المقالة الرابعة والخمسون
باب النكاح_ المتعة، النفقة والسكنى
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن الصداق، وبينا متى يجب الصداق المسمى كله؟ ومتى يجب نصف الصداق؟ وتحدثنا عن المتعة وحكمها، ونستكمل فقه النكاح سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
الطلاق الذي يستحق به المتعة:
الطلاق ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يوجب المتعة، وقسم لا يوجبها، وقسم مختلف فيه.
القسم الذي يوجب المتعة:
هو طلاق المفوضة التي لم يسم لها صداقٌ، ولا فرض لها بعد العقد صداقٌ، إذا طلقت قبل الدخول فليس لها إلا المتعة.
لقول الله تعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 236]، فجعل لها المتعة إذا لم يكن لها مهر ولم يدخل بها.
القسم الذي لا يوجب المتعة:
هو الطلاق قبل الدخول لمن سمي لها مهر بالعقد أو فرض لها مهر قبل الطلاق وبعد العقد، فلها نصف المهر المسمى أو المفروض ولا متعة لها.
لقول الله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ) [البقرة: 237]. فلم يجعل لها إلا نصف المهر ولأنها قد ملكت نصف المهر بما ابتذلت به من العقد فلم يجعل لها غيره لئلا يجمع بين المتعة والمهر.
القسم المختلف فيه:
اختلف العلماء في الطلاق بعد الدخول لمن سَمَّى لها مهرًا أو لم يسم على قولين:
القول الأول: ذهب أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه وإحدى الروايتين عن أحمد إلى أن المطلقة بعد الدخول ليس لها متعة إذا سمي لها مهرًا، فإن لم يسم لها مهرًا فلها المتعة.
وحجتهم في ذلك:
قول الله تعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 236].
وجه الدلالة:
أن الله تعالى أوجب المتعة بشرطين، عدم المهر وعدم الدخول، ولأنها مطلقة لم يخلُ نكاحها عن بدل فلم يكن لها متعة، كما لو سمي لها مهرًا ثم طلقها قبل الدخول.
القول الثاني: ذهب الشافعي في القول الثاني والإمام مالك والإمام أحمد في رواية وأهل الظاهر إلى أن المتعة حق لكل مطلقة.
وحجتهم في ذلك:
1- قول الله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ ) [البقرة: 241].
وجه الدلالة:
أن الآية عامة لكل مطلقة إلا ما خصه الدليل كالمطلقة قبل الدخول وليس لها مهر مسمى.
2- قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ) [الأحزاب: 28].
وجه الدلالة:
أن هذه الآية في نساء النبي ﷺ اللاتي دخل بهن، وقد سمي لهن المهر، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها: «كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا» أخرجه مسلم (1426).
ولأن المتعة إنما جعلت لما لحقها من الابتذال بالعقد والطلاق، والمهر في مقابل الوطء، والابتذال موجود فكان لها المتعة.
أقوال أهل العلم في المسألة:
أولًا: من قال ليس لها متعة:
قال السرخسي في المبسوط (6/71):
فإنما يتحقق الاختلاف في المطلقة بعد الدخول، عندنا لها المهر المسمى أو المثل إذا لم يكن في النكاح تسمية وليس لها متعة واجبة ولكنها مستحبة.
جاء في المجموع (18/72):
قال في القديم: لا متعة لها، وبه قال أبو حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد لقوله تعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ) [البقرة: 236]، فعلق المتعة بشرطين: وهو أن يكون الطلاق قبل الفرض وقبل المسيس، ولم يوجد الشرطان ههنا، وقوله تعالى: (إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ ) [الأحزاب: 49]، فجعل لهن المتعة قبل المسيس، وقد وجد المسيس ههنا ولأنها مطلقة لم يخلُ نكاحها عن بدل فلم يكن لها متعة، كما لو سمي لها مهرًا ثم طلقها قبل الدخول.
وقال في الجديد: لها متعة، وبه قال عمر وعلي والحسن بن علي وابن عمر ولا مخالف لهم في الصحابة.
قال المحاملي: وهو الأصح لقوله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ ) [البقرة: 241]، فجعل الله المتعة لكل مطلقة، إلا ما خصه الدليل، ولقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ) [الأحزاب: 28]، وهذا في نساء النبي ﷺ اللاتي دخل بهن، وقد سمي لهن المهر، بدليل حديث عائشة رضي الله عنها: «كَانَ صَدَاقُهُ لِأَزْوَاجِهِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ أُوقِيَّةً وَنَشًّا»، ولأن المتعة إنما جعلت لما لحقها من الابتذال بالعقد والطلاق، والمهر في مقابل الوطء، والابتذال موجود فكان لها المتعة.
ثانيًا: من قال لها متعة:
جاء في المدونة الكبرى (2/239):
قلت: أرأيت المتعة في قول مالك، أهي لكل مطلقة؟ قال: نعم، إلا التي سَمَّى لها صداقًا فطلقها قبل أن يدخل بها فلا متعة لها، وكذلك قال لي مالك وهذه التي استثنيت في القرآن كما ذكرت لك.
جاء في الحاوي (9/548):
والقول الثاني: وهو قوله في الجديد لها المتعة لقول الله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ ) [البقرة: 241]… إلى أن قال: فإن قيل فهذه الآية مجملة فسرها قوله تعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ ) [البقرة: 236].
قيل: حمل الآيتين على عموم وخصوص أولى من حملها على مجمل ومفسر؛ لأن العموم يمكن استعماله بنفسه والمجمل لا يمكن استعماله بنفسه، ولقوله تعالى في أزواج النبي ﷺ: (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [الأحزاب: 28]، وفيه تقديم، وتقديره فتعالين أسرحكن وأمتعكن وقد كن كلهن مدخولات بهن، فدل على وجوب المتعة للمدخول بها.
ولأن إجماع الصحابة أن المتعة لكل مطلقة إلا التي طلقت قبل الدخول وفرض لها مهر.
جاء في الشرح الكبير على متن المقنع (8/ 93):
لكل مطلقة متاع سواء كانت مفوضة أو سمى لها مدخولاً بها أو غيرها لما ذكرنا وظاهر المذهب أن المتعة لا تجب إلا المفوضة التي لم يدخل بها إذا طلقت.
جاء في المحلى (10/ 3):
المتعة فرض على كل مطلق -واحدة أو اثنتين أو ثلاثا، أو آخر ثلاث، وطئها أو لم يطأها، فرض لها صداقها أو لم يفرض لها شيئا- أن يمتعها، وكذلك المفتدية أيضا ويجبره الحاكم على ذلك، أحب أم كره.
جاء في السيل الجرار (2/290):
وأما قوله سبحانه: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) فظاهرها إيجاب المتعة لكل مطلقة مدخولة أو غير مدخولة مع الفرض أو عدمه.
تعقيب وترجيح:
والذي أختاره في ذلك وأرجحه ما ذهب إليه جمهور الصحابة، واختاره الشافعية من وجوب المتعة لكل مطلقة، إلا المطلقة قبل الدخول وَفُرِضَ لَهَا مَهْرٌ، ودليل ذلك قول الله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ ) [البقرة: 241]، فالآية عامة في كل مطلقة كما تقدم من كلام أهل العلم ثم استثنى منها المطلقة قبل الدخول وقد فُرِضَ لها مهرٌ، فجعل الله لها نصف المهر، ولم يجعل لها متعة، قال تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ ) [البقرة: 237].
قال بعض أهل العلم هي ناسخة لقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ فَمَتِّعُوهُنَّ) [الأحزاب: 49]، فآية الأحزاب منسوخة، والله تعالى أعلم.
ثانيًا: النفقة والسُّكنى:
النفقة والسكنى واجبة على الزوج، وقد دل على وجبها الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
(أ) من الكتاب العزيز:
1- فقوله عز وجل: (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ) [الطلاق: 6]، أي: على قدر ما يجده أحدكم من السعة والمقدرة والأمر بالإسكان أمر بالإنفاق؛ لأنها لا تصل إلى النفقة إلا بالخروج والاكتساب.
2- وقوله عز وجل: (وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ ) [الطلاق: 6]، أي: لا تضاروهن في الإنفاق عليهن فيخرجن، أو لا تضاروهن في المسكن فتدخلوا عليهن من غير استئذان فتضيقوا عليهن النفقة فيخرجن.
3- قوله عز وجل: (وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ) [الطلاق: 6]، أي: وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل وكنّ بائنات منكم، فأنفقوا عليهنّ في عدتهنّ منكم حتى يضعن حملهنّ. جامع البيان ت شاكر (23/ 458)
4- وقوله عز وجل: (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ ) [البقرة: 233]، أي وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره، وتوسطه وإقتاره. تفسير ابن كثير ط العلمية (1/ 479).
5- وقوله عز وجل: (لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ) [الطلاق: 7]، أي: لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعًا عليه، ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. تفسير القرطبي (18/ 170).
6- وقوله عز وجل: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ ) [البقرة: 228].
ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر، ما يجب عليه بالمعروف. تفسير ابن كثير ط العلمية (1/ 459).
(ب) من السنة:
1- ما روى عن رسول الله ﷺ أنه قال: «فَاتَّقُوا اللهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ اللهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»، أخرجه مسلم (1218) وجزء من حديث جابر الطويل في صفة حجة النبي ﷺ. وصحيح سنن أبي داود (1905)، وابن ماجه (13074).
2- وروي أن رجلاً جاء إلى رسول الله ﷺ فقال: ما حق المرأة على الزوج؟ فقال: «أَنْ تُطْعِمَهَا إِذَا طَعِمْتَ وَتَكْسُوَهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ أَوْ اكْتَسَبْتَ وَلَا تَضْرِبْ الْوَجْهَ وَلَا تُقَبِّحْ وَلَا تَهْجُرْ إِلَّا فِي الْبَيْت»، صحيح سنن أبي داود (2142)، ومسند الإمام أحمد (20011).
3- وقال النبي ﷺ لهند امرأة أبي سفيان: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» أخرجه البخاري (5364)، ومسلم (1714).
ولو لم تكن النفقة واجبة لم يحتمل أن يأذن لها بالأخذ من غير إذنه.
(ج) من الإجماع:
فلأن الأمة أجمعت على هذا.
قال ابن المنذر في الإجماع (ص: 83):
وأجمعوا على أن الرجل إذا تزوج المرأة، ولم يدخل بها: فإن كان الحبس من قِبَلها فلا نفقة عليها، وإن كان مِن قِبَله فعليه النفقة.
(د) من المعقول:
فهو أن المرأة محبوسة بحبس النكاح حقًا للزوج ممنوعة على الاكتساب بحقه، فكان نفع حبسها عائدًا إليه فكانت كفايتها عليه كقوله ﷺ «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ»، ولأنها إذا كانت محبوسة بحبسه ممنوعة عن الخروج للكسب بحقه، فلو لم يكن كفايتها عليه لهلكت- بدائع الصنائع (4/22).