>> المقال الثلاثون: حكم لبس النقاب والقفازين وستر الوجه في الحج والطواف غير مختلطات
فقه المرأة
باب الحج – المقالة الثلاثون
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد بدأنا بفضل الله تعالى في فقه المرأة في الحج، وذكرنا تعريف الحج، وفضل الحج و العمرة ويوم عرفة، وحكم الحج، ووجوب الحج مرة واحدة في العمر، وما حكم سفر المرأة للحج دون مَحْرَم، ونستكمل ما بدأناه سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
أولًا: يحرم على المرأة المحرمة لبس النقاب والقفازين :
والدليل على ذلك ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: «قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ مَاذَا تَأْمُرُنَا أَنْ نَلْبَسَ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْإِحْرَامِ؟. فَقَالَ: النَّبِيُّ لَا تَلْبَسُوا الْقَمِيصَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا الْبَرَانِسَ إِلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ لَيْسَتْ لَهُ نَعْلَانِ فَلْيَلْبَسْ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَلَا تَلْبَسُوا شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ وَلَا الْوَرْسُ. وَلَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ»- أخرجه البخاري (1838).
ثانيًا: لا يحرم على المرأة المحرمة تغطية وجهها:
وذلك حيث لم يرد عن النبي r أنه حرم على المحرمة تغطية وجهها، وإنما حرم عليها النقاب فقط، وعلى هذا فلو أن المرأة المحرمة غطت وجهها فلا بأس ولكن الأفضل أن تكشفه ما لم يكن حولها رجال.
1- عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «كنا نغطى وجوهنا من الرجال وكنا نمشط قبل ذلك في الإحرام»- أخرجه ابن خزيمة في صحيحه (2690)، والحاكم في المستدرك (1/454) وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
2- عن فاطمة بنت المنذر أنها قالت: «كنا نخمر وجوهنا ونحن محرمات ونحن مع أسماء بنت أبي بكر»- أخرجه الإمام مالك في الموطأ (1176)، وإسحاق بن راهوية في مسنده (2255).
3- عن الأعمش عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة قالت: «تسدل المرأة جلبابها من فوق رأسها على وجهها»-ذكره الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 406) من طريق سعيد بن منصور بسنده ورجاله ثقات.
ونذكر بعض أقوال أهل العلم في ذلك.
جاء في مجموع الفتاوى (26/112):
ولو غطت المرأة وجهها بشيء لا يمس الوجه جاز بالاتفاق، وإن كان يمس فالصحيح أنه يجوز أيضاً.
ولا تكلف المرأة أن تجافي سترتها عن الوجه، لا بعود ولا بيد ولا غير ذلك، فإن النبي سوَّى بين وجهها ويديها وكلاهما كبدن الرجل لا كرأسه.
وأزواجه كن يسدلن على وجوههن من غير مراعاة المجافاة، ولم ينقل أحد من أهل العلم عن النبي r أنه قال: «إحرام المرأة في وجهها» وإنما هذا قول بعض السلف، لكن النبي r نهاها أن تنتقب أو تلبس القفازين.
قال الشافعي في الأم (2/218، 219):
وتفارق المرأة الرجل فيكون إحرامها في وجهها وإحرام الرجل في رأسه، فيكون للرجل تغطية وجهه كله من غير ضرورة ولا يكون للمرأة. ويكون للمرأة إذا كانت بارزة تريد الستر من الناس أن ترخي جلبابها أو بعض خمارها أو غير ذلك من ثيابها من فوق رأسها وتجافيه عن وجهها حتى تغطي وجهها متجافيًا كالستر على وجهها ولا يجوز لها أن تنتقب.
قال ابن عبد البر في التمهيد (5/277)
بعد أن ذكر أثر أسماء بنت أبي بكر المتقدم وغيره: وأجمعوا أن لها أن تسدل الثوب على وجهها من فوق رأسها سدلاً خفيفاً تستتر به عن نظر الرجال إليها، ولم يجيزوا لها تغطية وجهها- وهي محرمة- إلا ما ذكرنا عن أسماء.
قال الخرقي في مختصره مع المغني (3/232) بتصرف:
والمرأة إحرامها في وجهها. فإن احتاجت؛ سدلت على وجهها.
قال ابن قدامة: إن المرأة يحرم عليها تغطية وجهها في إحرامها كما يحرم على الرجل تغطية رأسه، لا نعلم في هذا خلافاً إلا ما روي عن أسماء «أنها كانت تغطي وجهها وهي محرمة» ويحتمل أنها كانت تغطية بالسدل عند الحاجة . فلا يكون اختلافاً.
قال ابن المنذر: وكراهة البرقع ثابتة عن سعيد وابن عمر وابن عباس وعائشة ولا نعلم أحدًا خالف فيه. وقد روي عن البخاري وغيره أن النبي r قال: «لَا تَنْتَقِبْ الْمَرْأَةُ الْمُحْرِمَةُ وَلَا تَلْبَسْ الْقُفَّازَيْنِ» فأما إذا احتاجت إلى ستر وجهها لمرور الرجال قريباً منها فإنها تسدل الثوب من فوق رأسها على وجهها وذكر أثرًا ضعيفًا عن عائشة: «…. ثم قال: ولأن بالمرأة حاجة إلى ستر وجهها فلم يحرم عليها ستره على الإطلاق كالعورة».
قال الشوكانى في السيل الجرار(2/134، 135):
وأما تغطية وجه المرأة فلما روي أن إحرام المرأة في وجهها ولكنه لم يثبت ذلك من وجه يصلح للاحتجاج به. وأما ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث عائشة، قالت «كَانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بِنَا وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللهِ مُحْرِمَاتٌ فَإِذَا حَاذَوْا بِنَا سَدَلَتْ إِحْدَانَا جِلْبَابَهَا مِنْ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهِهَا فَإِذَا جَاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ»-ضعيف: سنن أبي داود (1833) فليس فيه ما يدل على أن الكشف لوجوههن كان لأجل الإحرام بل كن يكشفن وجوههن عند عدم وجود من يجب سترها منه ويَسترنها عند وجود من يجب سترها منه.
وهكذا ما رواه الحاكم وصححه من حديث أسماء بنحوه، فإن معناه معنى ما ذكرناه فليس في المنع من تغطية وجه المرأة ما يتمسك به. والأصل الجواز حتى يرد الدليل الدال على المنع.
ثالثًا: طواف النساء مع الرجال غير مختلطات بهم:
قال ابن جريج: أخبرنى عطاء- إذ منع ابن هشام النساء الطواف مع الرجال- قال: كيف يمنعهن وقد طاف نساء النبي r مع الرجال؟ قلت: أبعد الحجاب أو قبل؟ قال: إي لعمري لقد أدركته بعد الحجاب. قلت: كيف يخالطن الرجال؟ قال: لم يكنَّ يخالطن، كانت عائشة رضي الله عنها تطوف حَجْرة من الرجال لا تخالطهم، فقالت امرأة: انطلقي نستلم يا أم المؤمنين، قالت: انطلقي عنك، وأبت. يخرجن متنكرات بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت قمن حتى يدخلن وأُخرِجَ الرجال، وكنت آتى عائشة أنا وعُبيد بن عُمير وهى مجاورة في جوف ثبير، قلت: وما حجابُها؟ قال: هي في قبة تركية لها غشاء، وما بيننا وبينها غير ذلك، ورأيت عليها درعاً مورداً-أخرجه البخارى (1618).
جوف ثبير: خارج عن مكة وهو في طريق منى
رابعًا: يجوز للضعفاء من النساء أن يخرجوا من مزدلفة بعد منتصف الليل:
1- عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: «اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ رَسُولَ اللهِ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ تَدْفَعُ قَبْلَهُ وَقَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَكَانَتْ امْرَأَةً ثَبِطَةً يَقُولُ الْقَاسِمُ وَالثَّبِطَةُ الثَّقِيلَةُ قَالَ فَأَذِنَ لَهَا فَخَرَجَتْ قَبْلَ دَفْعِهِ وَحَبَسَنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا فَدَفَعْنَا بِدَفْعِهِ وَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللهِ كَمَا اسْتَأْذَنَتْهُ سَوْدَةُ فَأَكُونَ أَدْفَعُ بِإِذْنِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِه»- أخرجه البخاري (1681) ومسلم (1290).
حطمة الناس: أي زحمتهم
2- عن عبد الله مولى أسماء عن أسماء، أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ لَا فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْت نَعَمْ قَالَتْ فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا يَا هَنْتَاهُ، مَا أُرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ أَذِنَ لِلظُّعُن »- أخرجه البخاري (1679).
الظعن: جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على المرأة مطلقاً.
خامسًا: إذا حاضت المرأة أو نفست قبل طواف الإفاضة ماذا تفعل:
اختلف العلماء في هذه المسألة وسبب الخلاف أن من جعل الطهارة شرطًا لصحة الطواف، قال: لا يجوز للحائض الطواف حتى تطهر ثم تطوف طواف الإفاضة ولا بد، لأنه ركن من أركان الحج لا يجبر بالدم ويبطل الحج بدونه، وهذا مذهب مالك والشافعي.
وقال أبو حنيفة وأحمد في أحد قوليه: الطهارة للطواف ليست شرطًا لصحة الطواف إنما هي واجب يجبر بالدم.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم لا يجوز للحائض الطواف بالبيت لحديث عائشة المتقدم وفيه «افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي»، ولكن إن لم يتسع الوقت فهي معذورة وفي هذه الحال تغتسل وتطوف بالبيت وهي حائض.
وها هي أقوال أهل العلم في المسألة:
قال السرخسي في المبسوط (4/45:44) بتصرف:
فأصل الطواف ركن ثابت بالنص، والطهارة فيه تثبت بخبر الواحد، فيكون موجب العمل دون العلم، فلم تصر الطهارة ركنا ولكنها واجبة، والدم يقوم مقام الواجبات في باب الحج.
ثم إن المراد تشبيه الطواف بالصلاة في حق الثواب دون الحكم، ألا ترى أن الكلام الذي هو مفسد للصلاة غير مؤثر في الطواف وأن الطواف يتأدى بالمشي، والمشي مفسد للصلاة، ولأن الطواف من حيث إنه ركن الحج لا يستدعي الطهارة كسائر الأركان، ومن حيث إنه متعلق بالبيت يستدعي الطهارة كالصلاة وما يتردد بين أصلين فيوفر حظه عليهما، فلشبهه بالصلاة تكون الطهارة فيه واجبة، ولكونه ركنا من أركان الحج يعتد به إذا حصل بغير طهارة والأفضل فيه الإعادة.
وعلى هذا لو طاف للزيارة جنبًا يعتد بهذا الطواف في حكم التحلل عن الإحرام.
ثم قال (ص: 45): وعلى هذا لو طافت المرأة للزيارة حائضًا فهذا والطواف جنبًا واحدٌا.
قال مالك في الموطأ (1/288):
والمرأة تحيض بمنى تقيم حتى تطوف بالبيت ولابد لها من ذلك، وإن كانت قد أفاضت، فحاضت بعد الإفاضة، فلتنصرف إلى بلدها.
قال النووي في المجموع (8/237):
إذا حاضت المرأة قبل طواف الإفاضة، وأراد الحجاج النفر بعد قضاء مناسكهم، فالأولى للمرأة أن تقيم حتى تطهر فتطوف، إلا أن يكون عليها ضرر في هذا، فإن أرادت النفر مع الناس قبل طواف الإفاضة جاز، وتبقى محرمة حتى تعود إلى مكة فتطوف متى ما كان ولو طال سنين.
وفي مجموع الفتاوى (26/255):
قال شيخ الإسلام: فهذه ” المسألة” التي عمت بها البلوى. فهذه إذا طافت وهي حائض وجبرت بدم أو بدنة أجزأها ذلك عند من يقول: الطهارة ليست شرطا، كما تقدم في مذهب أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وأولى فإن هذه معذورة، لكن هل يباح لها الطواف مع العذر؟ هذا محل النظر، وكذلك قول من يجعلها شرطًا، هل يسقط هذا الشرط للعجز عنه ويصح الطواف؟
هذا هو الذي يحتاج الناس إلى معرفته.
فيتوجه أن يقال: إنما تفعل ما تقدر عليه من الواجبات ويسقط عنها ما تعجز عنه، فتطوف، وينبغي أن تغتسل وإن كانت حائضًا كما تغتسل للإحرام وأولى. وتستثفر كما تستثفر المستحاضة.
تعقيب وترجيح:
أرى والله تعالى أعلم صحة ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وموافقوه من جواز طواف المرأة الحائض للإفاضة إذا كانت لا تستطيع بأي وسيلة أن تمكث في مكة حتى تطهر، لأن طواف الإفاضة ركن لا يتم الحج إلا به كما سبق بيانه، ولا يجوز أن يجبر بالدم ، فلا بد لها من الطواف وأدلة المجيزين جاءت شافية كافية، وبالله تعالى التوفيق.
مجلة التوحيد- المقالة الثلاثون من فقه المرأة
للدكتورة/ أم تميم عزة بنت محمد
الموقع الرسمي لأم تميم
www.omtameem.com