المقالة الحادية والسبعون_فقه الطلاق

المقالة الحادية والسبعون

فقه الطلاق

 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن طلاق الهازل وحكم الطلاق المعلق واليمين بالطلاق طلاق المريض.

أولًا: طلاق الغائب:

طلاق الغائب يقع عند أكثر أهل العلم، ومنعه أهل الظاهر، وحجة القائلين بوقوعه حديث فاطمة بنت قيس الآتي:

– عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بنت قيس، أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير، فسخطته فقال: والله ما لك علينا من شيء، فجاءت رسول الله ﷺ فذكرت ذلك له، فقال: «لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ»…- أخرجه مسلم (1480)، وأبو داود (2284) وغيرهما.

قال الإمام النووي في شرحه (5/360):

قوله: (طلّقها البتّة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعيرٍ فسخطته) فيه أنّ الطّلاق يقع في غيبة الـمرأة وجواز الوكالة في أداء الـحقوق وقد أجمع العلماء على هذين الـحكمين.

جاء في الإنصاف (8/471):

الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (8/ 472)

يعني: صريح الطلاق (ونوى الطلاق: وقع) . إذا كتب صريح الطلاق، ونوى به الطلاق: وقع الطلاق. على الصحيح من المذهب. وعليه جماهير الأصحاب.

ثانيًا: هل تحريم المرأة يقع طلاقًا؟

﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ تَبْتَغِى مَرْضَاتَ…﴾ [التحريم: 1-2].

– عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أنه أخبره أنه سمع ابن عباس يقول: «إِذَا حَرَّمَ امْرَأَتَهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ»، وَقالَ: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: 21]- أخرجه البخاري (5266)، قال الحافظ: قوله: «ليس بشيء» يحتمل أن يريد به نفي التطليق، ويحتمل أن يريد ما هو أعم من ذلك، والأول أقرب – فتح الباري (9/288).

وفي رواية عن ابن عباس أنه قال: «إِذَا حَرَّمَ الرَّجُلُ عَلَيْهِ امْرَأَتَهُ فَهِيَ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا»- أخرجه مسلم (19/1473).

اختلف الفقهاء في هذه المسألة اختلافًا كثيرًا:

فذهب ابن عباس إلى أن من قال لزوجته: أنت عليَّ حرام، فهو يمين يكفر عنه كفارة يمين.

مذهب مالك: أن الحرام يقع به ثلاث تطليقات، سواء كانت مدخولًا بها أم لا، وإن نوى أقل من ثلاث تطليقات قُبل في غير المدخول بها خاصة.

وفي رواية  عن مالك أنه يقع به طلقة واحدة بائنة، سواء كانت مدخولًا بها أم لا.

مذهب الشافعي: أنه إن نوى بقوله: أنت حرامٌ، الطلاقَ – وقعَ طلاقًا، وإن نوى ظهارًا كان، وإن نوى تحريم عينها بغير طلاق ولا ظهار لزمه بنفس اللفظ كفارة يمين، ولا يكون ذلك يمينًا.

وإن لم ينو شيئًا؛ ففيه قولان للشافعي:

أصحهما: يلزمه كفارة يمين.

والثاني: أنه لغو لا شيء فيه، ولا يترتب عليه شيء من الأحكام.

أما مذهب أحمد: ففيه ثلاث روايات:

أشهرها: أن التحريم ظهار.

والثانية: أنه من كنايات الطلاق فيقع به الطلاق.

والثالثة: أن التحريم يمين.

مذهب أبي حنيفة: إن نوى بالتحريم الطلاق وقعت طلقة بائنة، وإن نوى ثلاثًا وقع ثلاثًا، وإن نوى اثنتين وقعت واحدة، وإن لم ينو شيئًا فيمين، وإن كذب فلغو.

ومذهب الأئمة (مالك والشافعي وأبي حنيفة) إن لم ينو بالتحريم الظهار – فليس ظهارًا([1]).

أقوال الفقهاء في المسألة:

جاء في الأوسط لابن المنذر (9/194):

بعد أن ذكر أقوال  أهل العلم في قول الرجل لامرأته: أنت علي حرام…

قال: إن أراد الطلاق لزمه ما أراد من عدد الطلاق، وإن أراد الطلاق ولم يكن له نية في عدد الطلاق فهي واحدة يملك الرجعة، وإن أراد الظهار فكفارة الظهار؛ لأنها تشبه كنايات الطلاق والكناية عن الظهار، وإن لم يرد طلاقا ولا ظهارا فليس بشيء.

قال أبو بكر: والأخبار دالة على  أن الذي كان النبي ﷺ حرم على نفسه شربة من عسل وحلف مع ذلك؛ فإنما لزمته الكفارة ليمينه لا لتحريمه ما أحل الله له.

جاء في المدونة الكبرى (2/285):

أرأيت الرجل إذا قال لامرأته: أنت علي حرام، هل تسأله عن نيته أو عن شيء من الأشياء؟

قال: لا يسأل عن شيء عند مالك، وهي ثلاث البتة إن كان قد دخل بها…

قلت: أرأيت إن قال لها: أنت علي حرام، ينوي بذلك تطليقة أو تطليقتين – أيكون ذلك له في قول مالك؟

قال: قال مالك: إن كان قد دخل بها فهي البتة، وليس نيته بشيء، فإن لم يدخل بها فذلك له؛ لأن الواحدة والاثنتين تحرم التي لم يدخل بها، والمدخول بها لا يحرمها إلا الثلاث.

جاء في شرح النووي (5/332) وما بعدها باختصار:

قال القاضي عياض:

في المسألة أربعة عشر مذهبًا:

أحدها: المشهور من مذهب مالك، أنه يقع به ثلاث طلقات، سواء كانت مدخولًا بها أم لا، لكن لو نوى أقل من الثلاث قُبل في غير المدخول بها خاصة، قال: وبهذا المذهب قال أيضًا علي بن أبي طالب وزيد والحسن والحكم.

الثاني: أنه يقع في ثلاث طلقات ولا تقبل نيته في المدخول بها ولا غيرها، قاله ابن أبي ليلى وعبد الملك بن الماجشون المالكي.

والثالث: يقع به على المدخول بها ثلاث وعلى غيرها واحدة، قاله أبو مصعب ومحمد بن عبد الحكم المالكيان.

الرابع: أنه يقع به طلقة واحدة بائنة سواء المدخول بها وغيرها، وهو رواية عن مالك.

والخامس: أنها طلقة رجعية، قاله عبد العزيز بن أبي مسلمة المالكي.

والسادس: أنه يقع ما نوى ولا يكون أقل من طلقة واحدة، قاله الزهري.

والسابع: أنه إن نوى واحدة أو عددًا أو يمينًا، فهو ما نوى وإلا فلغو، قاله سفيان الثوري.

والثامن: مثل السابع إلا أنه إذا لم ينو شيئًا لزمه كفارة يمين، قاله الأوزاعي وأبو ثور.

والتاسع: مذهب الشافعي وسبق إيضاحه، وبه قال أبو بكر وعمر وغيرهما من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم.

والعاشر: إن نوى الطلاق وقعت طلقة بائنة، وإن نوى ثلاثًا وقع الثلاث، وإن نوى اثنتين وقعت واحدة وإن لم ينو شيئًا فيمين، وإن نوى الكذب فلغو، قاله أبو حنيفة وأصحابه.

والحادي عشر: مثل العاشر إلا أنه إذا نوى اثنتين وقعتا، قاله زفر.

والثاني عشر: أنه تجب به كفارة الظهار، قاله إسحاق بن راهويه.

والثالث عشر: هي يمين فيها كفارة اليمين، قاله ابن عباس وبعض التابعين.

والرابع عشر: أنه كتحريم الماء والطعام فلا يجب فيه شيء أصلًا، ولا يقع به شيء بل هو لغو، قاله مسروق والشعبي وأبو سلمة وأصبغ المالكي، هذا كله إذا قال لزوجته الحرة.

جاء في الإنصاف (8/485):

قوله: (وإن قال: أنت علي حرام، أو: ما أحل الله علي حرام – ففيه ثلاث روايات)، وكذا قوله: (الحل علي حرام):

إحداهن: أنه ظهار، وهو المذهب في الجملة؛ قال في الهداية، والمذهب، ومسبوك الذهب، والمستوعب: هذا المشهور في المذهب. وقطع به الخرقي، وصاحب الوجيز، والمنور، ومنتخب الآدمي البغدادي … وهو من مفردات المذهب .

والرواية الثانية: هو كناية ظاهرة، حتى نقل حنبل  والأثرم: الحرام ثلاث، حتى لو وجدت رجلًا حرم امرأته عليه، وهو يرى أنها واحدة، فرقت بينهما.

قال في الفروع: مع أن أكثر الروايات كراهة الفتيا بالكنايات الظاهرة.

قال في المستوعب: لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم، كما تقدم…

والرواية الثالثة: هو يمين.

قال الزركشي: الثالثة: أنه ظاهر في اليمين، فعند الإطلاق ينصرف إليه، وإن نوى الطلاق أو الظهار – انصرف إلى ذلك، انتهى.

وأطلقهن في الكافي.

تنبيـه:

ظاهر قوله: (إحداهن: أنه ظهار، وإن نوى الطلاق) هذا الأشهر في المذهب، ونقله الجماعة عن الإمام أحمد رحمه الله.

وفي (ص: 489): قوله: (وإن لم ينو شيئا، فهل يكون ظهارًا أو يمينًا؟ على وجهين) وهما روايتان، وأطلقهما في الهداية، والمذهب، ومسبوك المذهب، والمستوعب، والمغني، والشرح، والحاوي الصغير، وغيرهم.

أحدهما: يكون ظهارًا، وهو المذهب، صححه في التصحيح، قال في الرعايتين: هذه أشهر…

والثاني: يكون يمينًا.

قال صاحب المغني (7/106):

وإن قال أنت عليّ حرام أعني به الطلاق، فهو طلاق، رواه جماعة عن أحمد… إلى قوله: ثم إن قال أعني به الطلاق أو نوى به ثلاثًا فهي ثلاث، نص عليه أحمد؛ لأنه أتى بالألف واللام التي للاستغراق تفسيرًا للتحريم فيدخل فيه الطلاق.

وفي (ص: 229) قال: إنه إذا قال: أنت علي حرام، فإن به الظهار فهو ظهار في قول عامتهم وبه قال أبو حنيفة والشافعي… وذكر إبراهيم الحربي عن عثمان وابن عباس وأبي قلابة وسعيد بن جبير وميمون بن مهران والبتي أنهم قالوا: الحرام ظهار، وروي عن أحمد ما يدل على أن التحريم يمين وروي عن ابن عباس أنه قال: إن التحريم يمين في كتاب الله عز وجل قال عز وجل: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ﴾ [التحريم: 1]، ثم قال: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـٰنِكُمْ ۚ﴾ [التحريم: 2].

وأكثر الفقهاء على أن التحريم إذا لم ينو به الظهار ليس بظهار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي ووجه ذلك الآية المذكورة وأن التحريم يتنوع، منه ما هو بظهار وبطلاق وبحيض وإحرام وصيام، فلا يكون التحريم صريحًا في واحد منها ولا ينصرف إليه بغير النية كما ينصرف إلى تحريم الطلاق.

تعقيب وترجيح

بعد عرض هذه الأقوال والمذاهب يتبين لنا رجحان قول ابن عباس رضي الله عنهما، ومن وافقه من أن من قال لامرأته أنت عليَّ حرام، لا يكون طلاقًا ولا ظهارًا؛ لأنه لم يتلفظ بلفظ الطلاق ولا الظهار، وإن حلف – كقول: والله أنت عليَّ حرام – يلزمه كفارة اليمين لقوله تعالى:
﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ۖ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَـٰنِكُمْ ۚ﴾، فالتحريم يمين يكفر عنه كفارة اليمين، وهذا ما ذهب إليه حبر الأمة ابن عباس وغيره، والله أعلم.

فائدة:

الكفارة إطعام عشرة مساكين من الطعام الذي يأكله الحالف، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فمن لم يستطع أن يكفر بواحدة من الثلاث لفقره وضيق عيشه فعليه أن يصوم ثلاثة أيام؛ لقوله تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِىٓ أَيْمَـٰنِكُمْ وَلَٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الْأَيْمَـٰنَ ۖ فَكَفَّـٰرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ۖ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَـٰثَةِ أَيَّامٍ ۚ ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيْمَـٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ ۚ ﴾ [المائدة: 89].

 

Pin It on Pinterest

Share This