المقالة الثامنة والأربعون
باب النكاح_ ما يحرم من الرضاع_ رضاع الكبير
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن المحرمات من النساء تحريمًا مؤبدًا والقدر الذي يثبت به الرضاع ونستكمل بعض الأحكام المتعلقة بفقه النكاح سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
أولًا: سن الرضاع:
ذهب الجماهير من الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم أن ما يحرم من الرضاع ما كان دون الحولين.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1- قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ ) [البقرة: 233].
2- عن عائشة أن رسول الله ﷺ قال: «انْظُرْنَ مَنْ إِخْوَانُكُنَّ فَإِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ»- أخرجه البخاري (5102) ومسلم (1455).
3- عن أم سلمة قالت: قال رسول الله ﷺ: «لَا يُحَرِّمُ مِنْ الرِّضَاعَةِ إِلَّا مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ فِي الثَّدْيِ وَكَانَ قَبْلَ الْفِطَامِ»- صحيح سنن الترمذي (1152).
أقوال أهل العلم في سن الرضاع:
قال ابن كثير في تفسيره (1/266):
بعد أن ساق الآية كما تقدم في الباب: هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك، ولهذا قال: (لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ ) وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم، وعن أم سلمة أنها قالت… وساق الحديث كما تقدم في الباب ثم قال: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله ﷺ وغيرهم: أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا، ومعنى قوله «إلا ما كان في الثدي» أي: في محل الرضاعة قبل الحولين.
جاء في فتح القدير (3/423):
وينبغي أن يكون الرضاع الموجب للتحريم في مدة الرضاع على ما نبين في المسألة التي تليها وهي قوله: ثم مدة الرضاع التي إذا وقع الرضاع فيها تعلق به التحريم ثلاثون شهرًا عند أبي حنيفة -رحمه الله- وقال سنتان، وهو قول الشافعي ومالك وأحمد.
جاء في المدونة الكبرى (2/297):
قال مالك: الرضاع حولان وشهر أو شهران بعد ذلك، قلت: فإن لم تفصله أمه وأرضعته ثلاث سنين فأرضعته امرأة بعد ثلاث سنين والأم ترضعه لم تفصله بعد؟
قال مالك: لا يكون رضاعًا ولا يلتفت في هذا إلى إرضاع أمه، إنما ينظر في هذا إلى الحولين وشهر أو شهرين بعدهما.
جاء في المهذب (3/ 142):
ولا يثبت تحريم الرضاع فيما يرتضع بعد الحولين لقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} ]البقرة: 233] فجعل تمام الرضاع في الحولين فدل على أنه لا حكم للرضاع بعد الحولين
جاء في الروضة الندية (2/122):
لا يثبت حكم الرضاع إلا قبل الفطام، وكون الرضيع قبل الفطام لحديث أم سلمة… وساق الحديث كما تقدم أول المسألة… ثم استدل بأحاديث منها حديث عائشة رضي الله عنها كما ذكرناه وفيه «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ».
قال الصنعاني في سبل السلام (3/316):
في شرحه لحديث أم سلمة المتقدم: والمراد ما سلك فيها من الفتق بمعنى: الشق والمراد ما وصل إليها فلا يحرم القليل الذي لا ينفذ إليها، ويحتمل أن المراد ما وصل وغذاها واكتفت به عن غيره فيكون دليلاً على عدم تحريم رضاع الكبير ويدل على أن المراد هذا قوله في الحديث: «وكان قبل الفطام» فإنه يراد به قبل الحولين.
ثانيًا: رضاع الكبير:
– عن عائشة قالت: جَاءَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي أَرَى فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ دُخُولِ سَالِمٍ، وَهُوَ حَلِيفُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ ﷺ: أَرْضِعِيهِ قَالَتْ: وَكَيْفَ أُرْضِعُهُ وَهُوَ رَجُلٌ كَبِيرٌ؟! فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ وَقَالَ: قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ رَجُلٌ كَبِيرٌ»-أخرجه مسلم (1453).
قال أبو عمر ابن عبد البر: صفة رضاع الكبير أن يحلب له اللبن ويسقاه – شرح الموطأ (3/291).
– وفي رواية أنها قالت: وَإِنِّي أَظُنُّ أَنَّ فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ ﷺ: أَرْضِعِيهِ تَحْرُمِي عَلَيْهِ وَيَذْهَبْ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَةَ؛ فَرَجَعَتْ فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَذَهَبَ الَّذِي فِي نَفْسِ أَبِي حُذَيْفَة»- أخرجه مسلم (27 – 1453).
– ذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى أن رضاع الكبير لا يحرم، وحجتهم في ذلك الأدلة الصحيحة التي جاءت في كتاب الله وسنة نبينا ﷺ وفيها أن ما يحرم من الرضاع ما دون حولين وقد سبقت المسألة، وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.
وخالفهم أهل الظاهر، قالوا: تثبت حرمة الرضاع برضاع الكبير البالغ كما تثبت برضاع الطفل وحجتهم حديث الباب.
أقوال أهل العلم في المسألة:
جاء في المبسوط (5/128):
قال السرخسي: لا نرى هذا من رسول الله ﷺ إلا رخصة لسهلة خاصة ثم هذا الحكم انتسخ بقوله ﷺ: «الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ الَّلَحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ» وذلك في الكبير لا يحصل، وقال ﷺ: «الرَّضَاعَةُ مِن المَجَاعَةِ»، يعني ما يرد الجوع وذلك بإرضاع الكبير لا يحصل… واستدلا بظاهر قوله تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ). ولا زيادة بعد التمام والكمال وقال تعالى: (وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان: 14]، ولا رضاع بعد الفصال.
جاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (3/ 60):
واتفقوا على أن الرضاع يحرم في الحولين. واختلفوا في رضاع الكبير فقال مالك، وأبو حنيفة، والشافعي وكافة الفقهاء: لا يحرم رضاع الكبير.
جاء في شرح الموطأ (3/293):
قال ابن مسعود: لا رضاعة محرمة إلا ما كان دون الحولين لقوله تعالى: (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ) فجعل إتمامها حولين يمنع أن يكون الحكم بعدهما كحكمهما فتنفى رضاعة الكبير، وفي الصحيحين مرفوعًا «إِنَّمَا الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَة». وفي الحديث: «لَا رِضَاعَ إِلَّا مَا شَدَّ الْعَظْمَ وَأَنْبَتَ اللَّحْم» أو قال: «أَنْشَزَ الْعَظْمَ» رواه ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا وصحح أبو عمر رفعه… إلى أن قال: وأتى الإمام بهذين الأثرين بعد حديث سهلة للإشارة إلى أن العمل على خلافه، فهو خصوصية لها أو منسوخ وهذا مذهب الجمهور.
قال الشافعي في الأم (5/47):
هذا -والله تعالى أعلم- في سالم مولى أبي حذيفة خاصة، فإن قال قائل: ما دل على ما وصفت؟ قال الشافعي: فذكر حديث سالم… إلى أن قال: وقالت أم سلمة في الحديث وكان ذلك في سالم خاصة، وإذا كان هذا لسالم خاصة فالخاص لا يكون مخرجًا من حكم العام، وإذا كان مخرجًا من حكم العام فالخاص غير العام ولا يجوز في العام إلا أن يكون رضاع الكبير لا يحرم، ولا بد إذا اختلف الرضاع في الصغير والكبير من طلب الدلالة على الوقت الذي إذا صار إليه المرضع فأرضع لم يحرم، قال: والدلالة على الفرق بين الصغير والكبير موجودة في كتاب الله عز وجل، قال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ ۖ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ۚ) [البقرة: 233].
فجعل الله عزَّ وجل تمام الرضاع حولين كاملين.
قال النووي في شرح مسلم (5/289):
قال سائر العلماء من الصحابة والتابعين وعلماء الأمصار إلى الآن: لا يثبت إلا بالإرضاع من له دون سنتين… إلى أن قال: وحملوا حديث سهلة على أنه مختص بها وبسالم، وقد روى مسلم عن أم سلمة وسائر أزواج النبي ﷺ أنهن خالفن عائشة في ذلك والله أعلم.
جاء في المحلى (10/202) مسألة (2020):
ورضاع الكبير محرم –ولو أنه شيخ يحرم– كما يحرم رضاع الصغير ولا فرق.
جاء في نيل الأوطار (6/373):
أن الرضاع يعتبر فيه الصغير، إلا فيما دعت إليه الحاجة كرضاع الكبير الذي لا يُستغنى عن دخوله على المرأة ويشق احتجابها منه وإليه ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، وهذا هو الراجح عندي.
تعقيب وترجيح:
بعد عرض أقوال أهل العلم، أرى صحة ما ذهب إليه جماهير الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أن رضاع الكبير لا يقع به التحريم بين الرضيع والمرأة المرضعة لقوة الأدلة الدالة على عدم التحريم، وكما نقلنا أقوال الأئمة الأربعة وغيرهم، وهذا ظاهر في كتاب الله وفي الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله ﷺ وقد سبقت المسألة.