المقالة التاسعة والستون_فقه الطلاق (الطلاق البائن)

المقالة التاسعة والستون

فقه الطلاق

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

فقد انتهينا من الكلام عن الرجعة، وبينا هل الإشهاد على الرجعة واجب أم مستحب،  وبينا ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية ونستكمل ما بدأناه سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.

أولًا: الطلاق البائن:

إذا طلق الرجل زوجته ولم يدخل بها -طلقة- فقد بانت منه، ولا تحل له إلا بنكاح جديد. وكذا إذا طلق الرجل زوجته ثلاث طلقات فقد بانت منه.

قال ابن المنذر في الإجماع (ص: 43):

وأجمعوا على أن من طلق زوجته ولم يدخل بها -طلقة- أنها قد بانت منه، ولا تحل له إلا بنكاح جديد، ولا عدة له عليها

وأجمعوا أن من طلق زوجته أكثر من ثلاث أن ثلاثًا منها تحرمها عليه.

ثانيًا: الهدمُ:

تحرير محل النزاع:

أولًا: اتفق الفقهاء على أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاث تطليقات لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره ويدخل بها.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:

1- قال تعالى: ﴿الطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ﴾  إلى قوله تعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ۗ فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ ۗ﴾ [البقرة: 229- 230].

2- عن عائشة، قالت: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِيِّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ، فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ؛ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّـهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ»-أخرجه مسلم (1433).

ثانيًا: اتفقوا على أن الزوج الثاني إذا طلقها بعد الدخول بها وانتهت عدتها وأراد الزوج الأول أن يرجع لها ملك عليها ثلاث تطليقات.

ثالثًا: اختلفوا في الرجل يطلق زوجته مرة أو اثنتين فتنقضي عدتها وتتزوج غيره ثم يطلقها الثاني، فإذا عاد إليها الأول فهل يرجع لها على ما بقي له من التطليقات الثلاث؟ أم أن العقد الجديد يهدم ما قبله ويبقى له عليها ثلاث تطليقات؟ على قولين:

القول الأول:  العقد الجديد يهدم ما قبله ويبقى له عليها ثلاث تطليقات، وإليه ذهب أبو حنيفة.

القول الثاني: يرجع لها على ما بقي له من التطليقات الثلاث، وإليه ذهب زفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن ومالك والشافعي والأوزاعي وابن أبي ليلى.

أقوال الفقهاء في المسألة:

جاء في رد المحتار (11/316):

في معرض كلامه عن مسألة الهدم: وحاصلها أن الزوج الثاني يهدم الثلاث، وما دونها عندهما، وعند محمد يهدم الثلاث فقط.

قوله: (وثمرته) أي: ثمرة الخلاف في مسألة الهدم.

قوله: (له رجعتها) أي: عندهما؛ لأن الزوج الثاني عَدِمَ الواحدة الباقية وعادت المرأة إلى الأول بملك جديد، فيملك عليها ثلاث طلقات.

قال الماوردي في الحاوي (10/286):

وإن نكحت زوجًا وأصابها ثم طلقها وعاد الأول بعد عدتها من الثاني وتزوجها، فقد اختلف الفقهاء فيه، فذهب الشافعي إلى أن وجود الزوج الثاني كعدمه، وأنه لا يرفع ما تقدم من طلاق الأول، وإذا نكحها الأول بعده كانت معه على ما بقي من الطلاق، فإن كان الطلاق واحدة بقيت معه على اثنتين، وإن كان اثنتين بقيت على واحدة، فإن طلقها في النكاح الثاني واحدة حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، وبه قال من الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وأبو هريرة.

ومن الفقهاء: مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وزفر بن الهذيل ومحمد بن الحسن.

وقال الشوكاني في السيل الجرار (2/398):

وإذا عرفت أن التثليث هو مورد النص، فاعلم أنه لم يرد في شيء من الكتاب والسنة ما يدل على أنها إذا نكحت زوجًا غيره بعد طلقة أو طلقتين، أن الطلقة أو الطلقتين يكون لها حكم الثلاث في الانهدام، لكن هاهنا قياس قوي، قياس يسمونه قياس الأَوْلى، وتارة يسمونه فحوى الخطاب، فإنه يدل على أن انهدام ما دون الثلاث مأخوذ من الآية بطريق الأَوْلى، ويعضد هذا أن الاحتساب بما وقع من طلاق الزوج عليها بعد أن نكحت زوجًا غيره خلاف ما يوجبه الحل المفهوم من قوله: ﴿فَلَا تَحِلُّ لَهُ﴾ [البقرة: 230]، فإن ظاهره أنها تحل له الحل الذي يكون للزوج على زوجته لو تزوجها ابتداء.

ثالثًا: من يقع منه الطلاق؟

تحرير محل النزاع:

أولًا: اتفق الفقهاء على أن طلاق المسلم العاقل البالغ – الذي ليس سكران ولا مكرهًا ولا غضبان ولا محجورًا عليه ولا مريضًا لزوجة قد تزوجها زواجًا صحيحًا، جائز إذا لفظ به بعد النكاح مختارًا له حينئذٍ، وأوقعه في وقت الطلاق بلفظ الطلاق على سنة الطلاق فإنه طلاق.

ثانيًا: وأجمعوا على أن المجنون والمعتوه لا يجوز طلاقه.

ثالثًا: اختلف الفقهاء في طلاق المكره على قولين.

 القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم إلى أن طلاق المكره لا يقع، وحجتهم في ذلك أدلة الباب، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وابن حزم وابن القيم وغيرهم.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:

قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَـٰنِ﴾ [النحل: 106].

عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْـخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ». صحيح سنن ابن ماجة (2043) والبيهقي في السنن الكبرى (11/262)، والإرواء (82).

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي غِلَاقٍ»- أخرجه أحمد (6/276)، وصحيح سنن أبي داود (2193)، وصحيح ابن ماجة (2046)، والدارقطني (4/11)- قال الحافظ: قد ضعفه أبو حاتم الرازي – تلخيص الحبير (3/450)، وقال المنذري: في إسناده محمد بن عبيد بن صالح المكي وهو ضعيف.

القول الثاني: ذهب قوم إلى أن طلاق المكره يقع، وهذا مذهب أبي حنيفة.

واستدلوا على ذلك بما يأتي:           

أن النية لا اعتبار لها بدليل أن الهازل واللاعب يقع منهما الطلاق،

أقوال الفقهاء في المسألة:

جاء في العناية شرح الهداية (5/285):

وطلاق المكره واقع، خلافًا للشافعي، هو يقول: إن الإكراه لا يجامع الاختيار وبه يعتبر التصرف الشرعي، بخلاف الهازل فإنه مختار في التكلم بالطلاق.

جاء في التاج والإكليل لمختصر خليل (6/36):

قول مالك: المكره على اليمين ليس يمينه بشيء وإن أكره… قال اللخمي: من وقع منه الطلاق بغير نية، فالصحيح من المذهب أنه لا يلزمه، وهو في المكره أبين.

قال الشافعي في الأم (9/208):

وكل مكره ومغلوب على عقله فلا يلحقه الطلاق.

وفي الحاوي الكبير (10/227):

قال الماوردي: وأما المكره على الطلاق إذا تلفظ به كرهًا غير مختار لم يقع طلاقه… إلى أن قال ودليلنا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْـخَطَأَ…» وساق الحديث كما تقدم.

قال المرداوي في الإنصاف (8/438):

ومن أُكره على الطلاق بغير حق: لم يقع طلاقه، هذا المذهب مطلقًا، نص عليه في رواية الجماعة وعليه الأصحاب.

وفي عون المعبود (6/188):

قال الحافظ شمس الدين ابن القيم رحمه الله: في ثنايا شرحه لحديث: «ثَلَاثٌ جدُّهُنَّ ِجِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» صحيح سنن أبي داود (2194)، وصحيح ابن ماجة (2039)، وصحيح الترمذي (1184)، والدارقطني (3895)، قال الشوكاني: قال الحافظ ابن حجر إسناده حسن – السيل الجرار (2/366)، وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أردك. قال النسائي: منكر الحديث (ميزان الاعتدال 4/270)، وأورد الذهبي هذا الحديث في ترجمته مستنكرا له.

وقد احتج به من يرى طلاق المكره لازمًا، قال: لأن أكثر ما فيه أنه لم يقصده والقصد لا يعتبر في الصريح بدليل وقوعه من الهازل واللاعب، وهذا قياس فاسد، فإن المكره غير قاصد للقول ولا لموجبه، وإنما حُمل عليه وأكره على التكلم به ولم يكره على القصد، وأما الهازل فإنه تكلم باللفظ اختيارًا وقصد به غير موجبه وهذا ليس إليه، بل إلى الشارع، فهو أراد اللفظ الذي إليه، وأراد أن لا يكون موجبه، وليس إليه، فإن من باشر سبب ذلك باختياره لزمه مسببه ومقتضاه وإن لم يُرِدْه، وأما المكره فإنه لم يرد لا هذا ولا هذا، فقياسه على الهازل غير صحيح؛ انتهى.

وإلى القول بعدم وقوع طلاق المكره ذهب ابن حزم في المحلى (9/462) مسألة 1962.

تعقيب وترجيح

ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم ومنهم الأئمة الثلاثة (مالك والشافعي وأحمد) من أن طلاق المكره لا يقع -هو ما أرجحه للأدلة الصحيحة الصريحة على هذا القول.

والله تعالى أعلم.

رابعًا: طلاق السكران:

تنازع الفقهاء في طلاق السكران على قولين:

القول الأول: ذهب فريق إلى أنه يقع، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي في أحد قوليه ورواية عن أحمد وغيرهم..

وحجتهم في ذلك:

بعض الآثار عن الصحابة والتابعين، ومنها:

أثر عمر – عن سليمان بن يسار قال: إن رجلًا من آل البختري طلق امرأته وهو سكران فضربه عمر الحد وأجاز عليه طلاقه- أخرجه ابن منصور في السنن – أثر (1106).

أن السكران لا يسقط عنه الفرض وكذا لا يسقط عنه الطلاق.

القول الثاني: ذهب فريق إلى أن طلاق السكران لا يقع وهذا ما ذهبت إليه طائفة من الحنفية منهم زفر والطحاوي وهو رواية عن أحمد والقول الآخر للشافعي وطائفة من الشافعية وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حزم والشوكاني وغيرهم.

وحجتهم في ذلك:

1- قال تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43].

2- عن سليمان بن بريدة عن أبيه، قال: جاء ماعز بن مالك إلى النبي ﷺ فقال: يا رسول الله طهِّرني، فقال: «وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني… إلى أن قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟» فقال من الزنى، فسأل رسول الله  صلى الله عليه وسلم: «أَبِهِ جُنُونٌ؟» فأخبر أنه ليس بمجنون، فقال: «أَشَرِبَ خَمْرًا؟» فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أَزَنَيْتَ؟» فقال: نعم، فأمر به فرجم- أخرجه مسلم (1695) وغيره.

3- عن علي بن أبي طالب أنه قال: أَصَبْتُ شَارِفًا مَعَ رَسُولِ اللَّـهِ صلى الله عليه وسلم فِي مَغْنَمٍ يَوْمَ بَدْرٍ، قَالَ: وَأَعْطَانِي رَسُولُ اللَّـهِ صلى الله عليه وسلم شَارِفًا أُخْرَى فَأَنَخْتُهُمَا يَوْمًا عِنْدَ بَابِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَحْمِلَ عَلَيْهِمَا إِذْخِرًا لِأَبِيعَهُ وَمَعِي صَائِغٌ مِنْ بَنِي قَيْنُقَاعَ فَأَسْتَعِينَ بِهِ عَلَى وَلِيمَةِ فَاطِمَةَ، وَحَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ يَشْرَبُ فِي ذَلِكَ الْبَيْتِ مَعَهُ قَيْنَةٌ، فَقَالَتْ: أَلَا يَا حَمْزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ، فَثَارَ إِلَيْهِمَا حَمْزَةُ بِالسَّيْفِ فَجَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا وَبَقَرَ خَوَاصِرَهُمَا ثُمَّ أَخَذَ مِنْ أَكْبَادِهِمَا، قُلْتُ لِابْنِ شِهَابٍ: وَمِنَ السَّنَامِ؟ قَالَ: قَدْ جَبَّ أَسْنِمَتَهُمَا فَذَهَبَ بِهَا، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: قَالَ عَلِيٌّ t فَنَظَرْتُ إِلَى مَنْظَرٍ أَفْظَعَنِي، فَأَتَيْتُ نَبِيَّ اللَّـهِ صلى الله عليه وسلم وَعِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ فَأَخْبَرْتُهُ الْـخَبَرَ، فَخَرَجَ وَمَعَهُ زَيْدٌ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَدَخَلَ عَلَى حَمْزَةَ فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ، فَرَفَعَ حَمْزَةُ بَصَرَهُ وَقَالَ هَلْ أَنْتُمْ إِلَّا عَبِيدٌ لِآبَائِي، فَرَجَعَ رَسُولُ اللَّـهِ صلى الله عليه وسلم يُقَهْقِرُ حَتَّى خَرَجَ عَنْهُمْ وَذَلِكَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْـخَمْرِ»- أخرجه البخاري (2375)، ومسلم (1979) واللفظ للبخاري.

4- عن أبان بن عثمان عن عثمان، قال: «لَيْسَ لِمَجْنُونٍ وَلَا لِسَكْرَانَ طَلَاقٌ»- أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (17902).

أقوال الفقهاء في مسألة طلاق السكران:

جاء في فتح القدير (3/470):

وطلاق السكران واقع، واختيار الكرخي والطحاوي أنه لا يقع، وهو أحد قولي الشافعي؛ لأن صحة القصد بالعقل، وهو زائل العقل فصار كزواله بالبنج والدواء.

وفي المدونة الكبرى (2/83):

قال مالك: وبلغني عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أنهما سئلا عن طلاق السكران إذا طلق امرأته أو قتل، فقالا: إن طلق جاز طلاقه وإن قَتل قُتل… وساق أثر عمر بن الخطاب المتقدم.

قال الشافعي في الأم (5/364):

ومن شرب خمرًا أو نبيذًا فأسكره فطلّق، لزمه الطلاق والحدود كلها والفرائض، ولا تسقط المعصية بشرب الخمر والمعصية بالسكر من النبيذ عنه فرضًا ولا طلاقًا، فإن قال قائل: فهذا مغلوب على عقله والمريض والمجنون مغلوب على عقله؟ قيل: المريض مأجور ومكفر عنه بالمرض، مرفوع عنه القلم إذا ذهب عقله، وهذا آثم مضروب على السكر غير مرفوع عنه القلم، فكيف يقاس من عليه العقاب بمن له الثواب؟ والصلاة مرفوعة عمن غلب على عقله ولا ترفع عن السكران، وكذلك الفرائض من حجٍّ أو صيام أو غير ذلك.

جاء في روضة الطالبين (6/59):

ولو تعدى بشرب الخمر فسكر أو بشرب دواء يجنن لغير غرض صحيح، فزال عقله فطلق -وقع طلاقه على المذهب المنصوص عليه في كتب الشافعي رحمه الله تعالى وحكي قول قديم فأثبته الأكثرون ومنعه الشيخ أبو حامد وممن قال لا يقع: المزني وابن سريج… وذكر غيرهم.

جاء في المغني (7/78):

قال الخرقي: وعن أبي عبد الله رحمه الله في السكران روايات: رواية يقع الطلاق، ورواية لا يقع، ورواية يتوقف عن الجواب ويقول: قد اختلف فيه أصحاب رسول الله ﷺ.

قال ابن قدامة: أما التوقف فليس بقول في المسألة إنما هو ترك للقول فيها وتوقف عنها لتعارض الأدلة فيها وإشكال دليلها ويبقى في المسألة روايتان:

إحداهما: يقع طلاقه، اختارها أبو بكر الخلال والقاضي، وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء ومجاهد والحسن… ومالك والثوري والشافعي في أحد قوليه وابن شبرمة وأبي حنيفة وصاحبيه وسليمان بن حرب لقوله ﷺ: «كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْـمَعْتُوهِ».

الرواية الثانية: لا يقع طلاقه، اختارها أبو بكر عبد العزيز، وهو قول عثمان -رضي الله عنه- ومذهب عمر بن عبد العزيز والقاسم وطاوس وربيعة ويحيى الأنصاري والليث والعنبري وإسحاق وأبي ثور والمزني.

قال ابن المنذر: هذا ثابت عن عثمان ولا نعلم أحدًا من الصحابة خالفه.

وقال أحمد: حديث عثمان أرفع شيء فيه وهو أصح –يعني: من حديث علي، وحديثُ الأعمشِ منصورٌ لا يرفعه إلى علي، ولأنه زائل العقل أشبه المجنون، والنائم، ولأنه مفقود الإرادة أشبه المكره؛ ولأن العقل شرط للتكليف.

سئل شيخ الإسلام – رحمه الله – عن السكران غائب العقل: هل يحنث إذا حلف بالطلاق أو لا؟

فأجاب: الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة فيها قولان للعلماء، أصحهما أنه لا يقع طلاقه، فلا تنعقد يمين السكران ولا يقع بها طلاقه إذا طلق، وهذا ثابت عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ولم يثبت عن الصحابة خلافٌ فيما أعلم. وهو قول كثير من السلف والخلف – كعمر ابن عبد العزيز وغيره وهو إحدى الروايتين عن أحمد اختارها طائفة من أصحابه وهو القول القديم للشافعي واختاره طائفة من أصحابه وهو قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة – كالطحاوي – وهو مذهب غير هؤلاء.

وهذا القول هو الصواب، فإنه قد ثبت في الصحيح عن ماعز بن مالك لما جاء إلى النبي ﷺ وأقر أنه زنى، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنكهوه ليعلموا هل هو سكران أو لا؟ فإن كان سكران لم يصح إقراره وإذا لم يصح إقراره علم أن أقواله باطلة كأقوال المجنون، ولأن السكران وإن كان عاصيًا في الشرب فهو لا يعلم ما يقول، وإذا لم يعلم ما يقول لم يكن له قصد صحيح، وإنما الأعمال بالنيات، وصار هذا كما لو تناول شيئًا محرمًا جعله مجنونًا، فإن جنونه وإن حصل بمعصية فلا يصح طلاقه ولا غير ذلك من أقواله.

ومن تأمل أصول الشريعة ومقاصدها تبين له أن هذا القول هو الصواب وأن إيقاع الطلاق بالسكران قول ليس له حجة صحيحة يعتمد عليها، ولهذا كان كثير من محققي مذهب مالك والشافعي – كأبي الوليد الباجي وأبي المعالي الجويني – يجعلون الشرائع في النشوان، فأما الذي علم أنه لا يدري ما يقول فلا يقع به طلاق بلا ريب. والصحيح أنه لا يقع الطلاق إلا ممن يعلم ما يقول، كما أنه لا تصح صلاته في هذه الحالة، ومن لا تصح صلاته لا يقع طلاقه، وقد قال تعالى: ﴿ لَا تَقْرَبُواْ الصَّلَوٰةَ وَأَنتُمْ سُكَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ﴾ [النساء: 43]، والله أعلم- مجموع الفتاوى (23/102-103).

قال ابن القيم في زاد المعاد (5/184):

بعد أن ذكر الآية: فجعل سبحانه قول السكران غير معتبر لأنه لا يعلم ما يقول، وصح عنه ﷺ أنه أمر بالمقر بالزنى أن يُستنكه ليعتبر الذي أقر به أو يلغى.

وفي صحيح البخاري في قصة حمزة لما عقر بعيرَيْ علي، فجاء

النبي صلى الله عليه وسلم فوقف عليه يلومه، فصعد فيه النظر وهو سكران، ثم قال: هل أنتم إلا عبيد لأبي، فنكص النبي صلى الله عليه وسلم على عقبيه، وهذا القول لو قاله غير سكران لكان ردة وكفرًا، ولم يُؤاخذ بذلك حمزة.

وصح عن عثمان -رضي الله عنه- أنه قال… وساق أثر عثمان المتقدم وغيره من الآثار الدالة على عدم وقوع طلاق السكران.

قال الشوكاني في المنتقي (6/281):

بعد أن ذكر خلاف العلماء في المسألة: والحاصل أن السكران الذي لا يعقل لا حكم لطلاقه لعدم المناط الذي تدور عليه الأحكام، وقد عين الشارع عقوبته فليس لنا أن نجاوزها برأينا ونقول: يقع طلاقه عقوبة له، فيجمع له بين غرمين.

قال أبو محمد بن حزم في المحلى (9/471):

وطلاق السكران غير لازم، وكذلك من فقد عقله بغير الخمر، وحد السكر: هو أن يخلط في كلامه فيأتي بما لا يعقل وبما لا يأتي به إذا لم يكن سكران.

تعقيب وترجيح

أعتقد بعد عرض أقوال كل فريق في المسألة أن الحق مع من ذهب من أهل العلم إلى أن طلاق السكران لا يقع لأن العقل مناط التكليف، والسكران لا يعقل ولا يعلم ما يقول، فالسكران لا يؤاخذ بما يقول ودليل ذلك الآية الكريمة وحديثا الباب، وقد استدل بها أصحاب هذا القول على عدم وقوع طلاق السكران كما أسلفت، والله تعالى أعلم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

Pin It on Pinterest

Share This