المقالة السادسة والستون_فقه الطلاق (الرجعة)

المقالة السادسة والستون

فقه الطلاق_الرجعة

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن الطلاق الرجعي ومشروعيته، وعن شروط الرجعة وكيف تحصل، وحق الزوج في الرجعة من غير إذن زوجته، ونستكمل ما بدأناه سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.

أولًا: هل الإشهاد على الرجعة واجب أو مستحب؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد إلى أن الإشهاد على الرجعة مستحب.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:

قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 228].

حيث جعل الزوج أحق بردها، فلو افتقر إلى رضاها لكان الحق لها،.

أن الإشهاد على الطلاق ليس بواجب، فالإشهاد على الرجعة استحبابًا أولى.

ولأن الرجعة لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة، لأن الرجعة لا تفتقر إلى ولي ولا صداق ولا رضا المرأة ولا علمها، فلما لم يعتبر فيها شروط النكاح لم يعتبر فيها الشهادة.

ولأنها رفع تحريم طرأ على النكاح فأشبه الظهار.

ولأن البيع أوكد منها لاعتبار القول فيه دونها، فلما لم تجب الشهادة في البيع، فالرجعة من باب أولى.

وحملوا قوله تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوٓا﴾ على الاستحباب.

القول الثاني: ذهب الشافعي في أحد قوليه وابن حزم إلى وجوب الإشهاد في الرجعة.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:

قوله تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوٓا﴾ قالوا: إن الأمر في الآية للوجوب.

لأنه عقد يستباح به بضع المرأة، فوجب فيه الشهادة كالنكاح- الحاوي (10/319)

أقوال أهل العلم في المسألة:

أولًا: من قال باستحباب الإشهاد على الرجعة:

قال السرخسي في المبسوط (6/22):

والمراد بالآية الاستحباب، ألا ترى أنه جمع بين الرجعة والفرقة وأمر بالإشهاد عليهما، ثم الإشهاد على الفرقة مستحب لا واجب، فكذلك على الرجعة، وهو نظير قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوٓا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ﴾ [البقرة: 282]، ثم البيع صحيح من غير إشهاد، وليس في الرجعة عوض لا قليل ولا كثير لأنه استدامة للملك فلا يستدعي عوضًا، ولهذا لا يعتبر فيه رضاها ولا رضا الولي، ولأن الله تعالى جعل الزوج أحق بذلك… وساق الآية في سورة البقرة كما تقدم.

جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (9/330):

وندب للزوج الإشهاد على الرجعة، وأصابت من منعت نفسها من الزوج له؛ أي: لأجل الإشهاد فتثاب على ذلك.

جاء في الروض المربع (3/184):

ويسن الإشهاد على الرجعة وليس شرطًا فيها؛ لأنها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة، وجملة ذلك أن الرجعة لا تفتقر إلى ولي ولا صداق ولا رضا المرأة ولا علمها، وهي – أي: الرجعية – زوجة يملك منها ما يملكه ممن لم يطلقها.

جاء في شرح المهذب (18/410):

تصح الرجعة من غير ولي وبغير رضاها وبغير عوض؛ لقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ فجعل الزوج أحق بردها، فلو افتقر إلى رضاها لكان الحق لها.

ثانيًا: من قال بوجوب الإشهاد على الرجعة:

قال الماوردي في الحاوي (10/319):

أما الرجعة: فلا تفتقر إلى ولي، ولا إلى قبول الزوجة ويجوز للزوج أن ينفرد بها.

وهل تفتقر إلى شهادة وتكون شرطًا في صحتها أو لا؟ على قولين:

أحدهما: قاله في الإملاء أن الشهادة في الرجعة واجبة مع التلفظ بها، فإن لم يشهد كانت الرجعة باطلة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ فهذا أمر واقتضى الوجوب، ولأنه عقد يستباح به بضع الحرة، فوجب فيه الشهادة كالنكاح.

القول الثاني: نص عليه في القديم والجديد، أنها مستحبة ليست بواجبة؛ لأنه لما لم يعتبر فيها شروط النكاح في غير الشهادة من الولي والقبول – لم يعتبر فيها الشهادة، ولأنها رفع تحريم طرأ على النكاح فأشبه الظهار.

ولأن البيع أوكد منها لاعتبار القول فيه دونها، ثم لم تجب الشهادة في البيع، فكان بأن لا تجب لاعتبار القبول فيه دونها، ثم لم تجب الشهادة في البيع فكان أن لا تجب في الرجعة أولى.

فأما قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ فهو عطف على الرجعة في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: 2]، وعلى الطلاق في قوله: ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ ثم لم تجب في الطلاق وهو أقرب المذكورين فكانت بأن لا تجب في الرجعة لبعدها أولى، فعلى هذا تكون الشهادة عليها ندبًا إن لم تشهد صحت الرجعة.

جاء في المحلى (10/17):

فإن راجعها ولم يشهد، فليس مراجعًا لقول الله تعالى… وساق الآية كما في سورة الطلاق ثم قال: فرق عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، وكان من طلق ولم يشهد ذوي عدل أو راجع ولم يشهد ذوي عدل متعديًا لحدود الله تعالى.

تعقيب وترجيح:

أرى -والله تعالى أعلم- أن الصواب في هذه المسألة أنه يجوز للزوج مراجعة زوجته بغير إذنها كما نقلنا أدلة الجمهور على ذلك، أما الإشهاد في الرجعة فالذي تطمئن له النفس أنه للاستحباب وليس للوجوب لما تقدم من أدلة أهل العلم، والذي يقوي ذلك عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه في حديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري ومسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» ولم يأمره بالإشهاد على المراجعة ولم يقل له: استئذن الزوجة للمراجعة، فالحديث صارف للآية من وجوب الشهادة إلى الاستحباب، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، والله تعالى أعلم بالصواب.

ثانيًا: ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية:

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب مالك والشافعي والإمام أحمد في قول إلى أن الرجعية محرمة فلا يجوز للزوج لمسها ولا النظر إليها حتى يراجعها.

القول الثاني: ذهب أبو حنيفة وأحمد  في قول وابن حزم إلى جواز النظر إلى الرجعية وأن يخلو بها.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:

قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ فسماه الله تعالى: «بعلًا» فهي زوجة له، فجاز النظر إليها والخلوة بها وغير ذلك.

لم يأت نص بمنعه من شيء من ذلك- المحلى (10/16).

أقوال الفقهاء في المسألة:

أولًا: من قال الرجعية محرمة:

 جاء في المدونة (2/7):

قلت: أرأيت إن طلق امرأته تطليقة يملك الرجعة هل تزين له وتشوف له؟ قال: كان قوله الأول لا بأس أن يدخل عليها ويأكل معها إذا كان معها من يتحفظ بها، ثم رجع عن ذلك فقال: لا يدخل عليها ولا يرى شعرها ولا يأكل معها حتى يراجعها، قلت: هل يسعه أن ينظر إليها أو إلى شيء من محاسنها تلذذًا وهو يريد رجعتها في قول مالك؟ قال: لم أسمع من مالك في هذا شيئًا، وليس له أن يتلذذ بشيء منها وإن كان يريد رجعتها حتى يراجعها، وهذا على الذي أخبرتك أنه يكره له أن يخلو معها أو يرى شعرها أو يدخل عليها حتى يراجعها.

جاء في الحاوي الكبير (10/308):

المطلقة طلاقًا رجعيًّا وهو أن يطلقها واحدة أو اثنتين بغير عوض، وهي مدخول بها محرمة عليه قبل الرجعة تحريم المبتوتة في الوطء والاستمتاع والنظر، وبه قال ابن عباس وعبد الله بن عمر، وهو مذهب مالك وعطاء وأكثر الفقهاء.

وظاهر كلام الخرقي أن الرجعية محرمة لقوله: «وإذا لم يدر أواحدة طلق أم ثلاثًا؟ فهو متيقن للتحريم شاك في التحليل» وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا وهو مذهب الشافعي وحكي ذلك عن عطاء ومالك، وقال القاضي: ظاهر المذهب أنها مباحة، قال أحمد في رواية أبي طالب لا تحتجب عنه، وفي رواية أبي الحارث تتشوّف له ما كانت في العدة، فظاهر هذا أنها مباحة له وله أن يسافر بها ويخلو بها ويطأها، وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لأنها في حكم الزوجات فأبيحت له كما قبل الطلاق.

ثانيًا: من قال الرجعية غير محرمة:

جاء في التجريد للقدوري (10/ 5309):

المطلقة الرجعية زوجة، وأحكام الزوجية قائمة.

قال ابن حزم في المحلى (10/16):

في معرض كلامه عن الطلاق الرجعي: … فإذًا هي زوجته فحلال له أن ينظر منها إلى ما كان ينظر إليه منها قبل أن يطلقها وأن يطأها؛ إذ لم يأت نص بمنعه من شيء من ذلك، وقد سماه الله تعالى: «بعلًا» لها إذ يقول عز وجل: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 228].

جاء في الروض المربع شرح زاد المستقنع (ص: 587):

الرجعية (زوجة) يملك منها ما يملكه ممن لم يطلقها و (لها) ما للزوجات من نفقة وكسوة ومسكن (وعليها حكم الزوجات) من لزوم مسكن ونحوه.

تعقيب وترجيح:

ما ذهب إليه الأئمة – أبو حنيفة وأحمد وابن حزم وغيرهم- من جواز النظر إلى الرجعية والخلوة بها هو ما أرجحه لأنها زوجة، ولم يرد نص من الكتاب أو السنة، ولم ينعقد الإجماع على تحريم الرجعية على الزوج، هذا والله تعالى أعلم.

Pin It on Pinterest

Share This