ج: ذهب جمهور العلماء (الأئمة الأربعة وشيخ الإسلام وغيرهم) إلى تحريم مس المصحف للمحدث والحائض والجنب، وحجتهم في ذلك قول الله تعالى:” لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ” [الواقعة: 76], وقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن حزم «لا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ» أخرجه النسائي, موطأ مالك (469)، واختلف أئمة الحديث في تصحيحه وتضعيفه.
وجوز قوم مس المصحف للمحدث والحائض والجنب وهذا مذهب داود الظاهري وابن حزم والشوكاني والصنعاني وغيرهم.
وأجابوا عن أدلة الجمهور بالآتي:
1- أما الآية، فلا دلالة فيها؛ لأن الضمير في قوله: « لا يَمَسَّ » يعود إلى الكتاب المكنون, والكتاب المكنون يحتمل أن المراد به اللوح المحفوظ, ويحتمل أن المراد به الكتب التى بأيدى الملائكة، فإن الله تعالى قال: “كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) “سورة عبس وهذه الآية تفسير لآية الواقعة، فقوله ” فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ” كقوله ” فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ ” ، وقوله ” بِأَيْدِي سَفَرَةٍ “كقوله :” لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ”.
والقرآن يفسر بعضه بعضًا, ولو كان المراد ما ذكر الجمهور لقال: (لا يمسه إلا المطَّهَّرون) يعنى المتطهرين, وفرق بين المطهَّر اسم مفعول، وبين المتطهِّر اسم فاعل.. ثم على احتمال تساوي الأمرين, فالقاعدة عند العلماء أنه إذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال.
2- أما بالنسبة لحديث عمرو بن حزم فهو ضعيف؛ والضعيف لا يحتج به في إثبات الأحكام, فضلًا عن إثبات حكم يلحق بالمسلمين المشقة العظيمة في تكليف عباد الله ألا يقرءوا كتابه إلا وهم طاهرون, وخاصة في أيام البرد.
وإذا فرضنا صحته بناء على شهرته، فإن كلمة طاهر: تحتمل أن يكون طاهر القلب من الشرك أو طاهر البدن من النجاسة أو طاهر من الحدث الأصغر أو الأكبر، فهذه أربعة احتمالات، والدليل إذا احتمل احتمالين بطل الاستدلال به، فكيف إذا احتمل أربعة؟!
3- وكذا فإن الطاهر يطلق على المؤمن؛ لقوله تعالى: “إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ” [التوبة: 28] وهذا فيه إثبات النجاسة للمشرك.
وقال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَنْجُسُ » البخاري (285)، ومسلم (371) وهذا فيه نفي النجاسة عن المؤمن, ونفي النقيض يستلزم ثبوت نقيضه؛ لأنه ليس هناك إلا طهارة أو نجاسة، فلا دلالة فيه على أن مس المصحف لا يكون إلا من متوضئ.
وهذا هو الراحج والله أعلم.