المقالة السبعون
فقه الطلاق_الرجعة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن الطلاق البائن والهدمُ ومن يقع منه الطلاق وطلاق السكران ونستكمل ما بدأناه سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
أولًا: طلاق الهازل:
الهزل: ضد الجد، يقال: فلان يهزل في كلامه إذا لم يكن جادًّا، ونقول: أجادٌّ أنت أم هازل؟ – لسان العرب (9/90).
ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين و الأئمة الأربعة وغيرهم إلى أن طلاق الهازل يقع.
وحجتهم:
قول رسول الله ﷺ: «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ». صحيح سنن أبي داود (2194)، وصحيح ابن ماجة (2039)، وصحيح الترمذي (1184)، والدارقطني (3895)، قال الشوكاني: قال الحافظ ابن حجر إسناده حسن – السيل الجرار (2/366)، وفي إسناده عبد الرحمن بن حبيب بن أردك. قال النسائي: منكر الحديث (ميزان الاعتدال 4/270)، وأورد الذهبي هذا الحديث في ترجمته مستنكرا له. وكذا أعله ابن عبد البر في الاستذكار (5/542).
(قوله: أو هازلًا)؛ أي فيقع قضاء وديانة كما يذكره الشارح، وبه صرح في الخلاصة معللًا بأنه مكابر باللفظ فيستحق التغليظ.
جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (9/63):
في معرض كلامه على الذين يقع منهم الطلاق: (ولزم ولو هزَل) كضرَب؛ أي: لم يقصد بلفظه حل العصمة، وهذا إنما يأتي في الصريح أو الكناية، بأن خاطبها به على سبيل المزح والملاعبة.
جاء في الروضة الندية (2/61):
قال ابن القيم: وأما طلاق الهازل فيقع عند الجمهور وكذلك نكاحه صحيح كما صرح به النص وهذا هو المحفوظ عن الصحابة والتابعين وهو قول الجمهور، حكاه أبو حفص أيضًا عن أحمد، وهو قول الصحابة، وقول طائفة من أصحاب الشافعي، وذكر بعضهم أن الشافعي نص على أن نكاح الهازل لا يصح بخلاف طلاقه، ومذهب مالك رواه ابن القاسم عنه، وعليه العمل عند أصحابه أن هزل النكاح والطلاق لازم بخلاف البيع. انتهى.
قال ابن المنذر في الإجماع (ص: 85):
وأجمعوا على أن جد الطلاق، وهزله سواء.
ثانيًا: حكم الطلاق المعلق واليمين بالطلاق:
التعليق: هو ترتيبه على شيء حاصل أو غير حاصل بـ«إنْ» أو إحدى أخواتها، فإذا قال: إن كنت كلمت زيدًا فأنت طالق، هذا حاصل.
أما اليمين المحض: إن كلمت زيدًا فأنت طالق، فهذا شيء غير حاصل.
تعليق الطلاق بالشروط ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
أحدها: أن يكون شرطًا محضًا، فيقع الطلاق بكل حال.
والثاني: أن يكون يمينًا محضًا، فلا يقع به الطلاق، وفيه كفارة يمين.
والثالث: أن يكون محتملًا للشرط المحض واليمين المحض، فهذا يرجع فيه إلى نية المعلق.
هذا هو الصحيح في هذه المسألة وهو الذي تقتضيه الأدلة وهو اختيار شيخ الإسلام – رحمه الله.
مثال التعليق المحض: أن يقول: إذا غربت الشمس فأنت طالق، فهذا تعليق محض فإذا غربت الشمس طلقت؛ لأنه علقها على شرط محض.
مثال اليمين المحض: أن يقول: إن كلمت زيدًا فامرأتي طالق، وهو يقصد الامتناع من تكليم زيد، فهذا يمين محض؛ لأنه لا علاقة بين كلامه زيدًا وتطليقه امرأته.
مثال المحتمل للأمرين:
الأول: أن يقول لزوجته: إن خرجت من البيت فأنت طالق، فهذا يحتمل أنه أراد الشرط ويحتمل أنه أراد اليمين – ويحتمل أنه أراد الشرط بمعنى أن امرأته إذا خرجت طابت نفسه منها ووقع عليها طلاقه، وحينئذٍ يكون مريدًا للطلاق، فإذا خرجت من البيت طلقت، فإنه يقول: إذا خرجت من البيت أصبحت امرأة غير مرغوب فيك عندي، فأنا أكرهك، فحينئذٍ يقع الطلاق؛ لأنه شرط محض.
الاحتمال الثاني: ألا يكون قصده إيقاع الطلاق وهو راضٍ بزوجته ولو خرجت ولا يريد طلاقها، لكنه أراد بهذا أن يمنعها من الخروج، فعلق عليه طلاقها تهديدًا، فإذا خرجت في هذه الحال فإنها لا تطلق؛ لأن هذا يراد به يمين، وقد قال النبي ﷺ: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» متفق عليه، والله عز وجل جعل التحريم يمينًا؛ لأن المُحرَّم شبيه المنع أو الامتناع من الشيء، فدل هذا على أن ما قصد به الامتناع – وإن لم يكن بصيغة القسم – فإن حكمه حكم يمين – الشرح الممتع (5/510-511) بتصرف.
ولو قال: أنت طالق أن دخلت بفتح الهمزة، وقع في الحال، وهو قول الجمهور؛ لأنها للتعليل ولا يشترط وجود العلة…
… ولو قال: أنت طالق وإن دخلت الدار طلقت بكل حال؛ لأن الواو في مثله عاطفة على شرط هو نقيض المذكور على ما عرف في موضعه، تقديره إن لم تدخلي وإن دخلت، وإن هذه هي الوصلية، ويقع في الحال بقوله: أنت طالق إذ دخلت، وبقوله: ادخلي الدار وأنت طالق يتعلق بالدخول؛ لأن الحال شرط مثل: أدّ إليَّ ألفًا وأنت طالق، ولا تطلق حتى تؤدي.
قلت: أرأيت لو أن رجلًا قال: امرأتي طالق إن دَخَلْتُ دار فلان ودار فلان، فدخل إحداهما، أتطلق عليه امرأته في قول مالك؟ قال: تطلق عليه امرأته إذا دخل في إحدى الدارين، قلت: فإن دخل الدار الأخرى بعد ذلك أتطلق عليه في قول مالك أم لا؟ قال: لا تطلق عليه في قول مالك؛ لأنه قد حنث في يمينه بالذي حلف به فلا يقع عليه شيء بعد ذلك.
قال الشيرازي في شرح المهذب (18/296):
إذا علق الطلاق بشرط لا يستحيل؛ كدخول الدار ومجيء الشهر، تعلق به، فإذا وجد الشرط وقع، وإذا لم يوجد لم يقع؛ لما روي عن
النبي r: «المؤمنونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ»، ولأن الطلاق كالعتق؛ لأن لكل واحد منهما قوة وسراية، ثم العتق إذا علق على شرط وقع بوجوده ولم يقع قبل وجوده، فكذلك الطلاق.
جاء في الروض المربع (3/164):
(فإذا علقه) أي علق الزوج الطلاق (بشرط) متقدم أو متأخر، كـ:إن دخلت الدار فأنت طالق، أو أنت طالق إن قمت، (لم تطلق قبله) أي قبل وجود الشرط، (ولو قال عجلته) أي عجلت ما علقته لم يتعجل؛ لأن الطلاق تعلق بالشرط فلم يكن له تغييره، فإن أراد تعجيل طلاق سوى الطلاق المعلق وقع، فإذا وُجد الشرط الذي علق به الطلاق وهي زوجته وقع أيضًا، (وإن قال) – من علق الطلاق بشرط -: (سبق لساني بالشرط ولم أرده؛ وقع) الطلاق (في الحال)؛ لأنه أقر على نفسه بما هو أغلظ من غير تهمة, (وإن قال) لزوجته: (أنت طالق؛ وقال: أردت إن قمت – لم يقبل) منه (حكمًا)؛ لعدم ما يدل عليه، وأنت طالق مريضة رفعًا ونصبا يقع بمرضها.
قال ابن حزم في المحلى (9/476):
واليمين بالطلاق لا يلزم -سواء بر أو حنث- لا يقع به الطلاق، ولا طلاق إلا كما أمر الله عز وجل ولا يمين إلا كما أمر الله عز وجل على لسان رسوله ﷺ.
برهان ذلك: قول الله عز وجل: ﴿ذَٰلِكَ كَفَّـٰرَةُ أَيْمَـٰنِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ ۚ﴾ [المائدة: 89].
وفي مسألة (1966) قال: من قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق أو ذكر وقتًا ما؟ فلا تكون طالقًا بذلك، لا الآن، ولا إذا جاء رأس الشهر.
برهان ذلك: أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك، وقد علمنا الله الطلاق على المدخول بها وفي غير المدخول بها، وليس هذا فيما علمنا ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ﴾ [الطلاق: 1].
جاء في إعلام الموقعين (4/373):
إن الطلاق المعلق بالشرط لا يقع، ولا يصح تعليق الطلاق، كما لا يصح تعليق النكاح، وهذا اختيار أبي عبد الرحمن أحمد بن يحيى بن عبد العزيز الشافعي، أحد أصحاب الشافعي الأجلة أو أجلهم، وكان الشافعي يجله ويكرمه ويكنيه ويعظمه… وهذا مذهب لم ينفرد به بل قد قال به غيره من أهل العلم، قال أبو محمد بن حزم في المحلى: والطلاق بالصفة عندنا كما هو الطلاق باليمين كل ذلك لا يلزم وبالله التوفيق، ولا يكون طلاقٌ إلا كما أمر الله وعلمه، وما عداه فباطل وتعدٍّ لحدود الله تعالى.
وهذا القول وإن لم يكن قويًّا في النظر فإن الموقعين للطلاق لا يمكنهم إبطاله البتة لتناقضهم، وكان أصحابه يقولون لهم: قولنا في تعليق الطلاق بالشرط كقولكم في تعليق الإبراء أو الهبة والوقف والبيع والنكاح سواء، فلا يمكنكم البتة أن تفرقوا بين ما صح تعليقه من عقود التبرعات والمعاوضات والإسقاطات بالشروط وما لا يصح تعليقه، فلا تبطلوا قول منازعيكم في صحة تعليق الإبراء والهبة والوقف والنكاح.
قال ابن القيم: هل الحلف بالطلاق يلزم؟
إن الحلف بالطلاق لا يلزم ولا يقع على الحانث به طلاق، ولا يلزمه كفارة ولا غيرها، وهذا مذهب خلق من السلف والخلف، وصح ذلك عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
قال بعض فقهاء المالكية وأهل الظاهر: ولا يعرف لعلي في ذلك مخالف من الصحابة، هذا لفظ أبي القاسم التيمي في شرح أحكام عبد الحق، وقاله قبله أبو محمد بن حزم وصح ذلك عن طاوس أجل أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما وأفقههم على الإطلاق.
قال عبد الرزاق في مصنفه: أنبأنا ابن جريج قال: أخبرني ابن طاوس عن أبيه أنه كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئًا، قلت: أكان يراه يمينًا؟ قال: لا أدري، وهذا أصح إسناد عمن هو من أجل التابعين وأفقههم، وقد وافقه أكثر من أربعمائة عالم ممن بنى فقهه على نصوص الكتاب والسنة دون القياس ومن آخرهم أبو محمد بن حزم.
تعقيب وترجيح:
هذا الباب فيه مسائل كما أسلفت:
الأولى: اليمين بالطلاق، كأن يقول عليّ اليمين بالطلاق لا أفعل كذا وكذا، أو يقول يلزمني الطلاق إن فعلت كذا أو كذا، فهذا الراجح فيه عندي مع من ذهب من أئمة أهل العلم أنه يمين كسائر الأيمان، إذا حنث صاحبه يكفر عن يمينه ولا يقع الطلاق، وهذا مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره، وهو مذهب ابن حزم وابن القيم غير أنهما قالا: لا يكفر عن يمينه.
الثانية: الطلاق المعلق بشرط: كأن يقول إذا فعلت كذا أو كذا أو يقول إن كلمتِ فلانًا أو ذهبتِ إلى مكان كذا، أنت طالق، فإذا كانت نيته الطلاق وفعلت ما نهاه عنه طلقت لحدوث الشرط. وإن كانت نيته زجرها ومنعها أن تفعل هذه الأشياء فلا يقع الطلاق وإن فعلت ما نهاها عنه، وهذا اختيار شيخ الإسلام وابن القيم وابن حزم وبعض فقهاء المالكية والشافعية وغيرهم، والله تعالى أعلم.
ثالثًا: طلاق المريض:
لم يرد في طلاق المريض نصّْ من كتاب الله ولا من سنة نبيه ﷺ، وبناء على هذا ذهب فريق من أهل العلم إلى أن طلاق المريض يقع شأنه شأن غيره من المطلقين، وهذا مذهب الشافعي وابن حزم وغيرهما.
وذهب قوم إلى عدم وقوع طلاق المريض وحجتهم أن المريض طلق حال مرضه حتى يحجب الميراث عن الزوجة، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما.
جاء في العناية شرح الهداية (5/379):
وإذا طلق الرجل امرأته في مرض موته، وهذا يسمى طلاق الفار، والأصل فيه أن من أبان امرأته في مرض موته بغير رضاها وهي ممن ترثه ثم مات عنها وهي في العدة – ورثته؛ خلافًا للشافعي.
قُيّد بالإبانة لأن الطلاق إذا كان رجعيًّا كان توريثها منه باعتبار أن حكم النكاح باقٍ من كل وجه؛ لا باعتبار الفرار.
وقيد بموته لأنه إذا طلقها بائنا في مرض فصح منه ثم مات لا ترث. وبغير الرضا…
ثم ذكر قول الشافعي في المسألة، قال: ولنا أن الزوجية سبب إرثها منه في مرض موته وهو ظاهر، والزوج قصد إبطال هذا السبب بالطلاق وهو أيضا ظاهر، فيرد عليه قصده بتأخير عمله أي عمل الطلاق إلى زمان انقضاء العدة دفعا للضرر عنها.
الكافي في فقه أهل المدينة (2/ 584):
كل مريض مثبت المرض طلق امرأته في مرضه ثم مات من ذلك المرض ورثته امرأته عند مالك وجمهور أهل المدينة وعليه أكثر أهل العلم اتباعا لعثمان في توريث امرأة عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما.
قال الشافعي في الأم (5/365):
ملّك الله تعالى الأزواج الطلاق، فمن طلق من الأزواج وهو بالغ غير مغلوب على عقله جاز طلاقه؛ لأنه تحريم لامرأته بعد أن كانت حلالًا له، فسواء كان صحيحًا حين يطلق أو مريضًا فالطلاق واقع، فإن طلق رجل امرأته ثلاثًا أو تطليقة لم يبق له عليها من الطلاق غيرها أو لاعنها وهو مريض، فحكمه في وقوع ذلك على الزوجة وتحريمها عليها حكم الصحيح، وكذلك إن طلقها واحدة ولم يدخل بها وكذلك كل فرقة وقعت بينهما ليس للزوج عليها فيها رجعة بعد الطلاق.
وطلاق المريض كطلاق الصحيح ولا فرق – مات من ذلك المرض أو لم يمت منه – فإن كان طلاق المريض ثلاثًا أو آخر ثلاث أو قبل أن يطأها فمات أو ماتت – قبل تمام العدة أو بعدها – أو كان طلاقًا رجعيًّا فلم يرتجعها حتى مات أو ماتت بعد تمام العدة فلا ترثه في شيء من ذلك كله ولا يرثها أصلًا.
جاء في الموطأ (2/380):
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: «أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ وَهُوَ مَرِيضٌ فَوَرَّثَهَا عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ» أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (7/362)، وأبو سلمة لم يسمع من عبد الرحمن بن عوف؛ فالحديث من هذا الطريق منقطع.
قال مالك: وإن طلقها وهو مريض قبل أن يدخل بها، فلها نصف الصداق ولها الميراث ولا عدة عليها، وإن دخل بها ثم طلقها فلها المهر كله والميراث، قال مالك: البكر والثيب في هذا عندنا سواء.
تعقيب وترجيح
ما ذهب إليه الإمامان -الشافعي وابن حزم- من أن طلاق المريض يقع، هو ما أرجحه؛ إذ لا دليل على عدم وقوع طلاق المريض من الكتاب أو السنة ولم ينعقد الإجماع، أما من كانت نيته من الطلاق أن لا ترثه الزوجة فهو آثم وحسابه عند ربه، والله أعلم.