المقالة الثالثة والستون_فقه النكاح

المقالة الثالثة والستون

فقه الطلاق

 بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

     فقد انتهينا بفضل الله تعالى من فقه النكاح، ونبدأ بإذن الله تعالى في فقه الطلاق سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.

أولًا: تعريف الطلاق:

الطلاق في اللغة: التخلية، يقال: طلقت الناقة، إذا سرحت حيث شاءت، والإطلاق: الإرسال. يقال طلق الرجل امرأته تطليقًا فهو مطلق فإن كثر تطليقه للنساء قيل

مطليق ومطلاق، والاسم: الطلاق- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير (2/ 376)

الطلاق في الشرع:

عرفه الحنفيه بأنه: رفع الحل الذي به صارت المرأة محلًا للنكاح إذا تم العدد ثلاثًا- المبسوط للسرخسي (6/ 2).

وعرفه المالكية بأنه: صفة حكمية ترفع حلية متعة الزوج بزوجته موجبًا تكررها مرتين للحر ومرة لذي رق حرمتها عليه قبل زوج. مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (4/ 18).

وعرفه الشافعية بأنه: حل عقد النكاح بلفظ الطلاق ونحوه- أسنى المطالب في شرح روض الطالب (3/ 263).

وعرفه الحنابلة بأنه: حل قيد النكاح أو بعضه- الروض المربع لمنصور البهوتي (3/143).

ثانيًا:مشروعية الطلاق:

الطلاق مشروع بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿الطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ ۗ ﴾

وقوله تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1].

أما السنة: فما روى ابن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله علي وسلم فسأل عمرُ رسولَ الله صلى الله علي وسلم عن ذلك، فقال له رسول الله صلى الله علي وسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»- أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471) وغيرهما.

أما الإجماع:

فقد أجمع الناس: على جواز الطلاق، والعبرة دالة على جوازه، فإنه ربما فسدت الحال بين الزوجين فيصير بقاء النكاح مفسدة محضة وضررًا مجردًا بإلزام الزوج النفقة والسكنى، وحبس المرأة مع سوء العشرة والخصومة الدائمة من غير فائدة، فاقتضى ذلك شرع ما يزيل النكاح لتزول المفسدة الحاصلة منه- المغني (7/66).

ثالثًا:أقسام الطلاق:

أولًا: طلاق السُّنة: هو الطلاق الذي وافق أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم في الآية والحديث المذكورين.

قال ابن قدامة: ولا خلاف في أنه إذا طلقها في طهر لم يصبها فيه، ثم تركها حتى تنقضي عدتها – أنه مصيب للسنة مطلق للعدة التي أمر الله بها. قاله ابن عبد البر وابن المنذر.

وقال ابن مسعود: طلاق السنة أن يطلقها من غير جماع، وقال في قوله: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1]، قال: طاهرًا من غير جماع، ونحوه عن ابن عباس- المغني (7/66).

ثانيًا: طلاق البدعة: أن يطلق الرجل زوجته وهي حائض أو يطلقها في طهر قد  جامعها فيه.

رابعًا: حكم الطلاق البدعي:

لا خلاف بين أهل العلم على تحريم طلاق البدعة.

قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (33/71):

فأما الطلاق المحرم مثل أن يطلقها في الحيض أو يطلقها بعد أن يطأها وقبل أن يبين حملها، فهذا الطلاق محرم باتفاق العلماء.

قال ابن قدامة في المغني (7/67):

أما المحظور فالطلاق في الحيض أو في طهر جامعها فيه، أجمع العلماء في جميع الأمصار وكل الأعصار على تحريمه، ويسمى طلاق البدعة؛ لأن المطلق خالف السنة وترك أمر الله تعالى ورسوله، قال تعالى: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾.

خامسًا:  هل يقع طلاق البدعة؟

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء:  أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد إلى وقوع طلاق البدعة.

 وحجتهم في ذلك:

– عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأل عمر _رضي الله عنه_ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»– أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471) وغيرهما.

وجه الدلالة:

دل قوله صلى الله عليه وسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا…» على أن الطلاق واقع، لأن الرجعة تكون بعد الطلاق.

القول الثاني: ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن حزم إلى أن الطلاق البدعي لا يقع.

وحجتهم في ذلك:

أن النكاح المحرم لا يقع، والبيع المحرم لا يقع، فكذلك الطلاق المحرم البدعي لا يقع.

عن أيمن مولى عروة يسأل ابن عمر وأبو الزبير يسمع، قال: كيف ترى في رجل طلق امرأته حائضًا؟ قال: طلق عبد الله بن عمر امرأته وهي حائض على عهد رسول الله ﷺ، فسأل

عمر رسول الله ﷺ فقال: إن عبد الله بن عمر طلق امرأته وهي حائض، قال: «فردّها عليّ ولم يرها شيئًا»– رواه أبو داود (2/637) وغيره.

صوب مسلم رواية (مولى عزة) وليس مولى عروة.

أقوال أهل العلم في زيادة ولم يرها شيئًا:

قال أبو داود في السنن (2/637):

عقب إخراجه الحديث على زيادة «ولم يرها شيئا»: روى هذا الحديث عن ابن عمر يونس بن جبير وأنس بن سيرين وسعيد بن جبير وزيد بن أسلم وأبو الزبير ومنصور عن أبي وائل، معناهم كلهم: أن النبي ﷺ أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، وكذلك رواه محمد بن عبد الرحمن عن سالم عن ابن عمر.

أما رواية الزهري عن سالم ونافع عن ابن عمر أن النبي ﷺ أمره أن يراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر  ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك، وروي عن عطاء الخراساني عن الحسن عن ابن عمر نحو رواية نافع والزهري، والأحاديث كلها على خلاف ما قال أبو الزبير.

قال الخطابي في معالم السنن مع سنن أبي داود (2/636):

حديث يونس بن جبير أثبت من هذا، وقال أبو داود: جاءت الأحاديث كلها بخلاف ما رواه أبو الزبير، وقال أهل الحديث: لم يرو أبو الزبير حديثًا أنكر من هذا، وقد يحتمل أن يكون معناه أنه لم يرها شيئًا باتًّـا يحرم معه المراجعة ولا تحل له إلا بعد زوج، أو لم يره شيئًا في السنة ماضيًا في حكم الاختيار، وإن كان لازمًا على سبيل الكراهة، والله أعلم.

جاء في سنن البيهقي (7/327):

قال الشافعي: ونافع أثبت عن ابن عمر من أبي الزبير، والأثبت من الحديثين أولى أن يقال به إذا خالفه، قال: وقد وافق نافع غيره من أهل التثبت في الحديث، فقيل له: أحسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله ﷺ تطليقة؟ قال: فمه؟ وإن عجز؛ يعني: أنها حسبت، والقرآن يدل على أنها تحسب، قال تعالى: ﴿الطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ ۗ ﴾ [البقرة: 229]، لم يخصص طلاقًا دون طلاق، ثم ساق الكلام إلى أن قال: وقد يحتمل أن يكون لم تحسب شيئًا صوابًا غير خطأ، كما يقال للرجل: أخطأ في فعله، وأخطأ في جواب أجاب به: لم يصنع شيئًا، يعني: لم يصنع شيئًا صوابًا.

وفي الفتح (9/354):

قال ابن عبد البر: قوله: «ولم يرها شيئًا» منكر لم يقله غير أبي الزبير وليس بحجة فيما خالفه فيه مثله، فكيف بمن هو أثبت منه، ولو صح فمعناه عندي – والله أعلم – ولم يرها شيئًا مستقيمًا؛ لكونها لم تقع على السنة. انتهى

عن نافع مولى ابن عمر عن ابن عمر أنه قال في الرجل يطلق امرأته وهي حائض، قال ابن عمر: لا يعتد لذلك- هكذا أورده ابن حزم في المحلى (10/163) وابن القيم – نقلا عنه – في زاد المعاد (5/221).

وزعما – بسببه مع غيره – أن الخلاف معلوم الثبوت عن المتقدمين والمتأخرين، فالخلاف وإن كان موجودا إلا أنه لا يكاد يذكر.

وقد أخرجه ابن أبي شيبة من نفس  الطريق في المصنف (5/5): نا عبد الوهاب الثقفي عن  عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر في الذي يطلق امرأته وهي حائض، قال: لا تعتد بتلك الحيضة.

ويناقش: بأن هذا الأثر لا يصلح لإنشاء خلاف بين السلف، ولا القول بأنه دَبَّ نزاع بين السلف في مسألة احتساب تطليق الحائض.

أقوال أهل العلم في المسألة:

أولاً: القائلون بوقوع الطلاق البدعي:

قال ابن الهمام الحنفي في فتح القدير (3/461):

وإذا طلق الرجل امرأته في حالة الحيض وقع الطلاق؛ لأن النهي عنه لمعنى في غيره وهو ما ذكرناه فلا ينعدم مشروعيته، ويستحب له أن يراجعها لقوله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»، وقد طلقها في حالة الحيض.

جاء في الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (5/187):

وينهى أن يطلق في الحيض، فإن طلق لزمه ويجبر على الرجعة ما لم ينقض العدة، والتي لم يدخل بها يطلقها متى شاء.

قال الشيرازي في شرح المهذب (18/216):

بعد أن ساق حديث الباب… قال: لأنه إذا طلقها في الحيض أضر بها في تطويل العدة، وإذا طلقها في الطهر الذي جامعها فيه قبل أن يستبين الحمل لم يأمن أن تكون حاملًا فيندم على مفارقتها مع الولد، ولأنه لا يعلم هل علقت بالوطء فتكون عدتها بالحمل أو لم تعلق فتكون عدتها بالأقراء… إلى أن قال: وإن طلقها في الحيض أو الطهر الذي جامع فيه وقع الطلاق؛ لأن ابن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته وهي حائض فأمره النبي  أن يراجعها فدل ذلك على أن الطلاق وقع.

وفي المغني (7/68):

قال ابن قدامة: فإن طلق للبدعة وهو أن يطلقها حائضًا أو في طهر أصابها فيه: أثم ووقع طلاقه في قول عامة أهل العلم.

قال ابن المنذر وابن عبد البر: لم يخالف في ذلك إلا أهل البدع والضلال وحكاه أبو نصر عن ابن علية وهشام بن الحكم… واستدل بحديث ابن عمر المتقدم.

قال المرداوي في الإنصاف (8/447):

الصحيح من المذهب: أن طلاقها في حيضها أو طهر أصابها فيه، محرم ويقع، نص عليهما، وعليه الأصحاب.

جاء في التمهيد (7/319):

قال ابن عبد البر -بعد أن ساق حديث ابن عمر وغيره-: فهذه الآثار كلها توضح لك ما قلناه عن ابن عمر، وفي قول رسول الله ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» دليل على أنها طلقة؛ لأنه لا يؤمر بالمراجعة إلا لمن لزمته الطلقة، ولو لم تلزمه لقال: دعه فليس هذا بشيء أو نحو هذا.

قال أبو جعفر الطحاوي في شرح المعاني (2/416):

من طلق امرأته وهي حائض فقد أثم وينبغي له أن يراجعها، فإن طلاقه ذلك طلاق خطأ، فإن تركها تمضي في العدة بانت منه بطلاق خطأ… قال: فهذا قول أبي حنيفة رحمه الله.

ثانيًا: المانعون من وقوع الطلاق البدعي:

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (33/71):

الطلاق المحرم في الحيض وبعد الوطء: هل يلزم؟ فيه قولان للعلماء، والأظهر أنه لا يلزم كما لا يلزم النكاح المحرم والبيع المحرم.

قال ابن حزم في المحلى (9/363):

فإن طلقها طلقة أو طلقتين في طهر وطئها فيه أو في حيضتها، لم ينفذ ذلك الطلاق، وهي امرأته كما كانت.

وإلى القول بمنع وقوع الطلاق البدعي ذهب ابن القيم في زاد المعاد (5/195- 213)؛ فقد ساق أدلة كل فريق في المسألة، وانتصر لرأيه بشدة.

تعقيب وترجيح:

والذي يظهر لي – بعد عرض أقوال أهل العلم في المسألة – رجحان قول جمهور العلماء بوقوع طلاق البدعة لحديث ابن عمر؛ لأن منطوق ومفهوم كلمة «فَلْيُرَاجِعْهَا» هو رجوع الزوجة إلى زوجها بعد وقوع طلاق، وهذا ما فهمه عامة أهل العلم -منهم الأئمة الأربعة- والله تعالى أعلم.

 

Pin It on Pinterest

Share This