المقالة الرابعة والستون
فقه الطلاق
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
بدأنا بفضل الله تعالى في فقه الطلاق، فذكرنا تعريفه، ومشروعيته، وأقسامه، ونستكمل ما بدأناه سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
أولًا: إذا طلق الرجل زوجته وهي حائض، هل يجب عليه مراجعتها؟
اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهبت طائفة من الحنفية والشافعي والحنابلة إلى أن الرجعة مستحبة.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
1- أن الرجعة من طلاق في طهر قد مسها فيه لا تجب بإجماع أهل العلم، فكذلك الرجعة من طلاق الحائض.
2- كما أن مراجعته لا ترتفع بها مفسدة طلاق الحائض؛ إذا لو أمضيناه فقد حصل الطلاق في الحيض فلا يرتفع بردها- انظر الشرح الممتع (5/451).
القول الثاني: ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية إلى وجوب الرجعة على من طلق زوجته وهي حائض.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
حديث ابن عمر وفيه: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّـهِ ﷺ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْـخَطَّابِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّـهِ ﷺ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»- أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471).
وجه الدلالة:
قول رسول الله ﷺ لعمر: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» دال على وجوب الرجعة؛ لأن الأمر للوجوب.
ويستحب له أن يراجعها لقوله ﷺ لعمر: «مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا»، وقد طلقها في حالة الحيض، وهذا يفيد الوقوَع والحثَّ على الرجعة، ثم الاستحبابُ قولُ بعض المشايخ، والأصح أنه واجب، عملًا بحقيقة الأمر، ورفعًا للمعصية بالقدر الممكن لرفع أثره وهو العدة، ودفعًا لضرر تطويل العدة.
قال الطحاوي: في شرح معاني الآثار (2/461):
بعد أن ذكر حكم الطلاق البدعي ولكنه يؤمر أن يراجعها ليخرجها بذلك من أسباب الطلاق الخطأ… إلى أن قال: وهذا مذهب أبي حنيفة قال مالك في المدونة (2/6- 7):
من طلق امرأته وهي نفساء أو حائض أجبر على رجعتها إلا أن تكون غير مدخول بها فلا بأس بطلاقها وإن كانت حائضًا أو نفساء.
وسأل سحنون ابن قاسم، قال: قلت: أرأيت إن طلقها في طهر قد جامعها فيه، هل يأمره مالك بمراجعتها كما يأمر بمراجعتها في الحيض؟ قال: لا يؤمر بمراجعتها.
جاء في روضة الطالبين (6/6):
إذا طلق في الحيض طلاقًا محرمًا، استحب له أن يراجعها.
جاء في مطالب أولي النهى (7/334):
وتسن رجعتها من طلاق البدعة إن كان الطلاق رجعيًّا؛ للخبر، وأقل أحوال الأمر الاستحباب؛ ليزيل المعنى الذي حرم الطلاق لأجله.
قال ابن قدامة: ولا يجب ذلك في ظاهر المذهب، وهو قول الثوري والأوزاعي والشافعي وابن أبي ليلى وأصحاب الرأي، وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى أن الرجعة تجب واختارها… إلى أن قال: ولنا: أنه طلاق لا يرتفع بالرجعة، فلم تجب عليه الرجعة فيه، كالطلاق في طهر مسها فيه، فإنهم أجمعوا على أن الرجعة لا تجب، حكاه ابن عبد البر عن جميع العلماء، وما ذكروه من المعنى ينتقض بهذه الصورة، وأما الأمر بالرجعة فمحمول على الاستحباب؛ لما ذكرنا.
تعقيب وترجيح
ما ذهب إليه الإمام الشافعي وجمهور الحنابلة ومن وافقهم من استحباب الرجعة -إذا طلق طلاقًا بدعيًّا- هو ما أرجحه؛ لقوة الأدلة على الاستحباب، ويقوي ذلك عندي أن المراجعة لو كانت واجبة وأراد الزوج أن يطلق زوجته لكان الضرر أكبر لوقوع تطليقتين بدلًا من واحدة، والله أعلى وأعلم.
ثانيًا: الطلاق الذي ليس فيه سنة ولا بدعة:
قال الماوردي في الحاوي الكبير (10/115):
وأما التي لا سنة في طلاقها ولا بدعة فخمس: الصغيرة، والمويسة، والحامل، وغير المدخول بها، والمختلعة.
أما الصغيرة والمويسة: فلاعتدادهما بالشهور التي لا تختلف بحيض ولا طهر.
وأما الحامل: فلاعتدادها بوضع الحمل الذي لا يؤثر فيه حيض ولا طهر.
وأما غير المدخول بها: فلأنه لا عدة عليها فيؤثر فيها حيض أو طهر.
وأما المختلعة: فلأن خوفها من أن لا يقيما حدود الله يقتضي تعجيل الطلاق من غير اعتبار سنة ولا بدعة.
وإذا انقسم الطلاق على هذه الأقسام الثلاثة، فقسمان منهما يجمع على وقوع الطلاق فيهما:
أحدهما: طلاق السنة: مجمع على وقوعه.
والثاني: ما لا سنة فيه ولا بدعة: مجمع على وقوعه.
والثالث: مختلف فيه وهو طلاق البدعة… فهو محظور محرم بوفاق، واختلف في وقوعه مع تحريمه.
ثالثا: عدد التطليقات:
للزوج علي الزوجة المدخول بها ثلاث طلقات قال تعالى: ﴿الطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ﴾ إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 229-230].
إذا قال الزوج لزوجته أنت طالق ثلاثًا، هل يقع واحدة أم ثلاثًا؟
قال تعالى: ﴿الطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ﴾ إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿فَإِن طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: 229-230].
– عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: قال: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّـهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْـخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ»-أخرجه مسلم (1472)، ومسند أبي عوانة (4534)، وسنن أبي داود (2200)، والنسائي (3406) وغيرهم.
– عن ابن عباس: قال: طلق عبد يزيد – أبو ركانة وإخوته – أم ركانة، ونكح امرأة من مزينة، فجاءت النبي ﷺ فقالت: ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة، لشعرةٍ أخذتها من رأسها، ففرِّق بيني وبينه، فأخذت النبي ﷺ حميةٌ فدعا بركانة وإخوته ثم قال: لجلسائه: أترون فلانًا يشبه منه كذا وكذا ؟ من عبد يزيد، وفلانًا يشبه منه كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قال النبي ﷺلعبد يزيد طلقها، ففعل ثم قال: راجع امرأتك أم ركانة وإخوته، قال: إني طلقتها ثلاثًا يا رسول الله، قال: قد علمت راجعها، وتلا: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ [الطلاق: 1]- رواه أبو داود (2196) – قال المنذري: قال الخطابي: في إسناد هذا الحديث مقال، لأن ابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع ولم يسمه، والمجهول لا تقوم به الحجة، وحكي أيضًا أن الإمام أحمد بن حنبل كان يضعف طرق هذا الحديث كلها – سنن أبي داود (1/250) – وضعفه شيخ الإسلام في الفتاوى (33/15).
رابعًا: من قال لامرأته أنت طالق ثلاثًا، هل تقع الثلاث أم واحدة؟
بين أهل العلم نزاع في هذه المسألة:
القول الأول: ذهب جمهور العلماء – منهم الأئمة الأربعة – إلى أن من قال لامرأته أنت طالق ثلاثًا، تقع الثلاث.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ۚ لَا تَدْرِى لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1].
قالوا: معناه أنّ المطلّق قد يحدث له ندم فلا يمكنه تداركه لوقوع البينونة، فلو كانت الثّلاث لا تقع لم يقع طلاقه هذا إلّا رجعيًّا فلا يندم.
حديث ركانة أنّه طلّق امرأته البتّة فقال له النّبيّ ﷺ: «الله مَا أَرَدْت إِلَّا وَاحِدَة؟» قال: الله ما أردت إلّا واحدة.
وجه الدلالة:
دل الحديث على ان طلاق الثلاث يقع ثلاثًا؛ لأنّه لو أراد الثّلاث لوقعن، وإلّا فلم يكن لتحليفه معنًى. مسلم بشرح النووي (5/321).
القول الثاني: ذهب شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما إلى أن الطلاق ثلاثًا في جلسة يقع واحدة.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
قوله تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: 1-2].
وجه الدلالة:
دلت الآية على أنَّ اللهَ تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة، ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله. زاد المعاد (5/216).
عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: قال: «كَانَ الطَّلَاقُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّـهِ ﷺ وَأَبِي بَكْرٍ وَسَنَتَيْنِ مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، طَلَاقُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْـخَطَّابِ: إِنَّ النَّاسَ قَدْ اسْتَعْجَلُوا فِي أَمْرٍ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَلَوْ أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، فَأَمْضَاهُ عَلَيْهِمْ»-أخرجه مسلم (1472)، ومسند أبي عوانة (4534)، وسنن أبي داود (2200)، والنسائي (3406) وغيرهم.
وجه الدلالة:
دل الحديث على أن طلاق الثلاث في جلسة واحدة يقع واحدًا، وإنما جعله عمر ثلاثًا اجتهادَا منه وسياسة لما تتابع الناس في الطلاق فأجازه عليهم- فتح الباري لابن حجر (9/ 363).
أقوال أهل العلم في المسألة:
أولًا: القائلون بأن الطلاق بلفظ الثلاث يقع ثلاثًا:
قال ابن الهمام في فتح القدير (3/449):
وطلاق البدعة أن يطلقها ثلاثًا بكلمة واحدة أو ثلاثًا في طهر واحد، فإذا فعل ذلك وقع الطلاق وكان عاصيًا.
جاء في الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (5/174):
ومن طلق امرأته ثلاثًا لم تحلَّ له بملك ولا نكاح حتى تنكح زوجًا غيره، وطلاق الثلاث في كلمة واحدة بدعة ويلزم إن وقع.
جاء في الحاوي الكبير (10/326):
قال الماوردي: كل زوج وقع طلاقه على كل زوجة من صغيرة أو كبيرة، عاقلة أو مجنونة إذا استكمل طلاقها ثلاثًا مجتمعة أو متفرقة، قبل الدخول أو بعده فهي محرمة عليه حتى تنكح زوجًا غيره.
فإذا قال: طلقتك، أو: أنت طالق، ونوى طلقتين أو ثلاثًا، وقع ما نوى، وكذا حكم الكناية.
قلت: وسواء في هذا المدخول بها وغيرها، والله أعلم.
قال ابن قدامة في المغني (7/71):
وإن طلقها ثلاثًا بكلمة واحدة وقع الثلاث وحرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، ولا فرق بين قبل الدخول وبعده… قال الأثرم: سألت أبا عبد الله عن حديث ابن عباس: بأي شيء تدفعه؟ فقال: أدفعه برواية الناس عن ابن عباس من وجوه خلافه، ثم ذكر عن عدة، عن ابن عباس من وجوه؛ أنها ثلاث.
ثانيًا: المانعون من وقوع الطلقات الثلاث بلفظ واحد:
جاء في إعلام الموقعين (3/27-30) باختصار:
بعد أن ساق حديثي ابن عباس وركانة – قال: قال رسول الله ﷺ: «من قال: سُبْحَانَ اللَّـهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ عَنْهُ خَطَايَاهُ…» الحديث، ولم يحصل له هذا الثواب حتى يقولها مرة بعد مرة، وكذلك قوله: «مَنْ سَبَّحَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَحَمِدَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ…» لا يكون عاملًا به حتى يقول ذلك مرة بعد مرة ولا يجمع الكل بلفظ واحد.. كقوله تعالى: ﴿سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ﴾ [التوبة: 101] إنما هو مرة بعد مرة… إلى أن قال: فهذا المعقول من اللغة والعرف في الأحاديث المذكورة وهذه النصوص المذكورة تفسر المراد من قوله: ﴿الطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ ۖ﴾ كلها من باب واحد ومشكاة واحدة.
فهذا كتاب الله، وهذه سنة رسول الله ﷺ، وهذه لغة العرب، وهذا عرف التخاطب، وهذا خليفة رسول الله ﷺ والصحابة كلهم معه في عصره، وثلاث سنين من عصر عمر على هذا المذهب، فلو عدهم العادُّ بأسمائهم واحدًا واحدًا لوجد أنهم كانوا يرون الثلاث واحدة، إما بفتوى وإما بإقرار عليها.
وفي (ص 29) قال: والمقصود: أن هذا القول قد دل عليه الكتاب والسنة والقياس والإجماع القديم، ولم يأت بعده إجماع يبطله، ولكن رأى أمير المؤمنين عمر -رضي الله عنه- أن الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وكثر منهم إيقاعه جملة واحدة، فرأى من المصلحة عقوبتهم بإمضائه عليهم؛ ليعلموا أن أحدهم إذا أوقعه جملة بانت منه المرأة وحرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره نكاح رغبة يراد للدوام لا نكاح تحليل، فإنه كان من أشد الناس فيه، فإذا علموا ذلك كفوا عن الطلاق المحرم، فرأى عمر أن هذا مصلحة لهم في زمانه ورأى أن ما كانوا عليه في عهد النبي ﷺ وعهد الصديق وصدرٍ من خلافته كان الأليق بهم، لأنهم لم يتلاعبوا فيه، وكانوا يتقون الله في الطلاق، وقد جعل الله لكل من اتقاه مخرجًا، فلما تركوا تقوى الله وتلاعبوا بكتاب الله وطلقوا على غير ما شرعه الله ألزمهم بما التزموه عقوبة لهم، فإن الله تعالى إنما شرع الطلاق مرة بعد مرة ولم يشرعه كله مرة واحدة، فمن جمع الثلاث في مرة واحدة فقد تعدى حدود الله وظلم نفسه ولعب بكتاب الله فهو حقيق أن يعاقب ويلزمه بما التزمه، ولا يُقر على رخصة الله وسعته وقد صعبها على نفسه… وعلم الصحابة حسن سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك فوافقوه على ما ألزم به، وصرحوا لمن استفتاهم بذلك.
قال ابن القيم: ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة، أنه قال تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوٓءٍ ۚ﴾ إلى أن قال: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوٓا إِصْلَـٰحًا ۚ﴾ [البقرة: 228].
فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول، فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا، وكذلك قوله تعالى: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا النَّبِىُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَآءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ إلى قوله: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: 1-2]، فهذا هو الطلاق المشروع، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن وذكر أحكامها؛ فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه، وذكر الطلقة الثالثة وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجًا غيره، وذكر طلاق الفداء الذي هو الخلع وسماه فدية ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم، وذكر الطلاق الرجعي الذي يحقّ للمطلق فيه الرجعة وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (33/13):
ولا نعرف أن أحدًا طلق على عهد النبي ﷺ امرأته ثلاثًا بكلمة واحدة فألزمه النبي ﷺ بالثلاث، ولا روي في ذلك حديث صحيح ولا حسن ولا نقل أهل الكتب المعتمد عليها في ذلك شيئًا، بل رويت في ذلك أحاديث كلها ضعيفة باتفاق علماء الحديث بل موضوعة، بل الذي في صحيح مسلم وغيره من السنن والمسانيد عن طاوس عن ابن عباس أنه قال… وساق حديث الباب كما تقدم.
قال ابن رشد في بداية المجتهد (2/74):
بعد أن ذكر أقوال أهل العلم في ذلك: وكأن الجمهور غلّبوا حكم التغليظ في الطلاق سدًّا للذريعة، ولكن تبطل بذلك الرخصة الشرعية والرفق المقصود في ذلك، أعني في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَٰلِكَ أَمْرًا﴾ [الطلاق: 1].
تعقيب وترجيح:
والذي تطمئن إليه النفس، وينشرح له الصدر -ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن وافقهما- من أن التطليقات الثلاث بلفظ واحد تقع واحدة، ودليل ذلك صريح في حديث ابن عباس الصحيح الذي أخرجه مسلم كما تقدم، والله تعالى أعلم.