>> المقال الثامن عشر: تحريم النياحة وضربالخدود وشق الجيوب وهل يعذب الميت بالنياحة عليه؟
فقه المرأة
باب الجنائز – المقالة الثامنة عشر
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
انتهينا بفضل الله تعالى من الأحكام المتعلقة بالمرأة في باب الصلاة ونشرع –بإذن الله تعالى- في باب الجنائز، سائلين الله تعالى أن ينفع بها ويجعلها في ميزان حسناتنا.
أولًا: يحرم على المرأة النياحة على الميت ويجوز لها البكاء:
النياحة من أمور الجاهلية التي حرمها الشرع. وهي اجتماع النساء للحزن، وقيل هي رفع الصوت بالندب، والندب هو تعديد محاسن الميت مع البكاء – المجموع (5/280).
1- قال رسول الله «أربع في أمتي من أمر الجاهلية، لا يتركوهن: الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم، والنياحة» وقال: «النائحة إذا لم تتب قبل موتها ، تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب»-أخرجه البخاري (3850) ، ومسلم (934).
2- عن أم عطية، قالت: أخذ علينا رسول الله مع البيعة ألا ننوح، فما وفت منّا امرأة إلا خمس: أم سليم وأم العلاء وابنة أبي سبرة امرأة معاذ أو ابنة أبي سبرة وامرأة معاذ»- أخرجه مسلم (936).
3- عن أبي هريرة قال : قال رسول الله : «اثنتان في الناس هما بهم كفر، الطعن في النسب والنياحة على الميت»- أخرجه مسلم (67).
أما البكاء على الميت: فيجوز من غير ندب ولا نياحة، وهو مذهب جمهور أهل العلم ، وقد وردت عدة أحاديث بذلك، نذكر منها.
1- عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله: «ولد لي الليلة غلام، فسميته باسم أبي، إبراهيم» ثم دفعه إلى أم سيف، امرأة قين يقال له: أبو سيف، فانطلق يأتيه واتبعته فانتهينا إلى أبي سيف وهو ينفخ بكيره، وقد امتلأ البيت دخانًا، فأسرعت المشي بين يدي رسول الله فقلت: يا أبا سيف أمسك ، جاء رسول الله فأمسك فدعا النبي بالصبي فضمه إليه وقال ما شاء الله أن يقول فقال أنس: لقد رأيته وهو يكيد بنفسه بين يدي رسول الله فدمعت عينا رسول الله فقال: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله يا إبراهيم إنا بك لمحزونون»- أخرجه مسلم (2315).
2- عن أنس قال: شهدنا بنتًا لرسول الله ، قال ورسول الله جالس على القبر، قال: فرأيت عينيه تدمعان، قال: فقال: «هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا ، قال «فانزل» قال: فنزل في قبرها – أخرجه البخاري (1285).
قال ابن القيم في زاد المعاد (1/225):
وسن الخشوع للميت والبكاء الذي لا صوت معه وحزن القلب، وكان يفعل ذلك ويقول: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب»– أخرجه مسلم (2315).
وسن لأمته الحمد والاسترجاع والرضا عن الله ولمن يكن ذلك منافيًا لدمع العين وحزن القلب.
قال ابن حزم في المحلى (3/371):
والصبر واجب والبكاء مباح، ما لم يكن نوح، فإن النوح حرام والصياح وخمش الوجوه وضربها وضرب الصدر ونتف الشعر وحلقه للميت كل ذلك حرام.
قال الزرقاني في شرح الموطأ (2/88):
أما دمع العين وحزن القلب فالسنة ثابتة بإباحة ذلك في كل وقت، وعليه جماعة العلماء، بكى على ابنه إبراهيم وعلى ابنته وقال: «هي رحمة جعلها الله في قلوب عباده».
ثانيًا: هل يعذب الميت بالنياحة عليه؟
وردت عدة أحاديث في هذا الباب منها:
1- عن المغيرة بن شعبة قال سمعت رسول الله يقول: «من ينُح عليه فإنه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة»– أخرجه مسلم (933)
2- عن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان بمكة وجئنا لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وإني جالس بينهما أو قال: جلست إلى أحدهما، ثم جاء الآخر فجلس إلى جنبي فقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لعمرو بن عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن رسول الله قال: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه»- أخرجه البخاري (1286)، ومسلم (927).
3- عن سعد بن الحارث الأنصاري، عن عبد الله بن عمر، قال اشتكى سعد بن عبادة شكوى له، فأتى رسول الله يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود، فلما دخل عليه وجده في غشية، فقال: «أقد قضى؟» قالوا: لا يا رسول الله فبكى رسول الله فلما رأى القوم بكاء رسول الله بكوا، فقال: «ألا تسمعون إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا – وأشار إلى لسانه- أو يرحم»- أخرجه البخاري (1304) ومسلم (924).
4- عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي قالت: «إنما مر رسول الله على يهودية يبكي عليها أهلها فقال: «إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها»- أخرجه البخاري (1289)، ومسلم (27-932).
هذه الأحاديث وغيرها تدل على تحريم النياحة والندب على الميت، ولكن هل يعذب الميت بالندب والنياحة عليه؟
للفقهاء في هذه المسألة أقوال عديدة، أشهرها ثلاثة أقوال:
الأول:
إن الميت يعذب بالندب والنياحة عليه إذا أوصى أهله بذلك بعد موته؛ لأن الندب والنياحة كانت من عادة العرب، فهم يذكرون الأفعال التي هي عند الله ذنوب ويبكون لفقدها وهو يعذَّب نظير ما يبكيه به أهله، أما من لم يوص بذلك وناح عليه أهله فلا يعذب، واستدل بقول الله تعالى: وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ [الأنعام: 164]، وهذا قول جمهور أهل العلم.
الثاني:
إذا لم يوص الميت بترك الندب والنياحة، وأهمل ذلك فإنه يعذب بما ناح عليه أهله، واستدل بقول الله تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [التحريم: 6].
الثالث:
أن الميت يعذب بسماعه بكاء أهله ويرق لهم، وإلى هذا القول ذهب محمد بن جرير والقاضي عياض وغيرهما.
أقوال أهل العلم في المسألة:
قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/70):
اختلف العلماء في قوله r: «إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه» فقال منهم قائلون: معناه أن يوصي بذلك الميت فيعذب حينئذ بفعل نفسه لا بفعل غيره، وقال آخرون: معناه أن يمدح الميت في ذلك البكاء بما كان يمدح به أهل الجاهلية أو نحوه من الفتكات والعذرات والغارات والقدرة على الظلم وشبه ذلك من الأفعال التي هي عند الله ذنوب فهم يبكونه لفقدها ويمدحونه بها وهو يعذب من أجلها.
وقال آخرون: في هذا الحديث وفي مثله: النياحة وشق الجيوب ولطم الخدود ونوع هذا من أنواع النياحة، وأما بكاء العين فلا.
وذهبت عائشة رضي الله عنها إلى أن أحدًا لا يعذب بفعل غيره وهو الأمر المجمع عليه لقول الله عز وجل:
جاء في شرح المهذب (5/282) بتصرف:
اختلف العلماء في أحاديث تعذيب الميت بالبكاء، فتأولها المزني وأصحابنا وجمهور العلماء على من وصى أن يبكى عليه ويناح بعد موته فنفذت وصيته فهذا يعذب ببكاء أهله عليه ونوحهم لأنه بسببه ومنسوب إليه، قالوا: فأما من بكى عليه أهله وناحوا من غير وصية منه، فلا يعذب ببكائهم ونوحهم، لقوله تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى قالوا: وكان من عادة العرب الوصية بذلك.. وذكر جملة من أقوال العلماء ثم قال: والصحيح من هذه الأقوال ما قدمناه عن الجمهور، وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم أن المراد بالبكاء بصوت ونياحة لا مجردًا مع العين والله أعلم.
قال ابن حزم في المحلى (3/374):
بعد أن ذكر حديث «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه»: ولاح بهذا أن هذا البكاء الذي يعذب به الميت ليس هو الذي لا يعذب به من دمع العين وحزن القلب فصح أنه البكاء باللسان، إذ يعذبونه برياسته التي جار فيها فعذب عليها وشجاعته التي يعذب عليها، إذ صرفها في غير طاعة الله تعالى، وبجوده الذي أخذ ما جاء به من غير حله ووضعه في غير حقه، فأهله يبكونه بهذه المفاخر وهو يعذب بها بعينها، وهو ظاهر الحديث لمن لم يتكلف في ظاهر الخبر ما ليس فيه.
قال الحافظ في الفتح (3/185):
بعد أن ذكر أقوال العلماء، ويحتمل أن يجمع بين هذه التوجيهات فينزل على اختلاف الأشخاص بأن يقال مثلا: من كانت طريقته النوح فمشى أهله على طريقته أو بالغ فأوصاهم بذلك عذب بصنعه، ومن كان ظالمًا فندب بأفعاله الجائرة عذب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة فأهمل نهيهم عنها فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ كيف أهمل النهي، ومن سلم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية، ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تألمه بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم، والله تعالى أعلم بالصواب.
تعقيب وترجيح:
بعد عرض أقوال الفقهاء يتبين أن الميت لا يعذب بالبكاء الذي هو دمع العين كما ذهب إلى ذلك جمهور الفقهاء، أما النوح على الميت فالذي تطمئن إليه النفس وينشرح له الصدر ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من أن الميت لا يعذب بالنوح عليه ما لم يوص بذلك ولم يتعمد إهمال الوصية بعدم النياحة عليه لقوله الله تعالى:
وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ[الأنعام: 164]، والله تعالى أعلم.
ثالثًا:تحريم ضرب الخدود وشق الجيوب والدعاء بدعوى الجاهلية والحلق عند المصيبة:
1- عن عبد الله عن النبي قال: «ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية»- أخرجه البخاري (1297)، ومسلم (103).
2- عن أبي بردة بن أبي موسى قال: «وجع أبو موسى وجعًا فغشي عليه، ورأسه في حجر امرأة من أهله فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله ، إن رسول الله بريء من الصالقة والحالقة والشاقة»- أخرجه البخاري (1296)، ومسلم (104).
الصالقة: التي ترفع صوتها بالبكاء، والحالقة: التي تحلق رأسها عند المصيبة، والشاقة: التي تشق ثوبها – فتح الباري (3/198).
قال المرداوي في الإنصاف (2/542):
ولا يجوز شق الثياب ولطم الخدود وما أشبه ذلك، من الصراخ وخمش الوجه ونتف الشعر ونشره وحلقه، قال جماعة منهم ابن حمدان والنخعي قال في الفصول: يحرم النحيب والتعداد والنياحة وإظهار الجزع.
جاء في المغني (2/344):
بعد أن ذكر بعض الآثار.. قال: وظاهر الأخبار تدل على تحريم النوح، وهذه الأشياء المذكورة، لأن النبي نهى عنها في حديث جابر لقوله تعالى:
وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة: 12] قال أحمد: هو النوح، ولعن النبي النائحة المستمعة وقالت: أم عطية رضي الله عنها: «أخذ علينا رسول الله عند البيعة أن لا ننوح» متفق عليه.
وعن أبي موسى أن النبي قال: «ليس منا من ضرب الخدود..» وساق الحديث، قال: ولأن ذلك يشبه الظلم والاستغاثة والسخط بقضاء الله.
جاء في التمهيد (4/332):
قد صح عن النبي أنه نهى عن النياحة نهيًا مطلقًا ولعن النائحة والمستمعة،وحرم أجرة النائحة.
مجلة التوحيد- المقالة الثامنة عشر من فقه المرأة
للدكتورة/ أم تميم عزة بنت محمد
الموقع الرسمي لأم تميم
www.omtameem.com