هل عُطلت الصلوات والجمعة والجماعات في المساجد في جميع البلاد في آن واحد من قبل؟ وهل عطلت فريضة الحج من قبل؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعد..
فعلى وجه الإجمال لم يثبت أن الصلوات والجمعة والجماعات عُطلت في جميع المساجد في جميع البلاد – الإسلامية وغير الإسلامية- في فترة من الفترات في آن واحد، إنما عُطلت الصلاة في بعض المساجد بعض الأوقات، وكذلك فريضة الحج عُطلت في بعض الأعوام.
أما تفصيل المسألة:
أولًا: لا بد أن نعلم أن هذا الوباء الذي احتاج العالم كله هو بلاء، وتسليط من الله عز وجل على العباد.
وهذا البلاء عقوبة للكافر الذي علم الحق وأعرض، وإعذار وإنذار للعصاة، وقد يكون عقوبة لهم، وهو رحمة للمؤمنين، يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعائب.
قال الله تعالى في شأن الكافرين: (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ) ( آل عمران:56).
وقال سبحانه: (فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (العنكبوت:40).
وقال تعالى في شأن المؤمنين: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30).
وقال تعالى لخيار خلقه من المؤمنين وهم الصحابة )أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:165).
قال ابن القيم في شفاء العليل (ص:255):
في معرض تفسيره لهذه الآية: وفي هذا تبشير وتحذير إذ أعلمنا أن مصائب الدنيا عقوبات لذنوبنا وهو أرحم أن يثني العقوبة على عبده بذنب قد عاقبه به في الدنيا. انتهى.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ»- أخرجه البخاري (11770)، ومسلم (2573).
وغيره من الأحاديث وهي كثيرة.
قال علي ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع بلاء إلا بتوبة.
ثانيًا: قد يكون البلاء رفعة في درجات المؤمن في الجنة:
فالمؤمن الصادق الذي قام بحق العبودية فاستقام في الظاهر والباطن، ولكن عمله لا يبلغه منزلة عالية في الجنة، ابتلاه الله تعالى، فإن صبر ورضي ولم يجزع وحمد الله وشكره وداوم على فعل الطاعات وترك المنكرات، كان ذلك مكرمة له، ورفع درجاته في الجنة، والأدلة على ذلك كثير، منها:
1- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً»- أخرجه البخاري (5641)، ومسلم (2573).
2- وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَنْزِلَةٌ، لَمْ يَبْلُغْهَا بِعَمَلِهِ ابْتَلَاهُ اللَّهُ فِي جَسَدِهِ، أَوْ فِي مَالِهِ، أَوْ فِي وَلَدِهِ»- أخرجه أبو داود (3090)، وصححه العلامة الألباني في السلسة الصحيحة (2599).
3- وقال صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ عِظَمَ الجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ البَلاَءِ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاَهُمْ، فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»- رواه الترمذي (2396)، وصححه الألباني في الصحيحة (146).
4- عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ قَالَ: الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلاَؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلاَءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ- رواه الترمذي (2398)، وصحيح ابن حبان (2921) وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3402).
لكن لا ينبغي لعاقل أن يحكم لنفسه أن هذا البلاء رفعة له في الدرجات، فهذا من تزكية النفس التي نهي الله عنها في قوله: ( فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ) (النجم:32).
فحسبه أن يحاسب نفسه، ويسعى في تزكيتها، ويحتسب عند البلاء الأجر والثواب، وأنه طهور له من الخطايا والآثام، وليعلم أن الرب شكور كريم منان، فيحسن الظن بربه.
ثالثًا: ذكر أهل العلم في كتب السّير والتاريخ أن بعض المساجد عُطلت فيها الصلوات الخمس والجمعة والجماعات:
قال أبو جعفر الطبري في تاريخ الرسل والملوك (10/7):
سنة إحدى وسبعين ومائتين…. فمن ذلك ما كان فيها من ورود الخبر في غرة صفر بدخول محمد وعلي ابني الحسين بن جعفر بْن موسى بْن جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ المدينة وقتلهما جماعة من أهلها ومطالبتهما أهلها بمال، وأخذهما من قوم منهم مالا وأن أهل المدينة لم يصلوا فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أربع جمع، لاجمعة ولا جماعة.
قال الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام (20/219):
سنة إحدى وسبعين ومائتين… تعطيل الجمعة فِي مسجد الرَّسُول:
وفيها دخل محمد، وعليّ ابنا الْحُسَيْن بْن جَعْفَر بْن مُوسَى بْن جَعْفَر الصّادق بْن محمد المدينة، فقتلا فيها، وجَبَيا الأموال، وعطِّلت الجمعة والجماعة فِي مسجد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهرًا.
قال ابن الأثير في الكامل في التاريخ (7/227):
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ تِسْعٍ وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ… وَفِيهَا خَامِسَ شَعْبَانَ، وَكَانَ بِبَغْدَادَ فِتْنَةٌ عَظِيمَةٌ بَيْنَ الْعَامَّةِ، وَتَعَطَّلَتِ الْجُمُعَةُ مِنَ الْغَدِ لِاتِّصَالِ الْفِتْنَةِ فِي الْجَانِبَيْنِ، سِوَى مَسْجِدِ بَرَاثَا، فَإِنَّ الْجُمُعَةَ تَمَّتْ فِيهِ، وَقُبِضَ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ اتُّهِمُوا أَنَّهُمْ سَبَبُ الْفِتْنَةِ، ثُمَّ أُطْلِقُوا مِنَ الْغَدِ.
قال ابن كثير في البداية والنهاية (15/543-544)
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ ثَلَاثٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ…. وَانْتَشَرَتِ الْفِتْنَةُ بِبَغْدَادَ، وَرَفَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمَصَاحِفَ فِي الْأَسْوَاقِ، وَعُطِّلَتِ الْجُمُعَةُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ، وَاسْتَعَانُوا بِالْخَلِيفَةِ، فَأَمَرَ بِإِحْضَارِ ابْنِ أَبِي إِسْرَائِيلَ فَامْتَنَعَ، فَعَزَمَ الْخَلِيفَةُ عَلَى الْخُرُوجِ مِنْ بَغْدَادَ وَقَوِيَتِ الْفِتْنَةُ جِدًّا.
قال ابن الجوزي في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (16/18):
ثم دخلت سنة تسع وأربعين وأربعمائة…ومات رجل كان مقيمًا بمسجد فخلف خمسين ألف درهم، فلم يقبلها أحد، ووضعت في المسجد تسعة أيام بحالها، فدخل أربعة أنفس ليلا إلى المسجد وأخذوها فماتوا عليها. ويوصي الرجل الرجل فيموت الذي أوصى إليه قبل الموصى، وخلت أكثر المساجد من الجماعات.
قال الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام (38/11):
سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة…. وفي العشرين من ربيع الآخر جرى قتال، وعُطّلت الجمعة إلّا من جامع القصر، وهي الجمعة السّابعة.
قال ابن كثير في البداية والنهاية (17/362):
ثُمَّ دَخَلَتْ سَنَةُ سِتٍّ وَخَمْسِينَ وَسِتِّمِائَةٍ …. فِيهَا أَخَذَتِ التَّتَارُ بَغْدَادَ وَقَتَلُوا أَكْثَرَ أَهْلِهَا حَتَّى الْخَلِيفَةَ، وَانْقَضَتْ دَوْلَةُ بَنِي الْعَبَّاسِ مِنْهَا. وَقُتِلَ شَيْخُ الشُّيُوخِ مُؤَدِّبُ الْخَلِيفَةِ صَدْرُ الدِّينِ عَلِيُّ بْنُ النَّيَّارِ، وَقُتِلَ الْخُطَبَاءُ وَالْأَئِمَّةُ، وَحَمَلَةُ الْقُرْآنِ، وَتَعَطَّلَتِ الْمَسَاجِدُ وَالْجَمَاعَاتُ وَالْجُمُعَاتُ مُدَّةَ شُهُورٍ بِبَغْدَادَ. انتهى.
وجاء في مفاكهة الخلان في حوادث الزمان (1/359):
سنة ثلاث وعشرين وتسعمائة…. وانحسمت الظلمة المستولية بمقدمنا العزيز،
فطابت قلوب الرعايا، وبشرت من الله بما ظهر من ألطافه الخفايا، لما بدلوا من الظلمات نورًا، وأعقبوا من الموت نشورًا، فوجدناها بلدة أخربت فيها بقاع الخيرات ومساكن العباد، وعطلت المساجد.
وجاء في الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى (7/28):
لما كَانَ آخر سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف أغار الْمولى مُحَمَّد بن الشريف على زرع الحياينة بأحواز فاس فانتسفه وأفسده وَوَقعت عقب ذَلِك مجاعَة عَظِيمَة أكل النَّاس فِيهَا الْجِيَف وَالدَّوَاب والآدمي وخلت الدّور وعطلت الْمَسَاجِد
وفي (7/104):
وَفِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف مَعَ السّنة الَّتِي بعْدهَا حدثت مجاعَة عَظِيمَة بالمغرب لَا سِيمَا فاس وأعمالها أكل النَّاس فِيهَا الْجِيَف وَالدَّوَاب والآدمي وخلت الدّور وعطلت الْمَسَاجِد ثمَّ تدارك الله عباده بِلُطْفِهِ
قال ابن خلدون في ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر (4/145):
(الخبر عن نسب الطالبيين وذكر المشاهير من أعقابهم)
قال ابن حزم: وعقبه بالمدينة لأبي جعفر المنصور، ولا عقب لزيد إلّا منه. وكان من عقبه محمد بن الحسن بن محمد بن إبراهيم بن الحسن بن زيد. قام بالمدينة أيام المعتمد وجاهر بالمنكرات والقتل إلى أن تعطّلت الجماعات.
رابعًا: تعطيل فريضة الحج لأعوام:
قال سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان في تواريخ الأعيان(17/6):
والظاهر أنَّه لم يحج أحدٌ سنة سبع عشرة وثلاث مئة إلى سنة ست وعشرين وثلاث مئة خوفًا من القِرمِطي.
قال ابن كثير في البداية والنهاية (11/233-234):
في معرض كلامه عن أحداث سنة سبع وعشرين وثلاثمائة.
ذِكْرُ أَخْذِ الْقَرَامِطَةِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ إِلَى بِلَادِهِمْ، وَمَا كَانَ مِنْهُمْ إِلَى الْحَجِيجِ، لَعَنَ اللَّهُ الْقَرَامِطَةَ.
فِيهَا خَرَجَ رَكْبُ الْعِرَاقِ وَأَمِيرُهُمْ مَنْصُورٌ الدَّيْلَمِيُّ، فَوَصَلُوا إِلَى مَكَّةَ سَالِمِينَ، وَتَوَافَتِ الرُّكُوبُ هُنَاكَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ، فَمَا شَعَرُوا إِلَّا بِالْقِرْمِطِيِّ قَدْ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي جَمَاعَتِهِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَانْتَهَبَ أَمْوَالَهُمْ، وَاسْتَبَاحَ قِتَالَهُمْ، فَقَتَلَ النَّاسَ فِي رِحَابِ مَكَّةَ وَشِعَابِهَا حَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَفِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ، وَجَلَسَ أَمِيرُهُمْ أَبُو طَاهِرٍ سُلَيْمَانُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ الْجَنَّابِيُّ – لَعَنَهُ اللَّهُ – عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ، وَالرِّجَالُ تُصْرَعُ حَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، ثُمَّ فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، الَّذِي هُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْأَيَّامِ، وَهُوَ يَقُولُ:
أَنَا بِاللَّهِ وَبِاللَّهِ أَنَا … يَخْلُقُ الْخَلْقَ وَأُفْنِيهِمْ أَنَا
فَكَانَ النَّاسُ يَفِرُّونَ فَيَتَعَلَّقُونَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، فَلَا يُجْدِي ذَلِكَ عَنْهُمْ شَيْئًا، بَلْ يُقْتَلُونَ وَهُمْ كَذَلِكَ، وَيَطُوفُونَ فَيُقْتَلُونَ فِي الطَّوَافِ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْحَدِيثِ يَوْمَئِذٍ يَطُوفُ، فَلَمَّا قَضَى طَوَافَهُ أَخَذَتْهُ السُّيُوفُ، فَلَمَّا وَجَبَ، أَنْشَدَ وَهُوَ كَذَلِكَ:
تَرَى الْمُحِبِّينَ صَرْعَى فِي دِيَارِهِمُ … كَفِتْيَةِ الْكَهْفِ لَا يَدْرُونَ كَمْ لَبِثُوا
ثُمَّ أَمَرَ الْقِرْمِطِيُّ – لَعَنَهُ اللَّهُ – أَنْ تُدْفَنَ الْقَتْلَى بِبِئْرِ زَمْزَمَ، وَدَفَنَ كَثِيرًا مِنْهُمْ فِي أَمَاكِنِهِمْ وَحَتَّى فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ – وَيَا حَبَّذَا تِلْكَ الْقِتْلَةُ وَتِلْكَ الضِّجْعَةُ – وَلَمْ يُغَسَّلُوا، وَلَمْ يُكَفَّنُوا، وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّهُمْ شُهَدَاءُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، بَلْ مِنْ خِيَارِ الشُّهَدَاءِ، وَهَدَمَ قُبَّةَ زَمْزَمَ، وَأَمَرَ بِقَلْعِ بَابِ الْكَعْبَةِ، وَنَزَعَ كُسْوَتَهَا عَنْهَا، وَشَقَّقَهَا بَيْنَ أَصْحَابِهِ، وَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَصْعَدَ إِلَى مِيزَابِ الْكَعْبَةِ، فَأَرَادَ أَنْ يَقْتَلِعَهُ، فَسَقَطَ عَلَى أُمِّ رَأْسِهِ، فَمَاتَ لَعَنَهُ اللَّهُ وَصَارَ إِلَى أُمِّهِ الْهَاوِيَةِ، فَانْكَفَّ اللَّعِينُ عِنْدَ ذَلِكَ عَنِ الْمِيزَابِ، ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ يُقْلَعَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَجَاءَهُ رَجُلٌ فَضَرَبَ الْحَجَرَ بِمُثْقَلٍ فِي يَدِهِ، وَقَالَ: أَيْنَ الطَّيْرُ الْأَبَابِيلُ؟ أَيْنَ الْحِجَارَةُ مِنْ سِجِّيلٍ؟ ثُمَّ قَلَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ – شَرَّفَهُ اللَّهُ وَكَرَّمَهُ وَعَظَّمَهُ – وَأَخَذُوهُ مَعَهُمْ حِينَ رَاحُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَكَانَ عِنْدَهُمْ ثِنْتَيْنِ وَعِشْرِينَ سَنَةً حَتَّى رَدُّوهُ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ فِي مَوْضِعِهِ فِي سَنَةِ تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ.
وَلَمَّا رَجَعَ الْقِرْمِطِيُّ إِلَى بِلَادِهِ، تَبِعَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ وَجُنْدُهُ وَسَأَلَهُ وَتَشَفَّعَ إِلَيْهِ فِي أَنْ يَرُدَّ الْحَجَرَ لِيُوضَعَ فِي مَكَانِهِ، وَبَذَلَ لَهُ جَمِيعَ مَا عِنْدَهُ مِنَ الْأَمْوَالِ، فَلَمْ يَفْعَلْ – لَعَنَهُ اللَّهُ – فَقَاتَلَهُ أَمِيرُ مَكَّةَ فَقَتَلَهُ الْقِرْمِطِيُّ، وَقَتَلَ أَكْثَرَ أَهْلِهِ وَجُنْدِهِ، وَاسْتَمَرَّ ذَاهِبًا إِلَى بِلَادِهِ وَمَعَهُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ وَأَمْوَالُ الْحَجِيجِ.
وَقَدْ أَلْحَدَ هَذَا اللَّعِينُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلْحَادًا لَمْ يَسْبِقْهُ إِلَيْهِ أَحَدٌ وَلَا يَلْحَقُهُ فِيهِ، وَسَيُجَازِيهِ عَلَى ذَلِكَ الَّذِي لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ، وَلَا يَوْثِقُ وِثَاقَهُ أَحَدٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَ هَؤُلَاءِ عَلَى هَذَا الصَّنِيعِ ; أَنَّهُمْ كَانُوا كُفَّارًا زَنَادِقَةً.
قال الإمام الذهبي في تاريخ الإسلام (23/263):
ذكر امتناع الحجّ: ولم يحجّ أحدٌ في هذه السنة خوفًا من القرامطة.
قال ابن كثير في البداية والنهاية (11/300):
ثم دخلت سنة سبع وخمسين وثلثمائة…… وَفِيهَا في تشرين عرض للناس داء
الماشري فمات به خلق كثير وفيها مَاتَ أَكْثَرُ جِمَالِ الْحَجِيجِ فِي الطَّرِيقِ مِنَ الْعَطَشِ، وَلَمْ يَصِلْ مِنْهُمْ إِلَى مَكَّةَ إِلَّا القليل، بل مات أكثر من وصل منهم بعد الحج.
وجاء في النجوم الزاهرة (3/227):
ما وقع من الحوادث سنة 650.. وفيها حجّ بالناس من بغداد بعد أن كان بطل الحجّ منذ عشر سنين من سنة مات الخليفة المستنصر. انتهى
وغير ذلك من الابتلاءات التي وقعت على مدار العصور والأزمنة، وفي ذلك عبرة لأولي البصائر والعقول، ليحاسبوا أنفسهم كما أمر الله تعالى عباده في قوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18).
فالمؤمن ينتفع بالآيات السمعية والكونية، والمخذول لا ينتفع بها ولا يتعظ بالمواعظ، ولا بالابتلاءات، ولا شيء يرده عن عصيانه وطغيانه حتى يرى العذاب الأليم، نسأل الله العظيم الرحيم أن يعاملنا بما هو أهل له، لا بما نستحق، وأن يبصرنا بعيوبنا وينصرنا على أنفسنا، وأن يرزقنا توبة نصوحة تكون سببًا في مغفرة ما تقدم من ذنوبنا، إنه قريب مجيب الدعاء.
وصل الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبة وسلم.
الموقع الرسمي لأم تميم
www.omtameem.com