات القبور: هذا حديث حسن صحيح، وقد رأى بعض أهل العلم أن هذا كان قبل أن يرخص النبي ( في زيارة القبور فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن.

قال القرطبي:

هذا اللعن إنما هو للمكثرات من الزيارة، لما تقتضيه الصفة من المبالغة، ولعل السبب ما يفضي إليه ذلك من تضييع حق الزوج والتبرج وما ينشأ منهن من الصياح ونحو ذلك، فقد يقال: إذا أمن جميع ذلك فلا مانع من الإذن لأن تذكر الموت يحتاج إليه الرجال والنساء.

جاء في سبل السلام (2/503):

وقد قال بعض أهل العلم إن هذا كان قبل أن يرخص النبي ( في زيارة القبور فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء وقال بعضهم: إنما كره زيارة القبور للنساء لقلة صبرهن وكثرة جزعهن ثم ساق بسنده أن عبد الرحمن بن أبي بكرة توفي ودفن في مكة وأتت عائشة قبره.. واستدل أيضا بحديث عائشة (كيف أقول يا رسول الله إذا زرت القبور) الحديث كما تقدم في الباب.

ثانيا: المانعون:

جاء في الإنصاف (2/535، 536):

قوله وهل يكره للنساء -يعني زيارة القبور- على روايتين وأطلقها في الهداية والمذهب والمستوعب والكافي والتلخيص وابن تميم والشرح.

إحداهما: يكره لهن وهو المذهب جزم به الخرقي والوجيز والمنور وغيرهم، وصححه ابن عقيل.. ذكر غيرهم.

قال في مجمع البحرين: هذا أظهر الروايات.

الرواية الثانية: لا يكره فيباح اهـ.

وإلى هذا القول ذهب شيخ الإسلام بن تيمية في مجموع الفتاوى (24/343، 359).

تعقيب وترجيح

الذي يترجح لي في هذه المسألة ما ذهب إليه الشافعية ومن وافقهم من جواز زيارة النساء للقبور للتذكرة بالموت، وذلك إذا لم تفض الزيارة إلى الفتنة أو المخالفات الشرعية كما ذكرنا في الباب، ذلك لقوة الأدلة التي جاءت في ذلك، ومن أظهرها قول عائشة للنبي r (ماذا أقول إذا زرت القبور)، فعلمها رسول الله r الدعاء عند زيارة القبور فهذا إقرار منه لجواز الزيارة للنساء وغير ذلك من الأدلة الصحيحة الصريحة كما ذكرناها في الباب والتي تدل على جواز زيارة النساء للقبور، والله تعالى أعلم.

مجلة التوحيد- المقالة الواحدة والعشرون  من فقه المرأة                  

للدكتورة/ أم تميم عزة بنت محمد

الموقع الرسمي لأم تميم

www.omtameem.com

Pin It on Pinterest

Share This