المقالة الخامسة والثلاثون : باب النكاح – شروط وأحكام النكاح

>> الخامسة والثلاثون: باب النكاح – شروط وأحكام النكاح

فقه المرأة

باب النكاح – المقالة الخامسة والثلاثون

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

     تحدثنا في المقالة السابقة عن حظر الخلوة بالمخطوبة، والعدول عن خطبة المرأة وأثره، والكفاءة في النكاح، ونستكمل بعض الأحكام المتعلقة بفقه النكاح سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.

أولًا: شروط وأركان النكاح:

لا بد من توافر شروط وأركان النكاح حتى يكون نكاحًا صحيحًا، وهي:

(1) الإيجاب والقبول من الطرفين.

(2) تعين الزوجين.

(3) الولي.

(4) واختلفوا في الإشهار والإعلان.

الأول: الإيجاب والقبول من الطرفين:

لا يتم العقد إلا بلفظ الإيجاب والقبول، ولكن إذا تقدم السؤال كان مغنيًا عن القبول كما في حديث «زَوِّجْنِيهَا يَا رَسُولَ قَالَ: زَوَّجْتُكَهَا»([1]). وقد كان مثل هذا الغالب في أيام النبوة([2]).

قال صاحب الشرح الممتع (5/133):

الإيجاب: هو اللفظ الصادر من الولي أو من يقوم مقامه، كأن يقول الولي كالأب والأخ وما أشبه ذلك زوجتك ابنتي أو زوجتك أختي، وسمي إيجابًا لأنه أوجب به العقد.

القبول: هو اللفظ الصادر من الزوج أو من يقوم مقامه، ويقوم مقام الولي الوكيل، والوكيل هو الذي أذن له بالتصرف في حياته، كأن يقول:وكلتك أن تزوج ابنتي.

 الألفاظ التي ينعقد بها النكاح:

تنازع العلماء في هذه المسألة على قولين:

القول الأول:

الألفاظ التي ينعقد بها النكاح هي ألفاظ التزويج أو الإنكاح.

وحجتهم في ذلك:

1-  قول الله تعالى: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ  [النساء: 22].

فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَ : قوله تعالى

[الأحزاب: 37]. قالوا هذان اللفظان اللذان ورد بهما القرآن: النكاح أو التزويج.

 وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد.

القول الثاني:

ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضي التمليك كالبيع والتمليك والهبة والصدقة.

وحجتهم في ذلك:

حديث سهل بن سعد الساعدي الذي أخرجه البخاري في صحيحه وفيه أن امرأة قامت فقالت: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهَا قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ فَرَ فِيهَا رَأْيَكَ فَلَمْ يُجِبْهَا شَيْئًا… إلى أن قال فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَنْكِحْنِيهَا! قَالَ: هَلْ عِنْدَكَ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَ: لَا قَالَ: اذْهَبْ فَاطْلُبْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَذَهَبَ فَطَلَبَ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: مَا وَجَدْتُ شَيْئًا وَلَا خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ شَيْءٌ؟ قَالَ: مَعِي سُورَةُ كَذَا وَسُورَةُ كَذَا قَالَ: اذْهَبْ فَقَدْ أَنْكَحْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ»([3]). قالوا: قد جاءت رواية بلفظ «ملكتكها»([4]).

وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك وإحدى الروايتين عن أحمد.

أقوال أهل العلم في المسألة:

أولًا: من ينعقد بها النكاح بلفظ التزويج أو الإنكاح:

جاء في المجموع (17/309):

لا ينعقد النكاح عندنا إلا بلفظ النكاح أو التزويج وهما اللفظان اللذان ورد بهما القرآن… وساق الآية كما تقدم فأما لفظ البيع والتمليك والهبة والإجارة وغيرها من الألفاظ فلا ينعقد بها النكاح، وبه قال عطاء وابن المسيب والزهري وربيعة وأحمد بن حنبل.

وقال أبو حنيفة: ينعقد بكل لفظ يقتضي التمليك كالبيع والتمليك والهبة والصدقة وفي لفظ الإجارة عنه روايتان ولا ينعقد بالإباحة والتحليل، وقال مالك: إن ذكر المهر مع الألفاظ التي تقتضي التمليك انعقد بها النكاح، وإن لم يذكر المهر لم ينعقد بها النكاح.

ودليلنا قوله تعالى: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [الأحزاب: 50].

فذكر أن النبي r مخصوص بالنكاح بلفظ الهبة، أن غيره لا يساوي، ولأنه لفظ ينعقد به غير النكاح فلم ينعقد به النكاح كالإجارة والإباحة.

جاء في الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (8/ 45):

ولا ينعقد الإيجاب إلا بلفظ النكاح و التزويج، والقبول، أن يقول: قبلت هذا النكاح أو هذا التزويج. ومن ألفاظ صيغ القبول “تزوجتها”. قال في الفروع “أو رضيت هذا النكاح”.

اعلم أن الصحيح من المذهب: أن النكاح لا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول بهذه الألفاظ، لا غير. وعليه جماهير الأصحاب. وقطع به كثير منهم، منهم: صاحب الرعايتين، والحاوي الصغير، والوجيز، وغيرهم. وقدمه في الفروع وغيره. وقيل: يصح.

ثانيًا: ينعقد النكاح بكل لفظ يقتضي التمليك:

جاء في الهداية في شرح بداية المبتدي (1/ 185):

وينعقد بلفظ النكاح والتزويج والهبة والتمليك والصدقة ” وقال الشافعي رحمه الله لا ينعقد إلا بلفظ النكاح والتزويج لأن التمليك ليس حقيقة فيه ولا مجازا عنه لأن الترويج للتلفيق والنكاح للضم ولا ضم ولا ازدواج بين المالك والمملوكة أصلا.

ولنا أن التمليك سبب لملك المتعة في محلها بواسطة ملك الرقبة وهو الثابت بالنكاح والسببية طريق المجاز ” وينعقد بلفظ البيع ” هو الصحيح لوجود طريق المجاز ” ولا ينعقد بلفظ الإجارة ” في الصحيح لأنه ليس بسبب لملك المتعة ” و ” لا بلفظ ” الإباحة والإحلال والإعارة ” لما قلنا ” و ” لا بلفظ ” الوصية ” لأنها توجب الملك مضافا إلى ما بعد الموت.

جاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/ 32):

واتفقوا على أن انعقاد النكاح بلفظ النكاح ممن إذنه اللفظ، وكذلك بلفظ التزويج. واختلفوا في انعقاده بلفظ الهبة أو بلفظ البيع أو بلفظ الصدقة، فأجازه قوم، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وقال الشافعي: لا ينعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج.

وسبب اختلافهم هل هو عقد يعتبر فيه مع النية اللفظ الخاص به؟ أم ليس من صحته اعتبار اللفظ؟ فمن ألحقه بالعقود التي يعتبر فيها الأمران قال: لا نكاح منعقد إلا بلفظ النكاح أو التزويج. ومن قال: إن اللفظ ليس من شرطه اعتبارا بما ليس من شرطه اللفظ أجاز النكاح بأي لفظ إذا فهم المعنى الشرعي من ذلك، أعني أنه إذا كان بينه وبين المعنى الشرعي مشاركة.

جاء في السيل الجرار (2/263):

ينبغي أن يكون هذا اللفظ الذي وقع به العقد بلفظ النكاح أو التزويج أو ما يفيد هذا المُفاد مما يتعارف به الناس بينهم ولو لم يكن يفيد التمليك، وما يفهم من الأعراف المصطلحة بين القوم مقدم على غيره لأن التفاهم بينهم هو اعتبار ذلك الاصطلاح ولم يأت في الكتاب والسنة ما يدل على أنه لا يجزئ في هذا إلا لفظ أو ألفاظ مخصوصة… ثم ساق حديث الباب بلفظ: “ملكتكها”.

 

 

ثانيًا:  هل رضا المنكوحة واجب أم مستحب؟

– عن ابن عباس، أن النبي r قال: «الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا»([5]).

– وعن خنساء بنت خدام الأنصارية أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت ذلك، فأتت رسول لله  فرد نكاحها([6]).

– وعن عائشة، قالت: « تَزَوَّجَنِي رَسُولُ اللهِ  لِسِتِّ سِنِينَ وَبَنَى بِي وَأَنَا بِنْتُ تِسْعِ سِنِينَ»([7]).

ذهب جمهور أهل العلم إلى أن رضا الثيب واجب وحجتهم حديث خنساء المتقدم.

واختلفوا في زواج البكر على قولين:

القول الأول:

جواز تزويج البكر بغير استئذانها وأن الاستئذان مستحب وليس واجبًا في حق الأب أو الجد، وإن كان غيرهما من الأولياء وجب الاستئذان. وهذا ما ذهب إليه جمهور الفقهاء:  الشافعي ومالك ورواية عن أحمد.

القول الثاني:

للأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر -ما لم تبلغ- بغير استئذانها وحجتهم في ذلك حديث عائشة المتقدم في الباب.

وهذا مذهب أبي حنيفة وأهل الظاهر ورواية عن أحمد.

قال النووي: وأجمع المسلمون على جواز تزويجه بنته البكر الصغيرة لهذا الحديث([8]).

أما البكر البالغة فلا يجوز للأب ولا لغيره من الأولياء تزوجها بغير استئذانها، وحجتهم حديث ابن عباس المتقدم وفيه «… وَالْبِكْرُ تُسْتَأْذَنُ فِي نَفْسِهَا».

أقوال أهل العلم في المسألة:

أولاً: من ذهب إلى وجوب استئذان البكر البالغة:

جاء في بدائع الصنائع (2/361):

أن الأب والجد لا يملكان إنكاح البكر البالغة بغير رضاها عندنا وقال الشافعي: يملكانه، ولا خلاف في أنهما لا يملكان إنكاح الثيب البالغة بغير رضاها.

قال أبو محمد بن حزم في المحلى (9/38)

وللأب أن يزوج ابنته الصغيرة البكر ما لم تبلغ بغير إذنها… وإذا بلغت البكر والثيب لم يجز للأب ولا لغيره أن يزوجها إلا بإذنها، فإن وقع فهو مفسوخ أبدًا.

جاء في السيل الجرار (2/274):

قوله:… رضاءُ المكلفة… إلخ.

أقول: قد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه لا يتم نكاح إلا برضا المنكوحة… وساق حديث ابن عباس المتقدم.

قال المرداوي في الإنصاف (8/52):

وعنه: لا يجوز تزوج ابنة تسع سنين إلا بإذنها، قال الشريف أبو جعفر: هو المنصوص عن الإمام أحمد رحمه الله، قال الزركشي: وهي أظهر، وأطلقها في الهداية والمذهب والمستوعب والخلاصة والمحرر… إلى أن قال: قال بعض المتأخرين من الأصحاب: وهو الأقوى.

قال الحافظ في فتح الباري (9/101):

في ثنايا شرحه حديث خنساء المتقدم…

قوله باب: إذا زوج الرجل ابنته وهي كارهة فنكاحه مردود، هكذا أطلق فشمل البكر والثيب، لكن حديث الباب مصرح فيه بالثيوبة، فكأنه أشار إلى ما ورد في بعض طرقه كما سأبينه، وردّ النكاح إذا كانت ثيبًا فزوجت بغير رضاها إجماع.

ثانيًا: من ذهب إلى جواز تزويج البكر البالغة بغير إذنها:

جاء في المدونة (2/100):

لا يجبر أحد أحدًا على النكاح عند مالك إلا الأب في ابنته البكر وفي ابنه الصغير وفي أمته وعبده والولي في يتيمه.

جاء في روضة الطالبين (5/401):

فللأب تزويج البكر الصغيرة والكبيرة بغير إذنها ويستحب استئذان البالغة ولو أجبرها صح النكاح.

وفي الإنصاف (8/53):

البكر البالغة له إجبارها أيضًا، على الصحيح من المذهب.

تعقيب وترجيح

ما تطمئن له النفس وينشرح له الصدر في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الإمامان أبو حنيفة وابن حزم والراجح من مذهب الإمام أحمد ومن وافقهم من عدم جواز تزويج البكر البالغة بغير إذنها لأن الأحاديث جاءت صحيحة وصريحة بذلك وقد ذكرنا منها حديث ابن عباس الذي أخرجه مسلم وغيره، والله تعالى أعلم.

مجلة التوحيد- المقالة الخامسة والثلاثون  من فقه المرأة                  

للدكتورة/ أم تميم عزة بنت محمد

 

الموقع الرسمي لأم تميم

www.omtameem.com

Pin It on Pinterest

Share This