هل المراد بالمسجد الحرام مكة كلها؟

مبحث  هل المراد بالمسجد الحرام مكة كلها؟

وفيه ثلاث مسائل:

الأولى: المراد بالمسجد الحرام.

الثانية: مضاعفة أجر الصلاة إلى مائة ألف صلاة خاص بالمسجد الحرام (المسجد الذي فيه الكعبة) أم بجميع مكة داخل حدود الحرم؟

الثالثة: من صلى حول الحرم في الشوارع والمحلات والفنادق هل يثبت له أجر من صلى في المسجد الحرام؟

المسألة الأولى: المراد بالمسجد الحرام.

اختلف العلماء في المراد بالمسجد الحرام على أقوال ذكرها الإمامان النووي وابن القيم رحمهما الله.

قال النووي -رحمه الله-: واعلم أن المسجد الحرام قد يطلق ويراد به الكعبة فقط، وقد يراد به المسجد وحولها معها، وقد يراد به مكة كلها، وقد يراد به مكة مع الحرم حولها بكماله، وقد جاءت نصوص الشرع بهذه الأقسام الأربعة، فمن الأول: قول الله تعالى: ﴿فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ ﴾ [البقرة: 144]، ومن الثاني: قول النبي ﷺ: «صَلاَةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا المَسْجِدَ الحَرَامَ»([1])، وقوله ﷺ: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ»([2])، إلى آخره، ومن الرابع قوله تعالى: ﴿ يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ﴾ [التوبة: 28]، وأما الثالث، وهو مكة، فقال المفسرون: هو المراد بقوله تعالى: ﴿سُبْحَـٰنَ الَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا﴾ [الإسراء: 1]، وكان الإسراء من دور مكة، وقول الله تعالى: ﴿ذَٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۚ ﴾ [البقرة: 196]، قيل: مكة وقيل: الحرم، وهما وجهان لأصحابنا، سنوضحهما في كتاب الحج إن شاء الله تعالى.

وقول الله تعالى: ﴿وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَـٰهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَـٰكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ ۚ ﴾ [الحج: 25]، هو عند الشافعي ومن وافقه: المسجد حول الكعبة مع الكعبة، فلا يجوز بيعه ولا إجارته، والناس فيه سواء، وأما دور مكة وسائر بقاعها فيجوز بيعها وإجارتها، وحمله أبو حنيفة ومن وافقه على جميع الحرم، فلم يجوزوا بيع شيء منه ولا إجارته([3]).

وقال ابن القيم -رحمه الله-: المسجد الحرام يراد به في كتاب الله تعالى ثلاثة أشياء؛ نفس البيت، والمسجد الذي حوله، والحرم كله([4]).

المسألة الثانية: مضاعفة أجر الصلاة إلى مائة ألف صلاة خاص بالمسجد الحرام (المسجد الذي فيه الكعبة) أم بجميع مكة وداخل حدود الحرم؟

بين أهل العلم خلاف في هذه المسألة.

تحرير محل النزاع:

أولًا: اتفق عامة أهل العلم على أن الصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة ألف صلاة فيما سواه([5])، وحجتهم السنة:

عن جابر -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله ﷺ: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ، إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَفْضَلُ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ صَلَاةٍ»، قَالَ حُسَيْنٌ: فِيمَا سِوَاهُ([6]).

ثانيًا: اختلف الفقهاء في المراد بالمسجد الحرام -الذي تضاعف فيه الصلاة إلى مائة ألف صلاة- على أقوال أشهرها قولان([7]).

القول الأول: أن المراد بالمسجد الحرام -الذي تضاعف فيه الصلاة إلى مائة ألف صلاة- هو المسجد الذي فيه الكعبة فقط، وأما بقية مكة والمساجد داخل حدود الحرم فلا يثبت له هذا الفضل، وهذا مذهب الحنابلة([8])، وطائفة من الشافعية([9])، واختيار ابن جرير الطبري([10])، وابن عثيمين([11]) وغيرهم، وحجتهم الآتي:

1- ما رواه مسلم في صحيحه، من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-: أَنَّ امْرَأَةً اشْتَكَتْ شَكْوَى، فَقَالَتْ: إِنْ شَفَانِي اللهُ لَأَخْرُجَنَّ فَلَأُصَلِّيَنَّ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَبَرَأَتْ، ثُمَّ تَجَهَّزَتْ تُرِيدُ الْخُرُوجَ، فَجَاءَتْ مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ ﷺ تُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَأَخْبَرَتْهَا ذَلِكَ، فَقَالَتْ: اجْلِسِي فَكُلِي مَا صَنَعْتِ، وَصَلِّي فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ﷺ، يَقُولُ: «صَلَاةٌ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ الْمَسَاجِدِ، إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ»([12]).

وجه الدلالة: قوله: «إِلَّا مَسْجِدَ الْكَعْبَةِ»، فدلَّ على أن المسجد الحرام -الذي تضاعف فيه الصلاة إلى مائة ألف صلاة- هوالمسجد الذي فيه الكعبة، لا عموم مكة أو عموم الحرم.

2- قول رسول الله ﷺ: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى»([13]).

وفي رواية: «إِنَّمَا يُسَافَرُ إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ إِيلِيَاءَ»([14]).

وجه الدلالة: أن هذا نص في أن المراد بالمسجد الحرام في هذين الحديثين هو المسجد الذي فيه الكعبة، وهو الذي فيه الصلاة أفضل من مائة ألف صلاة.

وأيضًا من المعلوم أن المسلم إذا شدَّ الرحال إلى أي مسجد من مساجد مكة لم يكن هذا مشروعًا بل كان منهيًا عنه، فالأحاديث دالة على أن المسجد الحرام هو المسجد الذي فيه الكعبة، وليس كل مسجد في مكة داخل حدود الحرم([15]).

3- قول الله تعالى: ﴿سُبْحَـٰنَ الَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا﴾ [الإسراء: 1].

وجه الدلالة: أن النبي ﷺ أُسري به من المسجد الحرام الذي هو مسجد الكعبة، ودليل ذلك:

ما رواه البخاري في صحيحه من حديث مالك بن صعصعة -رضي الله عنه-، أن رسول الله ﷺ، قال: «بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ، – وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الحِجْرِ – مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ …. » الحديث([16]).

وجه الدلالة: أن النبي ﷺ اُسري به من الحجر الذي هو جزء من الكعبة، فدلَّ على أن المسجد الحرام في الآية هو مسجد الكعبة.

4- قول الله تعالى: ﴿ يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ﴾ [التوبة: 28].

وجه الدلالة: أن المسجد الحرام في الآية المراد به: مسجد الكعبة، لا جميع الحرم، لأن الله قال:﴿ فَلَا يَقْرَبُوا ﴾، ولم يقل: فلا يدخلوا، ومن المعلوم أن المشرك لو جاء ووقف عند حد الحرم ليس بينه وبينه إلا شعرة لم يكن ذلك منهيًا عنه، ولو كان المسجد الحرام هو كل الحرم لكان ينهى المشرك أن يقرب حدود الحرم، لأن الله تعالى قال: ﱩﭥ ﭦ ﭧ ﭨﱨ([17]).

قال ابن جرير الطبري -رحمه الله-: وقوله: ﴿فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ﴾، يقول للمؤمنين: فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرم، وإنما عني بذلك منعهم من دخول الحرم، لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام([18]).

وقال أيضًا رحمه الله -بعد أن ذكر الخلاف في المسألة-: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله -عز وجل- أخبر أنه أسرى بعبده من المسجد الحرام والمسجد الحرام هو الذي يتعارفه الناس بينهم إذا ذكروه([19]).

وقال ابن خزيمة -رحمه الله-: لو كان المسجد الحرام واقعًا على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر، ولا التغوط، ولا البول، ولا إلقاء الجيف والنتن، ولا دخول الجنب والحائض الحرم، والجماع فيه، ولا نعلم عالمًا منع من ذلك، ولا كره لجنب وحائض دخول الحرم ولا الجماع فيه، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة، وحوانيتها، ولا يقول بذلك أحد، كما في القسطلاني([20]).

وقال ابن مفلح -رحمه الله-: وهذه المضاعفة تختص بالمسجد على ظاهر الخبر، وهو قول العلماء من أصحابنا وغيرهم([21]).

القول الثاني: المسجد الحرام يشمل الحرم كله، فمن صلى في أي مكان في مكة داخل حدود الحرم تضاعف له الصلاة إلى مائة ألف صلاة، وهذا هو المشهور من مذهب الحنفية([22])، وطائفة من الشافعية([23])، وابن حزم([24])، وابن القيم([25])، واختيار اللجنة الدائمة([26])، وحجتهم الآتي:

ما رواه الإمام أحمد، في قصة الحديبية: أن النبي ﷺ كَانَ يُصَلِّي فِي الْحَرَمِ وَهُوَ مُضْطَرِبٌ، (أي: مقيم) فِي الْحِلِّ([27]).

قال ابن القيم -رحمه الله-: وفي هذا الدلالة على أن مضاعفة الصلاة بمكة تتعلق بجميع الحرم، لا يخص بها المسجد الذي هو مكان الطواف([28]).

ويجاب عنه: أن الحديث لا يثبت عن النبي ﷺ، وإن صحَّ فإن معناه أن الصلاة في الحرم أفضل من الصلاة في الحلِّ، وليس في القصة دليل على حصول التضعيف الخاص بمسجد الكعبة.

قال ابن مفلح -رحمه الله-: وظاهر كلامهم في المسجد الحرام أنه نفس المسجد، ومع هذا فالحرم أفضل من الحلِّ، فالصلاة فيه أفضل، ولهذا ذكر في المنتقى قصة الحديبية من رواية أحمد والبخاري، ثم ذكر رواية انفرد بها أحمد، قال: وفيه كان رسول الله ﷺ يصلي في الحرم، وهو مضطرب في الحلِّ، وهذه الرواية من رواية ابن إسحاق عن الزهري وابن إسحاق مدلس([29]).

2- قول الله تعالى: ﴿سُبْحَـٰنَ الَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا﴾ [الإسراء: 1].

وكان الإسراء من بيت أم هانئ بمكة، وقد أطلق على جزء من مكة المسجد الحرام.

ويجاب عنه: أن الخبر لا يصحُّ([30])، لأن الثابت ما جاء في صحيح البخاري([31]) من أن النبي ﷺ أُسري به من الحجر في المسجد الحرام (مسجد الكعبة)، وقد تقدم الحديث أول المسألة.

وإن صحَّ حديث أم هانئ، فيكون المراد من الحديث ابتداء الإسراء، ونهايته من الحجر، كأنه نُبِّه وهو في بيت أم هانئ، ثم قام فنام في الحجر فأُسري به من الحجر([32])، كما في صحيح البخاري.

3- استدلُّوا بقول الله تعالى: ﴿هَدْيًا بَـٰلِغَ الْكَعْبَةِ﴾ [المائدة: 95]، فإن من المعلوم أن الهدي لا يذبح في الكعبة، وإنما يذبح داخل حدود الحرم في مكة أو خارجها.

ويجاب عنه: أنه لا يمكن أن يتبادر إلى ذهن المخاطب أن المراد به وصول الهدي إلى الكعبة، والكلام يحمل على ما يتبادر إلى الذهن([33]).

إنما أريد به النحر بمكة كلها، إحسانًا منه لمساكينهم وفقرائهم([34]).

الترجيح:

والذي أراه وأعتقد أنه الصواب هو ما ذهب إليه الحنابلة، وبعض الشافعية، واختيار شيخ المفسرين ابن جرير الطبري، وابن عثيمين، ومن وافقهم من أن المسجد الحرام هو مسجد الكعبة الذي فيه الطواف، وهو الذي فيه الصلاة أفضل من مائة ألف صلاة للأحاديث الصحيحة الصريحة التي جاء فيها أن المسجد الحرام هو مسجد الكعبة، وغير ذلك من الأدلة كما تقدم، مع عدم ثبوت حديث صحيح يدل على أن تضعيف الصلاة إلى مائة ألف صلاة في جميع مكة داخل حدود الحرم، والله تعالى أعلم.

المسألة الثالثة: من صلى حول الحرم في الشوارع والمحلات والفنادق هل يثبت له أجر من صلى داخل الحرم؟

صلاة المأمومين خلف الإمام خارج المسجد أو في المسجد وبينهما حائل، فإن كانت الصفوف متصلة جاز باتفاق الأئمة([35]).

قال ابن عثيمين _رحمه الله-: لو قال قائل: إذا امتلأ المسجد الحرام، واتصلت الصفوف وصارت في الأسواق وما حول الحرم، فهل يثبت لهؤلاء أجر من كان داخل الحرم؟

فالجواب: نعم؛ لأن هذه الجماعة جماعة واحدة، وهؤلاء الذين لم يحصل لهم الصلاة إلا في الأسواق خارج المسجد لو حصلوا على مكان داخله لكانوا يبادرون إليه، فما دامت الصفوف متصلة، فإن الأجر حاصل حتى لمن كان خارج المسجد([36]).

فمذهب أكثر أهل العلم أنه يجب اتصال الصفوف ليحصل له هذا الأجر، أما انقطاع الصفوف بالمحلات والممرات التي يمرُّ فيها الناس، فلا يثبت معه أجر الصلاة داخل الحرم، ولأن في صحة الصلاة -مع انقطاع الصفوف- نزاع بين أهل العلم، فمنهم من قال: لا تصحُّ، ومنهم من قال: تصحُّ.

وسئل شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-: عن الحوانيت المجاورة للجامع من أرباب الأسواق إذا اتصلت بهم الصفوف، فهل تجوز صلاة الجمعة في حوانيتهم؟

الجواب: قال -رحمه الله-: أما صلاة الجمعة وغيرها فعلى الناس أن يسدوا الأول فالأول كما في الصحيحين عن النبي ﷺ أنه قال: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالُوا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ»، فليس لأحد أن يسد الصفوف المؤخرة مع خلو المقدمة ولا يصف في الطرقات والحوانيت مع خلو المسجد، ومن فعل ذلك استحق التأديب ولمن جاء بعده تخطيه ويدخل لتكميل الصفوف المقدمة فإن هذا لا حرمة له، كما أنه ليس لأحد أن يقدم ما يفرش له في المسجد ويتأخر هو وما فرش له لم يكن له حرمة بل يزال ويصلي مكانه على الصحيح، بل إذا امتلأ المسجد بالصفوف صفوا خارج المسجد فإذا اتصلت الصفوف حينئذ في الطرقات والأسواق صحت صلاتهم، وأما إذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي الناس فيه لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء، وكذلك إذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة فإنه لا تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء، وكذلك من صلى في حانوته والطريق خال لم تصح صلاته وليس له أن يقعد في الحانوت وينتظر اتصال الصفوف به بل عليه أن يذهب إلى المسجد فيسد الأول فالأول، والله أعلم.

وسئل -رحمه الله-: عن صلاة الجمعة في الأسواق وفي الدكاكين والطرقات اختيارًا هل تصح صلاته أم لا؟

فأجاب: إن اتصلت الصفوف فلا بأس بالصلاة لمن تأخر ولم يمكنه إلا ذلك، وأما إذا تعمد الرجل أن يقعد هناك ويترك الدخول إلى المسجد كالذين يقعدون في الحوانيت فهؤلاء مخطئون مخالفون للسنة، فإن النبي ﷺ قال: «أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالُوا: وَكَيْفَ تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يَسُدُّونَ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ»، وقال: «خَيْرُ صُفُوفِ الرِّجَالِ أَوَّلُهَا وَشَرُّهَا آخِرُهَا»، وأما إذا لم تتصل الصفوف بل كان بين الصفوف طريق ففي صحة الصلاة قولان للعلماء، هما روايتان عن أحمد.

أحدهما: لا تصح كقول أبي حنيفة، والثاني: تصح كقول الشافعي، والله أعلم.

وسئل -رحمه الله-: عن جامع بجانب السوق بحيث يسمع التكبير منه: هل تجوز صلاة الجمعة في السوق أو على سطح السوق أو في الدكاكين أم لا؟

فأجاب: الحمد لله، إذا امتلأ الجامع جاز أن يصلى في الطرقات، فإذا امتلأت صلوا فيما بينها من الحوانيت، وغيرها، وأما إذا لم تتصل الصفوف فلا، وكذلك فوق الأسطحة، والله أعلم([37]).

 ____________________________________

([1]) صحيح، وسيأتي.

([2]) متفق عليه، وسيأتي.

([3]) المجموع شرح المهذب (3/ 189).

([4]) أحكام أهل الذمة (1/ 189).

([5]) انظر: الإقناع في مسائل الإجماع لابن القطان (1/ 146)، وكفاية النبيه في شرح التنبيه لابن الرفعة (8/ 116)، والوسيط للغزالي (7/ 287)، والمغني لابن قدامة (3/ 211)، والشرح الكبير على متن المقنع (3/ 128).

([6]) أخرجه أحمد في المسند (14694)، وابن ماجه (1406)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

([7]) انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين (1/ 659)، والشرح الممتع (6/ 515).

([8]) انظر: الآداب الشرعية لابن مفلح (3/ 429).

([9]) انظر: المجموع شرح المهذب (1/ 190).

([10]) انظر: جامع البيان (17/ 333).

([11]) انظر: الشرح الممتع (6/ 515- 518).

([12]) أخرجه مسلم (1396).

([13]) أخرجه البخاري (1188)، ومسلم (1397)، من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-، وأخرجه البخاري (1197)، من حديث أبي سعيد  رضي الله عنه.

([14]) أخرجه مسلم (1397)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

([15]) انظر: فتاوى ابن عثيمين (12/ 395)، والشرح الممتع (6/ 517).

([16]) أخرجه البخاري (3887).

([17]) انظر: الشرح الممتع (6/ 516- 518) بتصرف يسير.

([18]) جامع البيان للطبري (14/ 191).

([19]) انظر: جامع البيان (17/ 333).

([20]) الفروق للقرافي (4/ 17).

([21]) الآداب الشرعية (3/ 429).

([22]) انظر: الدر المختار وحاشية ابن عابدين (1/ 659)، وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق (3/ 153).

([23]) انظر: كفاية النبيه في شرح التنبيه لابن الرفعة (17/ 77).

([24]) انظر: المحلى (3/ 162).

([25]) انظر: زاد المعاد لابن القيم (3/ 303).

([26]) انظر: فتاوى اللجنة الدائمة برئاسة ابن باز (6/ 223).

([27]) أخرجه أحمد (18910)، من حديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم.

وابن إسحاق متكلم في روايته عن الزهري، قال ابن رجب: وأما ابن إسحاق وابن أخي الزهري فتكلم أحمد في حديثهما عن الزهري ولينه. انظر: شرح علل الترمذي (2/ 675).

وقال ابن معين: وابن إسحاق ليس به بأس، وهو ضعيف الحديث عن الزهري. انظر: شرح علل الترمذي (2/ 676).

وهو مدلس وقد عنعن.

([28]) انظر: زاد المعاد (3/ 303).

([29]) انظر: الفروع لابن مفلح (1/ 600).

([30]) أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (1/ 83)، والطبراني في المعجم الكبير (24/ 432)، من طريق عبد الأعلى بن أبي المساور، قال: سمعت عكرمة، يقول: أخبرتني أم هانئ بنت أبي طالب -رضي الله عنها-، قالت: بات رسول الله ﷺ، عندي ليلة أسري به، فذكر أمره وكيف أسري به قال: «وإني أريد أن أخرج إلى قريش فأخبرهم» فأخبرهم فكذبوه، وصدقه أبو بكر -رضي الله عنه-، فسمي من يومئذ الصديق.

وعبد الأعلى بن أبي المساور متروك، بل كذبه ابن معين. انظر: تهذيب التهذيب (6/ 98).

وأخرجه الطبري في تفسيره (17/ 331)، من حديث محمد بن السائب، عن أبي صالح باذام عن أم هانئ بنت أبي طالب، في مسرى النبي ﷺ، أنها كانت تقول: ما أسري برسول الله ﷺ إلا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة، فصلى العشاء الآخرة، ثم نام ونمنا، فلما كان قبيل الفجر، أهبنا رسول الله ﷺ فلما صلى الصبح وصلينا معه قال: “يا أم هانئ لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بهذا الوادي، ثم جئت بيت المقدس فصليت فيه، ثم صليت صلاة الغداة معكم الآن كما ترين.

ومحمد بن السائب هو الكلبي متهم بالكذب، وأبو صالح باذام ضعيف، وشيخ الطبري محمد بن حميد الرازي ضعيف كذلك. انظر: تهذيب التهذيب (1/ 417، 9/ 131، 180).

([31]) أخرجه البخاري (3887)، من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه.

([32]) انظر: فتاوى ابن عثيمين (12/ 395).

([33]) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (6/ 518).

([34]) انظر: بداية المجتهد لابن رشد (1/ 302).

([35]) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (12/ 395).

([36]) انظر: الشرح الممتع على زاد المستقنع (6/ 516- 518).

([37]) انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/ 409- 412).

Pin It on Pinterest

Share This