المقالة الثامنة والثلاثون : باب النكاح – وحكم عضل الولي للمرأة, وأثر عضل الولي للمرأة

المقالة الثامنة والثلاثون: باب النكاح – وحكم عضل الولي للمرأة, وأثر عضل الولي للمرأة<<

فقه المرأة

باب النكاح – المقالة الثامنة والثلاثون

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

     تحدثنا في المقالة السابقة عن ولي المرأة في النكاح، وترتيب الأولياء، وولاية الابن في تزويج أمه، ونستكمل بعض الأحكام المتعلقة بفقه النكاح سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.

عضل الولي للمرأة:

أولًا: تعريف العضل:

العضل لغة:

هو الحبس والمنع، يقال عضل عليه في أمره تعضيلًا أي ضيق عليه وحال بينه وبين ما يريد- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 415).

العضل شرعًا:

عرفه الحنفية بأنه: منع الحرة البالغة من الإنكاح بكفء طلبته- بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 248).

عرفه المالكية بأنه: منع الأب ابنته من النكاح لا لمصلحتها بل لإضرارها- منح الجليل شرح مختصر خليل (3/ 283).

عرفه الشافعية بأنه: أن تدعو البالغة العاقلة إلى تزويجها بكفء فيمتنع الولي-روضة الطالبين وعمدة المفتين (7/ 58).

عرفه الحنابلة بأنه: منع المرأة من التزويج بكفئها إذا طلبت ذلك ورغب كل واحد منهما في صاحبه – المغني لابن قدامة (7/ 31).

ثانيًا: حكم عضل الولي للمرأة:

اتفق الفقهاء على أن عضل المرأة حرام.

واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة:

(أ) من الكتاب:

قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } [البقرة: 232].

وقد أخرج البخاري في صحيحه أن سبب نزول هذه الآية ما روي عن مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، أَنَّهَا نَزَلَتْ فِيهِ، قَالَ: زَوَّجْتُ أُخْتًا لِي مِنْ رَجُلٍ فَطَلَّقَهَا، حَتَّى إِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا جَاءَ يَخْطُبُهَا، فَقُلْتُ لَهُ: زَوَّجْتُكَ وَفَرَشْتُكَ وَأَكْرَمْتُكَ، فَطَلَّقْتَهَا، ثُمَّ جِئْتَ تَخْطُبُهَا، لاَ وَاللَّهِ لاَ تَعُودُ إِلَيْكَ أَبَدًا، وَكَانَ رَجُلًا لاَ بَأْسَ بِهِ، وَكَانَتِ المَرْأَةُ تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الآيَةَ: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] فَقُلْتُ: الآنَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «فَزَوَّجَهَا إِيَّاهُ»- صحيح البخاري (5331).

 (ب) من السنة:

1- عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا- صحيح مسلم (2577).

قال النووي: أي لا تتظالموا، والمراد لا يظلم بعضكم بعضًا، وهذا توكيد لقوله تعالى: وجعلته بينكم محرمًا- شرح النووي على صحيح مسلم (16/132).

قال ابن رجب: يعني أنه تعالى حرم الظلم على عباده، ونهاهم أن يتظالموا فيما بينهم، فحرام على كل عبد أن يظلم غيره- جامع العلوم والحكم (2/35،36).

ولا شك أن العضل نوع من أنواع الظلم، وقد حرم الله تعالى الظلم على نفسه وعلى عباده، والولاية في النكاح ولاية نظر وإحسان لا ولاية قهر واستبداد.

2- قوله صلى الله عليه وسلم ” لا ضرر ولا ضرار”- أخرجه الحاكم في المستدرك، (2345)، والبيهقي في السنن الكبرى، (11384) ، والدارقطني في سننه، (4541) قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه.ا.هـ

قال ابن رجب: الضَّرر هو الاسم، والضِّرار: الفعل، فالمعنى أنَّ الضَّرر نفسَه منتفٍ في الشَّرع، وإدخال الضَّرر بغير حقٍّ كذلك.وقيل: الضَّرر: أنْ يُدخِلَ على غيرِه ضرراً بما ينتفع هو به، والضِّرار: أن يُدخل على غيره ضرراً بما لا منفعةَ له به، … وقيل: الضَّرر: أنْ يضرّ بمن لا يضره، والضِّرار: أن يضرَّ بمن قد أضرَّ به وبكلِّ حال فالنَّبيُّ – صلى الله عليه وسلم – إنَّما نفى الضرر والضِّرار بغير حق- جامع العلوم والحكم (3/ 911)

و العضل نوع من الإضرار بالمرأة،  فهو حرام لما فيه من إلحاق الضرر بالغير.

جاء في العناية شرح الهداية (3/ 257):

فقوله تعالى { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } [البقرة: 232] نهي الولي عن العضل وهو المنع، وإنما يتحقق منه المنع إذا كان الممنوع في يده.

جاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/ 42):

واتفقوا على أنه ليس للولي أن يعضل وليته إذا دعت إلى كفء، وبصداق مثلها، وأنها ترفع أمرها إلى السلطان فيزوجها، ما عدا الأب فإنه اختلف فيه المذهب.

جاء في الحاوي الكبير (9/ 37):

قال الشافعي رحمه الله تعالى: فدل كتاب الله عز وجل وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام على أن حقا على الأولياء أن يزوجوا الحرائر البوالغ إذا أردن النكاح ودعون إلى رضا قال الله تعالى: { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} … ووجوبه على الأولياء معتبر بخمس شرائط، وهو أن تكون حرة بالغة عاقلة تدعو إلى كفء عن تراض فيلزمه إنكاحها ولا يسوغ له منعها.

ثالثًا: أثر عضل الولي للمرأة:

إذا تحقق العضل من الولي وامتنع من تزويج المرأة انتقلت الولاية عنه إلى غيره، واختلف الفقهاء فيمن تنتقل إليه الولاية هل هو الولي الأبعد أم الحاكم على قولين:

القول الأول: إذا امتنع الولي الأقرب انتقلت الولاية إلى الأبعد، فإن امتنع الأبعد انتقلت الولاية للحاكم. وإلي هذا القول ذهب الحنفية والشافعية في قول والحنابلة في قول.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:

1- عن عائشة أن رسول الله r قال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَه»- رواه الترمذي في سننه (1102) وأبو داود في سننه (2083) والإمام أحمد في مسنده (24205) وابن حبان في صحيحه (4062) وصححه الألباني في صحيح  سنن أبي داود (1817).

قال الصنعاني:

«فإن اشتجروا» عائد إلى الأولياء الدال عليهم ذكر الولي والسياق، والمراد بالاشتجار منع الأولياء من العقد عليها، وهذا هو العضل، وبه تنتقل الولاية إلى السلطان إن عضل الأقرب، وقيل بل تنتقل إلى الأبعد، وانتقالها إلى السلطان مبني على منع الأقرب الأبعد، وهو محتمل، ودل على أن السلطان ولي من لا ولي لها لعدمه أو لمنعه، ومثلهما غيبة الولي- سبل السلام (2/ 173)

2- قياس ولاية العضل على ولاية شارب الخمر، بجامع أن كلًا منهما فاسق تسقط ولايته، فكما أن شارب الخمر تنقل ولايته للولي الأبعد فكذا ولاية الولي العاضل- المغني لابن قدامة (7/ 30):

3- قياس العاضل على المجنون بجامع أن كلًا منهما يتعذر حصول النكاح من جهته، فكما أن المجنون تنتقل ولايته للولي الأبعد فكذا الولي العاضل- المغني لابن قدامة (7/ 30):

القول الثاني:

إن امتنع الولي الأقرب انتقلت الولاية للسلطان ولا تنتقل للولي الأبعد. وإليه ذهب الحنفية والمالكية والشافعية في قول و الإمام أحمد في رواية.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:

1- عن عائشة أن رسول الله r قال: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا فَإِنْ اشْتَجَرُوا فَالسُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَه»- تقدم تخريجه.

قال القاري: فإن اشتجروا: اختلفوا وتنازعوا أي الأولياء اختلافًا للعضل كانوا كالمعدومين، وقوله: (فالسلطان ولي من لا ولي له) لأن الولي إذا امتنع من التزويج فكأنه لا ولي لها فيكون السلطان وليها وإلا فلا ولاية للسلطان مع وجود الولي – مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (5/ 2062).

2- أن عضل الولي بلا مبرر شرعي يعتبر ظلمًا، وولاية رفع المظالم عن الناس إلى السلطان- المبدع في شرح المقنع (6/ 111).

3- قياس النكاح على الدَّين الذي على الولي للمرأة بجامع أن كلًا منهما حق للمرأة على وليها، فكما أن الحاكم  له أن ينتزع الدين من الولي لصالح المرأة

 

فكذا يحق للحاكم  أن يلي أمر تزويج المرأة المتعذر نكاحها من جهة وليها- المغني لابن قدامة (7/ 30):

وهذه أقوال العلماء في المسألة:

جاء في تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (5/ 220):

 فإذا طلب من الأب، وأبى صار الأب عاضلا له فانتقلت الولاية إلى القاضي كالولي في باب النكاح إذا عضل انتقلت الولاية بسبب العضل إلى القاضي؛ لأن الإنكاح من الكفء حق المرأة قبل الولي فإذا امتنع الولي من الإيفاء انتقلت الولاية إلى القاضي .

جاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/ 42):

واتفقوا على أنه ليس للولي أن يعضل وليته إذا دعت إلى كفء، وبصداق مثلها، وأنها ترفع أمرها إلى السلطان فيزوجها.

جاء في روضة الطالبين وعمدة المفتين (7/ 65):

إذا قلنا: الفاسق لا يلي، فالولاية للأبعد على الصحيح، وبه قطع الجمهور. وحكى الحناطي وجها: أنها للسلطان. ثم الفسق إنما يتحقق بارتكاب كبيرة، أو إصرار على صغيرة، وليس العضل من الكبائر، وإنما يفسق به إذا عضل مرات، أقلها فيما حكى بعضهم – ثلاث، وحينئذ فالولاية للأبعد.

جاء في المغني لابن قدامة (7/ 30):

إذا عضلها وليها الأقرب، انتقلت الولاية إلى الأبعد. نص عليه أحمد وعنه رواية أخرى، تنتقل إلى السلطان. وهو اختيار أبي بكر وذكر ذلك عن عثمان بن عفان – رضي الله عنه – وشريح وبه قال الشافعي لقول النبي – صلى الله عليه وسلم -: «فإن اشتجروا، فالسلطان ولي من لا ولي له» . ولأن ذلك حق عليه امتنع من أدائه، فقام الحاكم مقامه، كما لو كان عليه دين فامتنع من قضائه. ولنا، أنه تعذر التزويج من جهة الأقرب، فملكه الأبعد، كما لو جن. ولأنه يفسق بالعضل، فتنتقل الولاية عنه، كما لو شرب الخمر. فإن عضل الأولياء كلهم زوج الحاكم. والحديث حجة لنا؛ لقوله: «السلطان ولي من لا ولي له» .وهذه لها ولي. ويمكن حمله على ما إذا عضل الكل، لأن قوله: (فإن اشتجروا)  ضمير جمع يتناول الكل. والولاية تخالف الدَّين من وجوه ثلاثة؛ أحدها، أنها حق للولي، والدين حق عليه. الثاني، أن الدين لا ينتقل عنه، والولاية تنتقل لعارض؛ من جنون الولي. أو فسقه أو موته. الثالث، أن الدين لا يعتبر في بقائه العدالة، والولاية يعتبر لها ذلك، وقد زالت العدالة بما ذكرنا. فإن قيل: فلو زالت ولايته لما صح منه التزويج إذا أجاب إليه، قلنا: فسقه بامتناعه، فإذا أجاب فقد نزع عن المعصية، وراجع الحق، فزال فسقه، فلذلك صح تزويجه. والله أعلم.

تعقيب وترجيح

بعد عرض أقوال الفقهاء وأدلتهم أرى والله تعالى أعلم رجحان ما ذهب إليه أصحاب القول الأول من أن الولاية تنقل إلى الولي الأبعد، لأنه لا موجب للعدول عنه إلى السلطان، ولأن القرابة مهما بعدت فهي داعية إلى الشفقة والنظر، وهي أقوى من شفقة السلطان، لأن شفقته بالولاية العامة وشفقة الولي بالقرابة، إلا إذا امتنع جميع الأولياء فتنتقل إلى الحاكم.

مجلة التوحيد- المقالة الثامنة والثلاثون  من فقه المرأة                  

للدكتورة/ أم تميم عزة بنت محمد

الموقع الرسمي لأم تميم

www.omtameem.com

 

Pin It on Pinterest

Share This