المقالة السابعة والخمسون: باب النكاح_ النفقة

فقه النكاح (المتعة)

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

فقد تحدثنا في مقالة سابقة عن الطلاق الذي يستحق به المتعة ووجوب النفقة والسُّكنى على الزوج، ونستكمل فقه النكاح  سائلين الله _عز وجل_ أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.

أولًا: مقدار النفقة:

اختلف الفقهاء في مقدار النفقة على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء: أبو حنيفة ومالك وأحمد وشيخ الإسلام وغيرهم إلى أن النفقة مرجعها إلى العرف واعتبار حال الزوج والزوجة من اليسار والإعسار والمكان والزمان وعادة أهل البلد في ذلك.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:

قال الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ } [الطلاق: 7].

قوله ﷺ لهند: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»- أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714).

وجه الدلالة:

دلت الآية والحديث على أن النفقة مرجعها العرف واعتبار حال الزوج والزوجة،ولأن الأدلة جاءت مطلقة عن التقدير فمن قدر فقد خالف النص – تفسير القرطبي (18/ 170)، بدائع الصنائع (4/33).

القول الثاني: ذهب الشافعي إلى أن النفقة مقدرة بنفسها على الموسر مُدَّان، وعلى المتوسط مُد ونصف، وعلى المعسر نصف مُد.

واستدلوا على ذلك بالقياس:

وهو قياس النفقة على الكفارات؛ لأنه طعام يقصد به سد الجوع، وطعام يستقر ثبوته في الذمة. ولما كان أكثر الطعام المقدر في الكفارات فدية الأذى قدر فيها لكل مسكين مدان فجُعل أصلا لنفقة الموسر، ولأنه أكثر ما يقتاته الإنسان في الأغلب، ولما كان أقل الطعام المقدر في الكفارات كفارة الوطء في شهر رمضان لكل مسكين مد جُعل أصلا لنفقة المعسر، ووجب عليه لنفقة زوجته في كل يوم مدا، ولأنه أقل ما يقتاته الإنسان في الأغلب، ولما كان المتوسط يزيد على حال المقتر وينقص عن حال الموسر فلم يعتبر بالمعسر لما يدخل على الزوجة من حيف النقصان.

ولم يعتبر بالموسر لما يدخل على الزوج من حيف الزيادة فيعامل بالتوسط بين الأمرين ويجب عليه مد ونصف، لأنه نصف نفقة موسر ونصف نفقة معسر.

أقوال أهل العلم في المسألة:

أولًا: من قال النفقة مرجعها العرف واعتبار حال الزوج والزوجة:

جاء في بدائع الصنائع (4/33):

قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ} [البقرة: 233]، مطلقًا عن التقدير فمن قدر فقد خالف النص، ولأنه أوجبها باسم الرزق ورزق الإنسان كفايته في العرف والعادة كرزق القاضي والمضارب، وروي أن هذا امرأة أبي سفيان قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجلٌ شحيحٌ… الحديث كما تقدم أول المسألة.

جاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/ 77):

وأما مقدار النفقة: فذهب مالك إلى أنها غير مقدرة بالشرع، وأن ذلك راجع إلى ما يقتضيه حال الزوج وحال الزوجة، وأن ذلك يختلف بحسب اختلاف الأمكنة والأزمنة والأحوال.

قال ابن قدامة في المغني (7/377):

والنفقة مقدرة بالكفاية وتختلف باختلاف من تجب له النفقة في مقدارها، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك.

وقال القاضي: هي مقدرة بمقدار لا يختلف في القلة والكثرة، والواجب رطلان من الخبز في كل يوم في حق الموسر والمعسر اعتبارًا بالكفارات… وقال الشافعي: نفقة المقتر مد بمد النبي ﷺ لأن أقل ما يدفع في الكفارة إلى الواحد مد والله سبحانه اعتبر الكفارة بالنفقة على الأهل فقال سبحانه:{مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}  [المائدة: 89]، وعلى الموسر مدان؛ لأن أكثر ما أوجب الله سبحانه للواحد مدين في كفارة الأذى.

ولنا: قول النبي ﷺ لهند: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» فأمرها بأخذ ما يكفيها من غير تقدير ورد الاجتهاد في ذلك إليها، ومن المعلوم أن قدر كفايتها لا ينحصر في المدين بحيث لا يزيد عنهما ولا ينقص، ولأن الله تعالى قال: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ} [البقرة: 233]، وقال النبي ﷺ: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»، وإيجاب أقل من الكفاية من الرزق ترك للمعروف وإيجاب قدر الكفاية وإن كان أقل من مد أو من رطلي خبز إنفاق بالمعروف فيكون ذلك هو الواجب بالكتاب والسنة.

جاء في مجموع الفتاوى لشيخ الإسلام (34/83):

والصواب المقطوع به عند جمهور العلماء أن نفقة الزوجة مرجعها إلى العرف، وليست مقدرةً بالشرع، بل تختلف باختلاف أحوال البلاد والأزمنة وحال الزوجين وعادتهما، فإن الله تعالى قال: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ } [النساء: 19]، وقال النبي ﷺ: « خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»، وقال: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ».

قال ابن القيم في زاد المعاد (5/432):

بعد أن ساق الأدلة من الكتاب والسنة على أن النفقة ليست مقدرة بالشرع إنما تقديرها العرف… قال: والله ورسوله ذكرا الإنفاق مطلقًا من غير تحديد ولا تقدير ولا تقييد فوجب رده إلى العرف لو لم يرده إليه النبي ﷺ فكيف وهو الذي رد ذلك إلى العرف وأرشد أمته إليه؟ ومن المعلوم أن أهل العرف إنما يتعارضون بينهم في الإنفاق على أهليهم حتى يوجب التقدير: الخبز والإدام دون الحب وتقديره، ولأنها نفقة واجبة بالشرع فلم تقدر بالحب كنفقة الرقيق ولو كانت مقدرة لأمر النبي ﷺ هندًا أن تأخذ المقدر لها شرعًا ولما أمرها أن تأخذ ما يكفيها من غير تقدير ورد الاجتهاد في ذلك إليها.

ثانيًا: من قال النفقة مقدرة بنفسها على الموسر مُدَّان، وعلى المتوسط مُد ونصف، وعلى المعسر نصف مُد.

جاء في الحاوي الكبير (11/ 425):

فأما مقدارها. فهو مختلف باليسار والإعسار والتوسط، فوجب أن يكون المقدار مختلفا لاختلاف الأحوال وأن يعتبر بأصل يحمل عليه ويؤخذ المقدار منه، فكان أولى الأصول بها الكفارات لأمرين:

أحدهما: أنه طعام يقصد به سد الجوعة.

والثاني: أنه طعام يستقر ثبوته في الذمة. ثم وجدنا أكثر الطعام المقدر في الكفارات فدية الأذى قدر فيها لكل مسكين مدان فجعلناه أصلا لنفقة الموسر، فأوجبنا عليه لنفقة زوجته في يوم مدين ولأنه أكثر ما يقتاته الإنسان في الأغلب، ووجدنا أقل الطعام المقدر في الكفارات كفارة الوطء في شهر رمضان. عليه لكل مسكين مد. فجعلناه أصلا لنفقة المعسر، وأوجبنا عليه لنفقة زوجته في كل يوم مدا، ولأنه أقل ما يقتاته الإنسان في الأغلب، ثم وجدنا المتوسط يزيد على حال المقتر وينقص عن حال الموسر. فلم نعتبره بالمعسر لما يدخل على الزوجة من حيف النقصان.

ولم نعتبره بالموسر لما يدخل على الزوج من حيف الزيادة فعاملناه بالتوسط بين الأمرين وأوجبنا عليه مدا ونصفا، لأنه نصف نفقة موسر ونصف نفقة معسر.

ثانيًا: حسن معاشرة المرأة:

قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19].

قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/450):

وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ } أي: طيبوا أقوالكم لهن وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله كما قال تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ }[البقرة: 228]، وقال رسول الله ﷺ: «خَيْرُكُمْ خَيْرُكُمْ لِأَهْلِهِ وَأَنَا خَيْرُكُمْ لِأَهْلِي»- صحيح سنن الترمذي (3895).

وكان من أخلاقه ﷺ أنه جميل العشرة دائم البشر، يداعب أهله ويتلطف بهم ويوسعهم نفقة، ويضاحك نساءه حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودد إليها بذلك، قالت: سابقني رسول الله ﷺ فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم ثم سابقته بعدما حملت اللحم فسبقني، فقال: «هَذِهِ بِتِلْكَ»- صحيح: أخرجه الإمام أحمد في المسند (6/264) .

ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله ﷺ فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وقد قال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

وقوله تعالى: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} أي: فعسى أن يكون صبركم في إمساكهن مع الكراهة فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة، كما قال ابن عباس في هذه الآية: هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولدًا ويكون في ذلك الولد خير كثير، وفي الحديث الصحيح: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» -أخرجه مسلم (469) واللفظ «إن كره منها خلقًا رضى منها آخر»- تفسير ابن كثير (1/450).

ومن حسن معاشرتها:

أن يوازي بين حسناتها وسيئاتها ولا يطلب منها الكمال لأنها بشر ويعمل بوصية رسول الله ﷺ في النساء، قال رسول الله r: «وَاسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ مِنْ ضِلَعٍ وَإِنَّ أَعْوَجَ شَيْءٍ فِي الضِّلَعِ أَعْلَاهُ إِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ وَإِنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا»- أخرجه البخاري (5186) ومسلم (62 – 1468).

ثالثًا: حث الزوج الزوجة على فعل الخير:

ومن حسن العشرة أن يعينها على فعل الخير، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَىٰ ۖ وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَّا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].

وفي حديث هند بنت الحارث الذي أخرجه البخاري في صحيحه وفيه «أن أم سلمة زوج رسول الله ﷺ قالت: اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللهِ ﷺ لَيْلَةً فَزِعًا يَقُولُ: سُبْحَانَ اللهِ مَاذَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ الْخَزَائِنِ، وَمَاذَا أُنْزِلَ مِنْ الْفِتَنِ مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ -يُرِيدُ أَزْوَاجَهُ- لِكَيْ يُصَلِّينَ رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الْآخِرَة»– أخرجه البخاري (7069).

وقال ﷺ: «رَحِمَ اللهُ رَجُلًا قَامَ مِنْ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ فَإِنْ أَبَتْ رَشَّ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ»- صحيح سنن ابن ماجه (1336).

وعن أبي سعيد وأبي هريرة عن النبي ﷺ قال: «إِذَا اسْتَيْقَظَ الرَّجُلُ مِنْ اللَّيْلِ وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّيَا رَكْعَتَيْنِ كُتِبَا مِنْ الذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَات»- صحيح سنن ابن ماجه (1335).

إلى غير ذلك من النصوص الدالة على أهمية حث الرجل زوجته على طاعة الله تعالى.

رابعًا: خروج النساء لحوائجهن:

عن عائشة قالت: «خَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ لَيْلًا فَرَآهَا عُمَرُ فَعَرَفَهَا فَقَالَ: إِنَّكِ وَاللهِ يَا سَوْدَةُ مَا تَخْفَيْنَ عَلَيْنَا فَرَجَعَتْ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ وَهُوَ فِي حُجْرَتِي يَتَعَشَّى، وَإِنَّ فِي يَدِهِ لَعَرْقًا فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِ فَرُفِعَ عَنْهُ وَهُوَ يَقُولُ: قَدْ أَذِنَ اللهُ لَكُنَّ أَنْ تَخْرُجْنَ لِحَوَائِجِكُنَّ»- أخرجه البخاري (5237) ومسلم (2170).

قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري (9/249):

ذكر المصنف في الباب حديث عائشة «خرجت سودة لحاجتها» وقد تقدم شرحه وتوجيه الجمع بينه وبين حديثها الآخر في نزول الحجاب في تفسير سورة الأحزاب وذكرت هناك التعقيب على عياض في زعمه أن أمهات المؤمنين كان يحرم عليهن إبراز أشخاصهن ولو كن منتقبات متلفعات، والحاصل في رد قوله كثرة الأخبار الواردة أنهن كن يحججن ويطفن ويخرجن إلى المساجد في عهد رسول الله ﷺ وبعده.

 

Pin It on Pinterest

Share This