الغناء والمعازف المباح منها والمحرم
- مقدمة.
- تعريف الغناء لغة واصطلاحًا.
- ما يباح من الغناء والشعر.
- الغناء المحرم.
- أقوال الفقهاء في حكم الغناء والمعازف.
- الحكمة من تحريم الغناء.
- شبهات والرد عليها.
مقدمة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:-
خلق الله تعالى الإنسان على أحسن تقويم، وجعل له السمع والبصر والفؤاد، وجعل كل ذلك مسؤولًا عنه يوم القيامة. قال تعالى: ( وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الإسراء:36
ولا يخفى علينا أن نعمة السمع من أعظم النعم التي وهبها الله للإنسان، فبالسمع يفقه الإنسان التشريع، ويكون من أهل التكليف.
وسوف أتناول في هذا المبحث -بإذن الله تعالى- تعريف الغناء لغة واصطلاحًا، وما يباح من الغناء والشعر، والغناء المحرم ، وأقوال الفقهاء في حكم الغناء والمعازف، والحكمة من تحريم الغناء، وشبهات والرد عليها. واللهَ تعالى أسألُ أن ينفع به، وأن يجعله خالصًا لوجهه الكريم ، إنه قريب مجيب الدعاء.
تعريف الغناء:
الغناء لغة:
التطريب والترنم بالْكلَام الْمَوْزُون وَغَيره، ويكون مصحوبًا بالموسيقى وَغير مصحوب([1]).
والغناء:
هو المعروف بين أهل اللهو واللعب([2]).
اصطلاحًا:
ترديد الصوت بالشعر ونحوه بالألحان، أما التغني فهو الترنم([3]).
ما يباح من الغناء والشعر:
الدف:
يباح الدف للنساء في الأعراس والأعياد وكذا إنشاد الأشعار التي لا باس بها.
– عن حاطب الجمحي قال: قال رسول الله: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْحَرَامِ وَالْحَلَالِ الدُّفُّ وَالصَّوْتُ»([4]).
– عن خالد بن ذكوان قال «قالت الربيع بنت معوذ بن عفراء: جَاءَ النَّبِيُّ فَدَخَلَ حِينَ بُنِيَ عَلَيَّ([5]) فَجَلَسَ عَلَى فِرَاشِي كَمَجْلِسِكَ مِنِّي فَجَعَلَتْ جُوَيْرِيَاتٌ لَنَا يَضْرِبْنَ بِالدُّفِّ وَيَنْدُبْنَ مَنْ قُتِلَ مِنْ آبَائِي يَوْمَ بَدْرٍ إِذْ قَالَتْ إِحْدَاهُنَّ: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَالَ: دَعِي هَذِهِ وَقُولِي بِالَّذِي كُنْتِ تَقُولِين»([6]).
– عن عائشة أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله «يَا عَائِشَةُ! مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ»([7]).
الحداء:
وهو سوق الإبل بضرب مخصوص من الغناء، والحداء في الغالب إنما يكون بالرجز، وقد يكون بغيره من الشعر([8]).
عن أنس بن مالك قال: أتى النبي على بعض نسائه، ومعهن أم سليم، فقال: « وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالقَوَارِيرِ »([9]).
الغناء والأشعار المباحة:
التي تشبه قصائد الزهد، وليس فيها ما يخدش الحياء، ولا إثارة للشهوات والمحرمات، من غير تلحين ومن غير آلات اللهو والطرب.
– عن أبي بن كعب أن رسول الله قال: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً»([10]).
– وعن الأسود بن قيس قال: سمعت جندبًا يقول: بينما النبي يمشي، إِذْ أَصَابَهُ حَجَرٌ، فَعَثَرَ، فَدَمِيَتْ إِصْبَعُهُ فقال:
هل أنت إلا أصبع دميت
|
وفي سبيل الله ما لقيت([11])
|
– وعن أبي هريرة : قال رسول الله : «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ:
أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللَّهَ بَاطِلٌ… وَكَادَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ أَنْ يُسْلِمَ([12]).
عن أَبِي إِسْحَاقَ، قَالَ: سَمِعْتُ البَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ يُحَدِّثُ، قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ الأَحْزَابِ، وَخَنْدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَيْتُهُ يَنْقُلُ مِنْ تُرَابِ الخَنْدَقِ، حَتَّى وَارَى عَنِّي الغُبَارُ جِلْدَةَ بَطْنِهِ، وَكَانَ كَثِيرَ الشَّعَرِ، فَسَمِعْتُهُ يَرْتَجِزُ بِكَلِمَاتِ ابْنِ رَوَاحَةَ، وَهُوَ يَنْقُلُ مِنَ التُّرَابِ يَقُولُ:
[البحر الرجز]
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا
|
وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
|
|
فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا
|
وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا
|
|
إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا
|
وَإِنْ أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا
|
قَالَ: ثُمَّ يَمُدُّ صَوْتَهُ بِآخِرِهَا([13]).
– وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : « لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحًا يَرِيهِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَمْتَلِئَ شِعْرًا »([14]).
– وعن أنس بن مالك قال: أتى النبي على بعض نسائه، ومعهن أم سليم، فقال: « وَيْحَكَ يَا أَنْجَشَةُ، رُوَيْدَكَ سَوْقًا بِالقَوَارِيرِ »([15]).
قال القرطبي رحمه الله: الْغِنَاءُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْمُشْتَهِرِينَ بِهِ، الَّذِي يُحَرِّكُ النُّفُوسَ وَيَبْعَثُهَا عَلَى الْهَوَى وَالْغَزَلِ، وَالْمُجُونُ الَّذِي يُحَرِّكُ السَّاكِنَ وَيَبْعَثُ الْكَامِنَ فَهَذَا النَّوْعُ إِذَا كَانَ فِي شِعْرٌ يُشَبَّبُ فِيهِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ وَوَصْفِ مَحَاسِنِهِنَّ وَذِكْرِ الْخُمُورِ وَالْمُحَرَّمَاتِ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ، لِأَنَّهُ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ الْمَذْمُومُ بِالِاتِّفَاقِ. فَأَمَّا مَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَحِ، كَالْعُرْسِ وَالْعِيدِ وَعِنْدَ التَّنْشِيطِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، كَمَا كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ وَحَدْوِ أَنْجَشَةَ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ([16]).
قال ابن بطال رحمه الله: ما كان من الشعر فيه ذكر الله والأعمال الصالحة، فهو حسن، وهو الذي قال فيه عليه السلام: «إِنَّ مِنَ الشِّعْرِ حِكْمَةً»([17])، وليس من المذموم الذي قال فيه عليه السلام: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ…» وساق الحديث كما تقدم… ثم قال: باب: ما يكره أن يكون الغالب على الإنسان الشعر، حتى يصده عن ذكر الله والعلم والقرآن([18]).
قال الشافعي رحمه الله: الشِّعْرُ كَلَامٌ ، حَسَنُهُ كَحَسَنِ الْكَلَامِ ،وَقَبِيحُهُ كَقَبِيحِ الْكَلَامِ؛ غَيْرَ أَنَّهُ كَلَامٌ بَاقٍ سَائِرٌ فَذَلِكَ فَضْلُهُ عَلَى الْكَلَامِ، فَمَنْ كَانَ مِنْ الشُّعَرَاءِ لَا يُعْرَفُ بِنَقْصِ الْمُسْلِمِينَ وَأَذَاهُمْ وَالْإِكْثَارِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا بِأَنْ يَمْدَحَ فَيُكْثِرَ الْكَذِبَ لَمْ تُرَدَّ شَهَادَتُهُ([19]).
الغناء المحرم:
ذهب جماهير العلماء من السلف والخلف إلى تحريم الاستماع إلى الغناء الذي يحمل المنكر من القول ، أو الاستماع إلى آلات اللهو بغير غناء – حاشا الدف في النكاح – وهذا مذهب فقهاء الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ومذهب أئمة التفسير وعلماء الحديث وجماهير الفقهاء – منهم أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم – وعدُّوا ذلك من الفسق الذي ترد بسببه الشهادة.
الأدلة الدالة على تحريم الغناء والمعازف:
أولًا: الأدلة من الكتاب:
الدليل الأول:
قوله تعالى وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) [لقمان: 6].
قال القرطبي رحمه الله:
بعد أن ذكر الآية الكريمة: “فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) ” مِنَ” فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَ” لَهْوَ الْحَدِيثِ”: الْغِنَاءُ، فِي قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ([20]) وَابْنِ عَبَّاسٍ([21]) وَغَيْرِهِمَا. قال النَّحَّاسُ: وَهُوَ مَمْنُوعٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالتَّقْدِيرُ: مَنْ يَشْتَرِي ذَا لَهْوٍ أو ذات لهو، مثل:” وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ” [يوسف: 82]. أَوْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: لَمَّا كَانَ إِنَّمَا اشْتَرَاهَا يَشْتَرِيهَا وَيُبَالِغُ فِي ثَمَنِهَا كَأَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِلَّهْو… إلى أن قال: قُلْتُ: هَذَا أَعْلَى مَا قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ مَسْعُودٍ بِاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ إِنَّهُ الْغِنَاءُ. رَوَى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي الصَّهْبَاءِ الْبَكْرِيِّ قَالَ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:” وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ” فَقَالَ: الْغِنَاءُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، يُرَدِّدُهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ الْغِنَاءُ، وَكَذَلِكَ قَالَ عِكْرِمَةُ وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ وَمَكْحُولٌ. وَرَوَى شُعْبَةُ وَسُفْيَانُ عَنِ الْحَكَمِ وَحَمَّادٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ([22])، وَقَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَزَادَ: إِنَّ لَهْوَ الْحَدِيثِ فِي الْآيَةِ الِاسْتِمَاعِ إِلَى الْغِنَاءِ وَإِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْبَاطِلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَهْوُ الْحَدِيثِ الْمَعَازِفُ وَالْغِنَاءُ. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ: الْغِنَاءُ بَاطِلٌ وَالْبَاطِلُ فِي النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ سَأَلْتُ مَالِكًا عَنْهُ فَقَالَ: قَالَ الله تعالى : ” فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ” [يونس: 32] أَفَحَقٌّ هُوَ؟!
وفي ص: 56 قال: الْغِنَاءُ الْمُعْتَادُ عِنْدَ الْمُشْتَهِرِينَ بِهِ، الَّذِي يُحَرِّكُ النُّفُوسَ وَيَبْعَثُهَا عَلَى الْهَوَى وَالْغَزَلِ، وَالْمُجُونُ الَّذِي يُحَرِّكُ السَّاكِنَ وَيَبْعَثُ الْكَامِنَ فَهَذَا النَّوْعُ إِذَا كَانَ فِي شِعْرٌ يُشَبَّبُ فِيهِ بِذِكْرِ النِّسَاءِ وَوَصْفِ مَحَاسِنِهِنَّ وَذِكْرِ الْخُمُورِ وَالْمُحَرَّمَاتِ لَا يُخْتَلَفُ فِي تَحْرِيمِهِ، لِأَنَّهُ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ الْمَذْمُومُ بِالِاتِّفَاقِ. فَأَمَّا مَا سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَيَجُوزُ الْقَلِيلُ مِنْهُ فِي أَوْقَاتِ الْفَرَحِ، كَالْعُرْسِ وَالْعِيدِ وَعِنْدَ التَّنْشِيطِ عَلَى الْأَعْمَالِ الشَّاقَّةِ، كَمَا كَانَ فِي حَفْرِ الْخَنْدَقِ وَحَدْوِ أَنْجَشَةَ([23]) وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ. فَأَمَّا مَا ابْتَدَعَتْهُ الصُّوفِيَّةُ الْيَوْمَ مِنَ الْإِدْمَانِ عَلَى سَمَاعِ الْمَغَانِي بِالْآلَاتِ الْمُطْرِبَةِ مِنَ الشَّبَّابَاتِ والطار والمعازف والأوتار فحرام .
قال القرطبي: الِاشْتِغَالُ بِالْغِنَاءِ([24]) عَلَى الدَّوَامِ سَفَهٌ تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ … ِ([25]).
قال الطبري رحمه الله:
بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في الآية:… وَالصَّوَابُ مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: عَنَى بِهِ كُلَّ مَا كَانَ مِنَ الْحَدِيثِ مُلْهِيًا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ، مِمَّا نَهَى اللَّهُ عَنِ اسْتِمَاعِهِ أَوْ رَسُولُهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَمَّ بِقَوْلِهِ {لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] وَلَمْ يُخَصِّصْ بَعْضًا دُونَ بَعْضٍ، فَذَلِكَ عَلَى عُمُومِهِ، حَتَّى يَأْتِيَ مَا يَدُلُّ عَلَى خُصُوصِهِ، وَالْغِنَاءُ وَالشِّرْكُ مِنْ ذَلِكَ ِ([26]).
الدليل الثاني:
قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا} [الإسراء: 64].
قال القرطبي رحمه الله:
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاسْتَفْزِزْ) أَيِ اسْتَزِلَّ وَاسْتَخِفَّ. وَأَصْلُهُ الْقَطْع… وَالْمَعْنَى اسْتَزِلَّهُ بِقَطْعِكَ إِيَّاهُ عَنِ الْحَقّ…
وقوله تعالى: (بِصَوْتِكَ) وَصَوْتُهُ كُلُّ دَاعٍ يَدْعُو إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ([27]). مُجَاهِدٌ: الْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ وَاللَّهْوُ. الضَّحَّاكُ: صَوْتُ الْمِزْمَارِ ِ([28]).
قال الشنقيطي رحمه الله:
وَقَوْلُهُ: (بِصَوْتِك) قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اللَّهْوُ وَالْغِنَاءُ وَالْمَزَامِيرُ: أَيِ اسْتَخِفَّ مَنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَسْتَخِفَّهُ مِنْهُمْ بِاللَّهْوِ وَالْغِنَاءِ وَالْمَزَامِيرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَوْتُهُ يَشْمَلُ كُلَّ دَاعٍ دَعَا إِلَى مَعْصِيَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا وَقَعَ طَاعَةً لَهُ([29]).
الدليل الثالث:
قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ سَامِدُون} [النجم: 61].
قال البغوي رحمه الله:
{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} لَاهُونَ غَافِلُونَ، وَ”السُّمُودُ”: الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ وَاللَّهْوُ، يُقَالُ: دَعْ عَنْكَ سُمُودَكَ أَيْ لَهْوَكَ، هَذَا رِوَايَةُ الْوَالِبِيُّ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْهُ: هُوَ الْغِنَاءُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَغَنَّوْا وَلَعِبُوا»([30]).([31]).
قال ابن كثير رحمه الله:
قوله: }وَأَنْتُمْ سَامِدُون{ قيل: المراد به: الْغِنَاءُ ، وقيل: سامدون: مُعْرِضُون ، وقيل: غَافِلُونَ.
ومن العلماء من يزيد آية وهي قول الله تعالى وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا ) (الفرقان/72) ([32]).
ثانيًا: الأدلة من السنة:
1- عن عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر -أو أبو مالك- الأشعري، والله ما كذبني سمع النبي r يقول: « لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ([33])،وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ، يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ – يَعْنِي الفَقِيرَ – لِحَاجَةٍ فَيَقُولُونَ: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا، فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ العَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ »([34]).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْحُفَّاظِ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ التَّعَالِيقِ كُلِّهَا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ يَكُونُ صَحِيحًا إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شُيُوخِهِ لَكِنِ إِذَا وُجِدَ الْحَدِيثُ الْمُعَلَّقُ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الْحُفَّاظِ مَوْصُولًا إِلَى مَنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الصِّحَّةِ أَزَالَ الْإِشْكَالَ وَلِهَذَا عَنَيْتُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ بِهَذَا النَّوْعِ وَصَنَّفَتْ كِتَابَ تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ([35]).
2- وعن عبد الله بن عمرو أن النبي r «نَهَى عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَالْكُوبَةِ([36]) وَالْغُبَيْرَاء»، وقال: « كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ »([37]).
قال الخطابي رحمه الله: قال الشيخ: الميسر: القمار، والكوبة يفسر بالطبل، ويقال هو: النرد، ويدخل في معناه كل وتر ومزهر في نحو ذلك من الملاهي والغناء([38]).
أقوال الفقهاء في حكم الغناء والمعازف:
أولًا: المذهب الحنفي:
قال ابن عابدين رحمه الله:
وَنَصُّوا عَلَى أَنَّ التَّغَنِّي لِلَّهْوِ أَوْ لِجَمْعِ الْمَالِ حَرَامٌ بِلَا خِلَاف… قَالَ: وَلَوْ فِيهِ وَعْظٌ وَحِكْمَةٌ فَجَائِزٌ اتِّفَاقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَازَهُ فِي الْعُرْسِ كَمَا جَازَ ضَرْبُ الدُّفِّ فِيهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَاحَهُ مُطْلَقًا، وَمِنْهُمْ مَنْ كَرِهَهُ مُطْلَقًا اهـ.
وَفِي الْبَحْرِ: وَالْمُذْهَبُ حُرْمَتُهُ مُطْلَقًا فَانْقَطَعَ الِاخْتِلَافُ، بَلْ ظَاهِرُ الْهِدَايَةِ أَنَّهُ كَبِيرَةٌ وَلَوْ لِنَفْسِهِ وَأَقَرَّهُ الْمُصَنِّفُ. قَالَ: وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ يَسْمَعُ الْغِنَاءَ أَوْ يَجْلِسُ مَجْلِسَ الْغِنَاءِ. ا.هـ([39]).
قال السرخسي رحمه الله: وَلَا شَهَادَةُ صَاحِبِ الْغِنَاءِ الَّذِي يُخَادِنُ عَلَيْهِ وَيَجْمَعُهُمْ وَالنَّائِحَةُ؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ فِسْقٍ وَيُسْتَخَفُّ بِهِ عِنْدَ الصُّلَحَاءِ مِنْ النَّاسِ وَلَا يُمْتَنَعُ مِنْ الْمُحَازَقَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُه([40])ُ.
ثانيًا: المذهب المالكي:
قال الدسوقي رحمه الله:
في ثنايا كلامه عن الغناء والمعازف: وَلَكِنْ الْمُعْتَمَدُ كَمَا قَالَ شَيْخُنَا إنَّهُ مَتَى كَانَ بِكَلَامٍ قَبِيحٍ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى قَبِيحٍ أَوْ كَانَ بِآلَةٍ كَانَ حَرَامًا سَوَاءٌ كَانَ بِعُرْسٍ أَوْ صَنِيعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا تَكَرَّرَ أَمْ لَا فِعْلًا أَوْ سَمَاعًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِقَبِيحٍ وَلَمْ يُحْمَلْ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ بِآلَةٍ فَالْكَرَاهَةُ سَوَاءٌ كَانَ بِعُرْسٍ أَوْ صَنِيعٍ أَوْ غَيْرِهِمَا تَكَرَّرَ أَمْ لَا فِعْلًا أَوْ سَمَاعًا تُرَدُّ بِهِ الشَّهَادَةُ إذَا تَكَرَّرَ فِي السَّنَةِ كَانَ بِآلَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا([41]).
قال المواق المالكي رحمه الله: في باب من تقبل شهادته، ومن ترد شهادته: (وَسَمَاعِ غِنَاءٍ) الْمَازِرِيُّ: الْغِنَاءُ لَا بِآلَةٍ عِنْدَنَا مَكْرُوهٌ([42]).([43]).
ثالثًا:المذهب الشافعي:
قال الماوردي رحمه الله:
وَأَمَّا الْمَلَاهِي فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ: حَرَامٍ، وَمَكْرُوهٍ، وَحَلَالٍ.
فَأَمَّا الْحَرَامُ: فَالْعُودُ وَالطُّنْبُورُ وَالْمِعْزَفَةُ وَالطَّبْلُ وَالْمِزْمَارُ وَمَا أَلْهَى بِصَوْتٍ مُطْرِبٍ إِذَا انْفَرَدَ.
وَرَوَى عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيّ r قال:… وساق حديث أبي داود كما تقدم… إلى أن قال: وَكَانَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا يَخُصُّ الْعَوْدَ مِنْ بَيْنِهَا وَلَا يُحَرِّمُهُ، لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ عَلَى حَرَكَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ تَنْفِي الْهَمَّ، وَتُقَوِّي الْهِمَّةَ وَتَزِيدُ فِي النَّشَاطِ.
وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّهُ أَكْثَرُ الْمَلَاهِي طَرَبًا، وَأَشْغَلُهَا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنِ الصَّلَاةِ. وَإِنْ تَمَيَّزَ بِهِ الْأَمَاثِلُ عَنِ الْأَرَاذِلِ.
وَأَمَّا الْمَكْرُوهُ: فَمَا زَادَ بِهِ الْغِنَاءُ طَرَبًا، وَلَمْ يَكُنْ بِانْفِرَادِهِ مُطْرِبًا. كَالْفُسَحِ، وَالْقَضِيبِ. فَيُكْرَهُ مَعَ الْغِنَاءِ لِزِيَادَةِ إِطْرَابِهِ، وَلَا يُكْرَهُ إِذَا انْفَرَدَ لِعَدَمِ إِطْرَابِهِ.
وَأَمَّا الْمُبَاحُ: فَمَا خَرَجَ عَنْ آلَةِ الْإِطْرَابِ. إِمَّا إِلَى إِنْذَارٍ كَالْبُوقِ، وَطَبْلِ الْحَرْبِ. أَوْ لِمَجْمَعٍ وَإِعْلَانٍ كَالدُّفِّ فِي النِّكَاحِ، كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْه وَسَلَامُهُ:« أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ »([44]).
وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا هَلْ ضَرْبُ الدُّفِّ عَلَى النِّكَاحِ عَامٌّ فِي كُلِّ الْبُلْدَانِ وَالْأَزْمَانِ؟ فَعَمَّ بَعْضُهُمْ لِإِطْلَاقِهِ وَخَصَّ بَعْضُهُمْ فِي الْبُلْدَانِ الَّتِي لَا يَتَنَاكَرُ أَهْلُهَا فِي الْمَنَاكِحِ كَالْقُرَى وَالْبَوَادِي وَيُكْرَهُ فِي غَيْرِهَا، فِي مِثْلِ زَمَانِنَا، لِأَنَّهُ قَدْ عُدِلَ بِهِ إِلَى السَّخَفِ وَالسَّفَاهَةِ([45]).
قال النووي رحمه الله: في معرض كلامه عن الغناء:
أَنْ يُغَنِّيَ بِبَعْضِ آلَاتِ الْغِنَاءِ مِمَّا هُوَ مِنْ شِعَارِ شَارِبِي الْخَمْرِ وَهُوَ مُطْرِبٌ كَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ وَالصَّنْجِ وَسَائِرِ الْمَعَازِفِ وَالْأَوْتَارِ يَحْرُمُ اسْتِعْمَالُهُ وَاسْتِمَاعُهُ….
أَمَّا الدُّفُّ، فَضَرْبُهُ مُبَاحٌ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهِمَا، فَأَطْلَقَ صَاحِبُ «الْمُهَذَّبِ» وَالْبَغَوِيُّ وَغَيْرُهُمَا تَحْرِيمَه([46]).
رابعًا: المذهب الحنبلي:
قال ابن قدامة رحمه الله:
فَصْلٌ: فِي الْمَلَاهِي: وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَضْرُبٍ؛ مُحَرَّمٌ، وَهُوَ ضَرْبُ الْأَوْتَارِ وَالنَّايَاتُ، وَالْمَزَامِيرُ كُلُّهَا، وَالْعُودُ، وَالطُّنْبُورُ، وَالْمِعْزَفَةُ، وَالرَّبَابُ، وَنَحْوُهَا، فَمَنْ أَدَامَ اسْتِمَاعَهَا، رُدَّتْ شَهَادَتُهُ؛…
وَضَرْبٌ مُبَاحٌ؛ وَهُوَ الدُّفُّ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «أَعْلِنُوا النِّكَاحَ، وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفِّ».أَخْرَجَه الترمذي([47])،وَذَكَرَ أَصْحَابُنَا، وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، أَنَّهُ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ؛ لِأَنَّهُ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ، أَنَّهُ كَانَ إذَا سَمِعَ صَوْتَ الدُّفِّ، بَعَثَ فَنَظَرَ، فَإِنْ كَانَ فِي وَلِيمَةٍ سَكَتَ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِهَا، عَمَدَ بِالدُّرَّةِ([48]).
وَلَنَا، مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْهُ، فَقَالَتْ: إنِّي نَذَرْت إنْ رَجَعْت مِنْ سَفَرِك سَالِمًا، أَنْ أَضْرِبَ عَلَى رَأْسِك بِالدُّفِّ. فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَوْفِ بِنَذْرِك» . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد([49])، وَلَوْ كَانَ مَكْرُوهًا لَمْ يَأْمُرْهَا بِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْذُورًا ….
وفي (ص: 127) قال: وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي الْغِنَاءِ؛ فَذَهَبَ أَبُو بَكْرٍ الْخَلَّالُ وَصَاحِبُهُ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ، إلَى إبَاحَتِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَالْغِنَاءُ وَالنَّوْحُ مَعْنًى وَاحِدٌ، مُبَاحٌ مَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مُنْكَرٌ، وَلَا فِيهِ طَعْنٌ. وَكَانَ الْخَلَّالُ يَحْمِلُ الْكَرَاهَةَ مِنْ أَحْمَدَ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمَذْمُومَةِ، لَا عَلَى الْقَوْلِ بِعَيْنِهِ. وَرُوِيَ عَنْ أَحْمَدَ، أَنَّهُ سَمِعَ عِنْدَ ابْنِهِ صَالِحٍ قَوَّالًا، فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُ صَالِحٌ: يَا أَبَتِ، أَلَيْسَ كُنْت تَكْرَهُ هَذَا؟ فَقَالَ: إنَّهُ قِيلَ لِي: إنَّهُمْ يَسْتَعْمِلُونَ الْمُنْكَرَ.
وَمِمَّنْ ذَهَبَ إلَى إبَاحَتِهِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، سَعْدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَالْعَنْبَرِيُّ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ: «كَانَتْ عِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ، فَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَزْمُورُ([50]) الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعْهُمَا، فَإِنَّهَا أَيَّامُ عِيدٍ» . مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ([51]).
وَعَنْ عُمَرَ t أَنَّهُ قَالَ: الْغِنَاءُ ([52]) زَادُ الرَّاكِبِ. وَاخْتَارَ الْقَاضِي أَنَّهُ مَكْرُوهٌ غَيْرُ مُحَرَّمٍ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: هُوَ مِنْ اللَّهْوِ الْمَكْرُوهِ. وَقَالَ أَحْمَدُ: الْغِنَاءُ يُنْبِتُ النِّفَاقَ فِي الْقَلْبِ، لَا يُعْجِبُنِي.
وَذَهَبَ آخَرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا إلَى تَحْرِيمِهِ. قَالَ أَحْمَدُ: فِي مَنْ مَاتَ وَخَلَّفَ وَلَدًا يَتِيمًا، وَجَارِيَةً مُغَنِّيَةً، فَاحْتَاجَ الصَّبِيُّ إلَى بَيْعِهَا، تُبَاعُ سَاذَجَةً. قِيلَ لَهُ: إنَّهَا تُسَاوِي مُغَنِّيَةً ثَلَاثِينَ أَلْفًا، وَتُسَاوَيْ سَاذَجَةً عِشْرِينَ دِينَارًا. قَالَ: لَا تُبَاعُ إلَّا عَلَى أَنَّهَا سَاذَجَةٌ. وَاحْتَجُّوا عَلَى تَحْرِيمِهِ بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] . قَالَ: الْغِنَاءُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، فِي قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] ، قَالَ: هُوَ الْغِنَاءُ([53]).
قال ابن قدامة رحمه الله:
فصل في الملاهي، وهي نوعان:
محرم: وهي الآلات المطربة من غير غناء كالمزمار، وسواء كان من عود أو قصب كالشبابة، أو غيره كالطنبور والعود والمعزفة…
النوع الثاني مباح: وهو الدف في النكاح؛ لأن النبي r قال: «أعلنوا النكاح، واضربوا عليه بالدف» رواه الترمذي وابن ماجه، وفي معناه ما كان في حادث سرور، ويكره في غيره… إلى أن قال: وهو مكروه للرجل على كل حال؛ لتشبهه بالنساء([54]).
? تنبيه هام:
إذا جاء عن الشافعي أو أحمد أن الغناء مكروه، فالمقصود بالمكروه عندهم: هو الغناء الذي ليس فيه منكر، وبغير آلات لهو.
قال أبو الطيب الطبري رحمه الله:
وَأَمَّا مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ فَقَالَ: الْغِنَاءُ مَكْرُوهٌ يُشْبِهُ الْبَاطِلَ، وَمَنِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ فَهُوَ سَفِيهٌ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْفَرَجِ الْجَوْزِيُّ عَنْ إِمَامِهِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ ثَلَاثَ رِوَايَاتٍ قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ أَصْحَابُنَا عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْخَلَّالِ وَصَاحِبِهِ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِبَاحَةَ الْغِنَاءِ، وَإِنَّمَا أَشَارُوا إِلَى مَا كَانَ فِي زَمَانِهِمَا مِنَ الْقَصَائِدِ الزُّهْدِيَّاتِ، قَالَ: وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا لَمْ يَكْرَهْهُ أَحْمَدُ، وَيَدُلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَخَلَّفَ وَلَدًا وَجَارِيَةً مُغَنِّيَةً… وساق كلام ابن قدامة كما تقدم في شأن الجارية المغنية… قَالَ أَبُو الْفَرَجِ: وَإِنَّمَا قَالَ أَحْمَدُ هَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ الْمُغَنِّيَةَ لَا تُغْنِّي بِقَصَائِدَ الزُّهْدِ، بَلْ بِالْأَشْعَارِ الْمُطْرِبَةِ الْمُثِيرَةِ إِلَى العشق([55]).
الحكمة من تحريم الغناء:
الغناء يفسد القلب ويمنع حفظ القرآن فضلًا عن فهمه وتدبره والعمل به، فقرآن الرحمن وكلام الشيطان لا يجتمعان في قلب مؤمن، ، فالغناء يلهي عن ذكر الله، ويتسبب في غفلة القلب، وغير ذلك من مفسدات وأضرار، منها:
1- محبة الغناء تطرد محبة القرآن من القلب:
قال ابن القيم رحمه الله:
حب الكتاب وحب ألحان الغنا … في قلب عبد ليس يجتمعان
ثقل الكتاب عليهم لما رأوا … تقييده بشرائع الإيمان
واللهو خف عليهم لما رأوا … ما فيه من طرب ومن ألحان
قوت النفوس وإنما القرآن قو … ت القلب أنى يستوي القوتان
ولذا تراه حظ ذي النقصان كالـ … ـجهال والصبيان والنسوان
وألذهم فيه أقلهم من العقل … الصحيح فسل أخا العرفان
يا لذة الفساق لست كلذة الـ … أبرار في عقل ولا قرآن([56]).
2- الغناء ينبت النفاق في القلب:
قال تعالى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) (الأحزاب:4).
ولا شك أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بقلبين في جوفه، بل هو قلب واحد، إما قلب مع الشيطان وإما قلب مع الرحمن.
قال الإمام أحمد بن حنبل: الغناء يُنْبِتُ النفاق في القلب، لا يعجبني([57]).
3- الغناء يؤدي إلى سخط الرحمن:
كتب عمر بن عبد العزيز إلى مؤدِّب ولده: “ليكن أوّل ما يعتقدون من أدبك بغض الملاهي، التي بَدْؤُها من الشيطان، وعاقبتُها سخطُ الرحمن؛ فإنه بلغني عن الثقات من أهل العلم: أن صوت المعازف واستماع الأغاني واللَّهج بها يُنبِتُ النفاقَ في القلب كما يَنْبُتُ العُشبُ على الماء([58]).
4- الغناء يفسد القلب:
قال الضحاك: “الغناء مفسدة للقلب، مسخطة للرب”([59]).
5- الغناء رائد الفجور:
قال محمد بن الفضل الأزدي:
نزل الحُطَيْئَةُ برجل من العرب، ومعه ابنته مُلَيْكة، فلما جَنَّه الليلُ سمع غناء، فقال لصاحب المنزل: كُفَّ هذا عني، فقال: وما تكره من ذلك؟ فقال: إن الغناء رائدٌ من رَادَةِ الفجور، ولا أُحب أن تُسمِعَه هذه -يعني ابنته-، فإن كففته وإلا خرجتُ عنك([60]).
6- الغناء يدعو إلى الزنا:
قَالَ يَزِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ النَّاقِصُ:
يَا بَنِي أُمَيَّةَ إِيَّاكُمْ وَالْغِنَاءَ فَإِنَّهُ يُنْقِصُ الْحَيَاةَ وَيَزِيدُ فِي الشَّهْوَةِ وَيَهْدِمُ الْمُرُوءَةَ ، فَإِنَّهُ لَيَنُوبُ عَنِ الْخَمْرِ ، يَفْعَلُ مَا يَفْعَلُ السُّكْرُ ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَجَنِّبُوهُ النِّسَاءَ ، فَإِنَّ الْغِنَاءَ دَاعِيَةُ الزِّنَا “([61]).
7- الغناء يفعل ما يفعله الخمر:
قال ابن تيمية رحمه الله:
” الْمَعَازِفُ ” هِيَ خَمْرُ النُّفُوسِ تَفْعَلُ بِالنُّفُوسِ أَعْظَمَ مِمَّا تَفْعَلُ حُمَيَّا الْكُؤُوسِ فَإِذَا سَكِرُوا بِالْأَصْوَاتِ حَلَّ فِيهِمْ الشِّرْكُ وَمَالُوا إلَى الْفَوَاحِشِ وَإِلَى الظُّلْمِ فَيُشْرِكُونَ وَيَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ وَيَزْنُونَ([62]).
8- الغناء من أعظم الأسباب للوقوع في الفواحش:
قال ابن تيمية رحمه الله: وَأَمَّا ” الْفَوَاحِشُ ” فَالْغِنَاءُ رُقْيَةُ الزِّنَا وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَسْبَابِ لِوُقُوعِ الْفَوَاحِشِ وَيَكُونُ الرَّجُلُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ فِي غَايَةِ الْعِفَّةِ وَالْحُرِّيَّةِ حَتَّى يَحْضُرَهُ فَتَنْحَلُّ نَفْسُهُ وَتَسْهُلُ عَلَيْهِ الْفَاحِشَةُ وَيَمِيلُ لَهَا فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا بِهِ أَوْ كِلَاهُمَا كَمَا يَحْصُلُ بَيْنَ شَارِبِي الْخَمْرِ وَأَكْثَرُ([63]).
9- ارتكاب الإثم:
قال ابن تيمية رحمه الله: الْمُحَرَّمَ هُوَ الِاسْتِمَاعُ لَا السَّمَاعُ فَالرَّجُلُ لَوْ يَسْمَعُ الْكُفْرَ وَالْكَذِبَ وَالْغِيبَةَ وَالْغِنَاءَ والشبابة مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ؛ بَلْ كَانَ مُجْتَازًا بِطَرِيقِ فَسَمِعَ ذَلِكَ لَمْ يَأْثَمْ بِذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ. وَلَوْ جَلَسَ وَاسْتَمَعَ إلَى ذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ لَا بِقَلْبِهِ وَلَا بِلِسَانِهِ وَلَا يَدِهِ كَانَ آثِمًا بِاتِّفَاقِ الْمُسْلِمِينَ([64]).
شبهات والرد عليها:
استدل القائلون بجواز الاستماع إلى الغناء والمعازف بعدة أدلة منها:
الدليل الأول: حديث عائشة:
عن عائشة قالت: « دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِغِنَاءِ بُعَاثَ، فَاضْطَجَعَ عَلَى الفِرَاشِ، وَحَوَّلَ وَجْهَهُ، وَدَخَلَ أَبُو بَكْرٍ، فَانْتَهَرَنِي وَقَالَ: مِزْمَارَةُ الشَّيْطَانِ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ فَقَالَ: «دَعْهُمَا»، فَلَمَّا غَفَلَ غَمَزْتُهُمَا فَخَرَجَتَا »([65]).
– وفي رواية: قالت رضي الله عنها: « دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟! وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا، وَهَذَا عِيدُنَا »([66]).
استدل أبو محمد بن حزم – رحمه الله – بهذا الحديث على إباحة المعازف.
?الرد على هذه الشبهة:
قال ابن الملقن رحمه الله: بعد أن تكلم عن صحة أحاديث الباب، قال:
إذا تقرر ذلك، فالكلام عليه من أوجه.
أحدها: الجارية في النساء، كالغلام في الرجال، ويقال على من دون البلوغ منهما.
ثانيها: معنى تغنيان: ترفعان أصواتهما بالإنشاد، وكل من رفع صوته بشيء، ووالى به مرة بعد مرة، فصوته عند العرب غناء، وأكثره فيما ساق من صوت أو شجا من نغمة ولحن؛ ولهذا قالوا: غنت الحمام، ويغني الطائر، هذا قول الخطابي.
وفي رواية له في الباب بعده: «وليستا بمغنيتين»، وللنسائي: تضربان الدف بالمدينة.
وفي قوله: «ليستا بمغنيتين» إرشاد إلى أن ذلك ليس بالغناء الذي يهيج النفوس إلى أمور لا تليق، وإنما لم يتخذا الغناء صناعة وعادة.
قال القرطبي: ولا خلاف في تحريم هذا الغناء؛ لأنه من اللهو واللعب المذموم بالاتفاق، فأما ما يسلم من المحرمات فيجوز القليل منه في الأعراس والأعياد وشبهها، ومذهب أبي حنيفة تحريمه، وبه يقول أهل العراق.
ومشهور مذهبنا ومذهب مالك كراهته.
قال ابن الملقن: كان الشعر الذي تتغنيان به في وصف الشجاعة والحرب، وإذا صرف إلى جهاد الكفار كان معونة على أمر الدين كما سلف، وأما الغناء الذي فيه غناء بمحظور، كما سلف- وحاشا من هو دون الشارع أن يقال بمحضره ذلك، فيترك النكير له- فيحمل على ما قلناه. وقد استجازت الصحابة غناء العرب الذي هو مجرد الإنشاد والترنم، وأجازوا الحداء، وفعلوه بحضرة الشارع، وفي هذا إباحة مثل هذا، وما في معناه، وهذا ومثله ليس بحرام…
إلى أن قال: مزمارة: بكسر الميم، وروي: « أبمزمور الشيطان؟ » بضم الميم الأولى، وقد تفتح وأصله: صوت تصفير، والزمير: الصوت الحسن، يطلق على الغناء أيضًا([67]).
قال ابن بطال رحمه الله: في ثنايا شرحه لحديث عائشة المتقدم أول الباب: وإنما كانتا تنشدان المراثي التي تحزن وتبعث النفوس على الانتقام من العدو، وهي مراثي من أصيب يوم بعاث، فأباح النبي r هذا النوع من الغناء، وقولها: «وليستا بمغنيتين» تعني: الغناء الذي فيه ذكر الخنا والتعريض بالفواحش، وما يسميه المجان وأهل المعاصي: غناء، مما يكثر التنغيم فيه.
قال المهلب: وهذا الذي أنكره أبو بكر كثرة التنغيم وإخراج الإنشاد عن وجهه إلى معنى التطريب بالألحان، ألا ترى أنه لم ينكر الإنشاد، إنما أنكر مشابهة الزمير؟!… وقد روي عن عمر بن الخطاب أنه رخص في غناء الأعراب، وهو صوت كالحداء([68]) يسمى النصب إلا أنه رقيق([69]).
قال النووي رحمه الله: قَالَ الْقَاضِي: إِنَّمَا كَانَ غِنَاؤُهُمَا بِمَا هُوَ مِنْ أَشْعَارِ الْحَرْبِ وَالْمُفَاخَرَةِ بِالشَّجَاعَةِ وَالظُّهُورِ وَالْغَلَبَةِ؛ وَهَذَا لَا يُهَيِّجُ الْجَوَارِيَ عَلَى شَرٍّ، وَلَا إِنْشَادُهُمَا لِذَلِكَ مِنَ الْغِنَاءِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالْإِنْشَادِ ، وَلِهَذَا قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ أَيْ : لَيْسَتَا مِمَّنْ يتغنى بِعَادَةِ الْمُغَنِّيَاتِ مِنَ التَّشْوِيقِ وَالْهَوَى وَالتَّعْرِيضِ بِالْفَوَاحِشِ وَالتَّشْبِيبِ بِأَهْلِ الْجَمَالِ وَمَا يُحَرِّكُ النُّفُوسَ وَيَبْعَثُ الهوى والغزل([70]).
الدليل الثاني: أثر لابن عمر مختلف في تصحيحه:
عن نافع قال: سمع ابن عمر مزمارًا، قال: فَوَضَعَ إِصْبَعَيْهِ عَلَى أُذُنَيْهِ، وَنَأَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَقَالَ لِي: يَا نَافِعُ هَلْ تَسْمَعُ شَيْئًا؟ قَالَ: فَقُلْتُ: لَا، قَالَ: فَرَفَعَ إِصْبَعَيْهِ مِنْ أُذُنَيْهِ، وَقَالَ: «كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعَ مِثْلَ هَذَا فَصَنَعَ مِثْلَ هَذَا »([71]).
قال ابن حزم – رحمه الله -: بعد ذكره هذا الأثر: وَلَوْ كَانَ الْمِزْمَارُ حَرَامًا سَمَاعُهُ لَمَا أَبَاحَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – لِابْنِ عُمَرَ سَمَاعَهُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ حَرَامًا سَمَاعُهُ لَمَا أَبَاحَ لِنَافِعٍ سَمَاعَهُ، وَلَأَمَرَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – بِكَسْرِهِ وَبِالسُّكُوتِ عَنْهُ، فَمَا فَعَلَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. وَإِنَّمَا تَجَنَّبَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ – سَمَاعَهُ كَتَجَنُّبِهِ أَكْثَرَ الْمُبَاحِ مِنْ أَكْثَرِ أُمُورِ الدُّنْيَا ([72]).
?الرد على هذه الشبهة:
قال الخطابي رحمه الله: المزمار الذي سمعه ابن عمر رضي الله عنه هو صفارة الرعاة، وقد جاء ذلك مذكورًا في هذا الحديث من غير هذه الرواية، وهذا وإن كان مكروهًا فقد دل هذا الصنع على أنه ليس في غلظ الحرمة كسائر الزمور والمزاهر والملاهي التي يستعملها أهل الخلاعة والمجون، ولو كان كذلك لأشبه أن لا يقتصر في ذلك على سد المسامع فقط دون أن يبلغ فيه من النكير مبلغ الردع والتنكيل. والله أعلم([73]).
قال ابن قدامة رحمه الله:
وَقَدْ احْتَجَّ قَوْمٌ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى إبَاحَةِ الْمِزْمَارِ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ حَرَامًا لَمَنَعَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ابْنَ عُمَرَ مِنْ سَمَاعِهِ، وَمَنَعَ ابْنُ عُمَرَ نَافِعًا مِنْ اسْتِمَاعِهِ، وَلَأَنْكَرَ عَلَى الزَّامِرِ بِهَا. قُلْنَا: أَمَّا الْأَوَّلُ فَلَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ اسْتِمَاعُهَا دُونَ سَمَاعِهَا، وَالِاسْتِمَاعُ غَيْرُ السَّمَاعِ، وَلِهَذَا فَرَّقَ الْفُقَهَاءُ فِي سُجُودِ التِّلَاوَةِ بَيْنَ السَّامِعِ وَالْمُسْتَمِعِ، وَلَمْ يُوجِبُوا عَلَى مَنْ سَمِعَ شَيْئًا مُحَرَّمًا سَدَّ أُذُنَيْهِ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55] . وَلَمْ يَقُلْ: سَدُّوا آذَانَهُمْ.
وَالْمُسْتَمِعُ هُوَ الَّذِي يَقْصِدُ السَّمَاعَ، وَلَمْ يُوجَدْ هَذَا مِنْ ابْنِ عُمَرَ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مِنْهُ السَّمَاعُ؛ وَلِأَنَّ بِالنَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَاجَةً إلَى مَعْرِفَةِ انْقِطَاعِ الصَّوْتِ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ الطَّرِيقِ، وَسَدَّ أُذُنَيْهِ، فَلَمْ يَكُنْ لِيَرْجِعَ إلَى الطَّرِيقِ، وَلَا يَرْفَعَ إصْبَعَيْهِ عَنْ أُذُنَيْهِ، حَتَّى يَنْقَطِعَ الصَّوْتُ عَنْهُ، فَأُبِيحَ لِلْحَاجَةِ. وَأَمَّا الْإِنْكَارُ، فَلَعَلَّهُ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ، حِينَ لَمْ يَكُنْ الْإِنْكَارُ وَاجِبًا، أَوْ قَبْلَ إمْكَانِ الْإِنْكَارِ؛ لِكَثْرَةِ الْكُفَّارِ، وَقِلَّةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ([74]).
الدليل الثالث: تضعيفهم للحديث الذي رواه البخاري معلقًا:
والحديث تقدم أول المسألة، وهو من معلقات البخاري بصيغة الجزم، وقد صححه أهل المعرفة بالحديث.
قال الحافظ رحمه الله:
وَأَمَّا دَعْوَى ابن حَزْمٍ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا، فَقَدْ سَبَقَهُ إِلَيْهَا بن الصَّلَاحِ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ فَقَالَ :التَّعْلِيقُ فِي أَحَادِيثَ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قُطِعَ إِسْنَادُهَا وَصُورَتُهُ صُورَةُ الِانْقِطَاعِ، وَلَيْسَ حُكْمُهُ حُكْمَهُ وَلَا خَارِجًا مَا وُجِدَ ذَلِكَ فِيهِ مِنْ قَبِيلِ الصَّحِيحِ إِلَى قَبِيلِ الضَّعِيفِ، وَلَا الْتِفَاتٌ إِلَى أَبِي مُحَمَّدِ بْنِ حَزْمٍ الظَّاهِرِيِّ الْحَافِظِ فِي رَدِّ مَا أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَامِرٍ وَأَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:” لَيَكُونَنَّ فِي أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ الْحَدِيثَ” مِنْ جِهَةِ أَنَّ الْبُخَارِيَّ أَوْرَدَهُ قَائِلًا قَالَ هِشَامُ بْنُ عمار وَسَاقه بِإِسْنَادِهِ ، فَزعم ابن حَزْمٍ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ فِيمَا بَيْنَ الْبُخَارِيِّ وَهِشَامٍ ، وَجَعَلَهُ جَوَابًا عَنِ الِاحْتِجَاجِ بِهِ عَلَى تَحْرِيمِ الْمَعَازِفِ ، وَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ مَعْرُوفُ الِاتِّصَالِ بِشَرْطِ الصَّحِيحِ، وَالْبُخَارِيُّ قَدْ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ كِتَابِهِ مُسْنَدًا مُتَّصِلًا ، وَقَدْ يَفْعَلُ ذَلِكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي لَا يَصْحَبُهَا خَلَلُ الِانْقِطَاعِ. ا.هـ.
وَقَدْ تَقَرَّرَ عِنْدَ الْحُفَّاظِ أَنَّ الَّذِي يَأْتِي بِهِ الْبُخَارِيُّ مِنَ التَّعَالِيقِ كُلِّهَا بِصِيغَةِ الْجَزْمِ يَكُونُ صَحِيحًا إِلَى مَنْ عَلَّقَ عَنْهُ؛ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ شُيُوخِهِ ؛ لَكِنِ إِذَا وُجِدَ الْحَدِيثُ الْمُعَلَّقُ مِنْ رِوَايَةِ بَعْضِ الْحُفَّاظِ مَوْصُولًا إِلَى مَنْ عَلَّقَهُ بِشَرْطِ الصِّحَّةِ أَزَالَ الْإِشْكَالَ، وَلِهَذَا عَنَيْتُ فِي ابْتِدَاءِ الْأَمْرِ بِهَذَا النَّوْعِ وَصَنَّفَتْ كِتَابَ( تَعْلِيقِ التَّعْلِيقِ)([75]).
قال العيني رحمه الله:
والْحَدِيث صَحِيح وَإِن كَانَت صورته صُورَة التَّعْلِيق، وَقد تقرر عِنْد الْحفاظ أَن الَّذِي يَأْتِي بِهِ البُخَارِيّ من التَّعَالِيق كلهَا بِصِيغَة الْجَزْم يكون صَحِيحا إِلَى من علقه عَنهُ، وَلَو لم يكن من شيوخه. فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: هَذَا الحَدِيث مُنْقَطع فِيمَا بَين البُخَارِيّ وَصدقَة بن خَالِد والمنقطع لَا تقوم بِهِ حجَّة. قلت: وهم ابْن حزم فِي هَذَا، فَالْبُخَارِي إِنَّمَا قَالَ: قَالَ هِشَام بن عمار: حَدثنَا صَدَقَة وَلم يقل: قَالَ صَدَقَة بن خَالِد. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) وليته أعله بِصَدقَة فَإِن يحيى قَالَ فِيهِ: لَيْسَ بِشَيْء، رَوَاهُ ابْن الْجُنَيْد عَنهُ، وروى الْمروزِي عَن أَحْمد: لَيْسَ بِمُسْتَقِيم وَلم يرضه. قلت: هَذَا تمنٍ غير مرجو فِيهِ، المُرَاد فَإِن عبد الله بن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ عَن أَبِيه، فَقِيه ثِقَة لَيْسَ بِهِ بَأْس، أثبت من الْوَلِيد بن مُسلم صَالح الحَدِيث. وَقَالَ دُحَيْم وَالْعجلِي وَمُحَمّد بن سعد وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة، وروى عَن يحيى أَيْضًا، وَذهل صَاحب (التَّوْضِيح) وَظن أَنه الْمَنْقُول عَن أَحْمد وَيحيى فِيهِ وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك فِي صَدَقَة بن عبد السمين وَهُوَ أقدم من صَدَقَة بن خَالِد، وَقد شَاركهُ فِي كَونه دمشقياً، وَفِي رِوَايَة عَن بعض شُيُوخه كزيد بن وَاقد وَهُوَ صَدَقَة بن خَالِد الْقرشِي الْأمَوِي أَبُو الْعَبَّاس الدِّمَشْقِي مولى أم الْبَنِينَ أُخْت مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَالَه البُخَارِيّ وَأَبُو حَاتِم. انتهى([76]).
?الخلاصة :
بعد عرض هذه الأقوال والمذاهب يتبين لنا الآتي:
1- أن جميع آلات اللهو محرمة – حاشا الدف في النكاح وما أشبهه – فلا يجوز الاستماع إلى المعازف بأي وجه من الوجوه.
2- الأغاني التي فيها منكر من القول أو تعريض بالفواحش أو التي تثير الشهوات والمحرمات فتبعث الكامن وتحرك الساكن، هذا النوع من الغناء حرام بالاتفاق، وإن كان بغير معازف، وإن كان مع المعازف فأشد حرمة؛ لاجتماع نوعين من المحرمات.
3- الشعر والحداء والغناء المباح هو الذي يخلو من كل ما ذكرنا، والذي يكون فيه ذكر الدار الآخرة والزهد في الدنيا والترغيب فيما عند الله، وما أشبه ذلك من الأمور المحمودة، شريطة أن لا يكون ذلك هو الغالب؛ حتى لا يلهي عن القرآن والذكر وطلب العلم الذي هو غاية كل عاقل في هذه الدنيا؛ لأن العبادة هي الغاية التي من أجلها خلق الإنسان، وبها يصل إلى دار الخلود في جنات النعيم.
وبناء على ذلك فالاستماع إلى الغناء والشعر المباح بدون معازف في بعض الأوقات بنية الترويح عن النفس لتنشط للعبادة لا مانع منه عند جماهير العلماء كما سبق بيان ذلك، والله تعالى أحكم وأعلم.