المقالة الخمسون
باب النكاح – الأنكحة المحرمة – نكاح التحليل
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن المحرمات بسبب المصاهرة والمحرمات مؤقتًا ونستكمل بعض الأحكام المتعلقة بفقه النكاح سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
الأنكحة المحرمة:
أولًا: زواج المتعة:
زواج المتعة: هو أن يقول للمرأة: أمتعيني نفسك شهرًا أو موسم الحج، أو ما أقمت في البلد أو يذكر ذلك بلفظ النكاح أو التزويج بها، أو لوليها بعد أن يقدره بمدة، إما معلومة أو مجهولة فهذا هو نكاح المتعة المحرم- الحاوي الكبير (9/328).
حكمه: ذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أن نكاح المتعة حرام، وأنه كان جائزًا أول الإسلام ثم نسخ الحكم، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم. واحتجوا على ذلك بما يأتي:
1- عن قيس، قال: سمعت عبد الله يقول: كنا نغزو مع رسول الله ﷺ ليس لنا نساء، فقلنا ألا نستخصي؟ فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبد الله: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ{ [المائدة: 87]- أخرجه البخاري (5071) ومسلم (1404).
2- وعن عمر بن دينار قال: سمعت الحسن بن محمد يحدث عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع، قالا: خَرَجَ عَلَيْنَا مُنَادِي رَسُولِ اللهِ ﷺ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَدْ أَذِنَ لَكُمْ أَنْ تَسْتَمْتِعُوا يَعْنِي مُتْعَةَ النِّسَاءِ-أخرجه البخاري (5117، 5118) ومسلم (1405).
3- عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه سبرة، أنه قال: «أَذِنَ لَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ بِالْمُتْعَةِ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَرَجُلٌ إِلَى امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي عَامِرٍ كَأَنَّهَا بَكْرَةٌ عَيْطَاءُ فَعَرَضْنَا عَلَيْهَا أَنْفُسَنَا فَقَالَتْ: مَا تُعْطِي فَقُلْتُ: رِدَائِي وَقَالَ صَاحِبِي: رِدَائِي وَكَانَ رِدَاءُ صَاحِبِي أَجْوَدَ مِنْ رِدَائِي وَكُنْتُ أَشَبَّ مِنْهُ فَإِذَا نَظَرَتْ إِلَى رِدَاءِ صَاحِبِي أَعْجَبَهَا وَإِذَا نَظَرَتْ إِلَيَّ أَعْجَبْتُهَا ثُمَّ قَالَتْ: أَنْتَ وَرِدَاؤُكَ يَكْفِينِي فَمَكَثْتُ مَعَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: مَنْ كَانَ عِنْدَهُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ النِّسَاءِ الَّتِي يَتَمَتَّعُ فَلْيُخَلِّ سَبِيلَهَا»- أخرجه مسلم (1406).
وفي رواية «… ثُمَّ اسْتَمْتَعْتُ مِنْهَا فَلَمْ أَخْرُجْ حَتَّى حَرَّمَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ»-أخرجه مسلم (20-1406).
أقوال أهل العلم في نكاح المتعة:
قال الموصلي في الاختيار لتعليل المختار (3/ 89):
ونكاح المتعة والنكاح المؤقت باطل، أما المتعة فلقوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7]، وهذه ليست مملوكة ولا زوجة.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/385):
بعد أن ساق جملة من الآثار… ففي هذه الآثار تحريم رسول الله ﷺ المتعة بعد إذنه فيها وإباحته إياها، فثبت بما ذكرنا نسخ ما في الآثار الأول التي ذكرناها في أول هذا الباب، ثم روي عن أصحاب رسول الله ﷺ النهي عنها أيضًا.
قال ابن عبد البر في التمهيد (7/209):
قد روى عن النبي ﷺ في تحريم نكاح المتعة مما قد ذكرناه ما فيه شفاء وليس أحد من خلق الله إلا يؤخذ ويترك إلا رسول الله ﷺ…
قال أبو عمر: وأجمعوا أن المتعة نكاح لا إشهاد فيه ولا ولي وإنه نكاح إلى أجل تقع فيه الفرقة بلا طلاق ولا ميراث بينهما وهذا ليس حكم الزوجات في كتاب الله ولا سنة رسول الله ﷺ.
جاء في شرح النووي على صحيح مسلم(5/202-201):
قال المازري: ثبت أن نكاح المتعة كان جائزًا في أول الإسلام ثم ثبت بالأحاديث الصحيحة المذكورة هنا أنه نسخ وانعقد الإجماع على تحريمه ولم يخالف فيه إلا طائفة من المستبدعة وتعلقوا بالأحاديث الواردة في ذلك، وقد ذكرنا أنها منسوخة فلا دلالة لهم فيها.
قال النووي: والصواب المختار أن التحريم والإباحة كانا مرتين، وكانت حلالاً قبل خيبر ثم حرمت يوم خيبر ثم أبيحت يوم فتح مكة وهو يوم أوطاس لاتصالها ثم حرمت يومئذ بعد ثلاثة أيام تحريمًا مؤبدًا إلى يوم القيامة، واستمر التحريم ولا يجوز أن يقال: إن الإباحة مختصة بما قبل خيبر والتحريم يوم خيبر للتأبيد، وأن الذي كان يوم الفتح مجرد توكيد التحريم من غير تقدم إباحة يوم الفتح كما اختاره المازري والقاضي، لأن الروايات التي ذكرها مسلم في الإباحة يوم الفتح صريحة في ذلك فلا يجوز إسقاطها ولا مانع يمنع تكرير الإباحة، والله تعالى أعلم.
قال المرداوي في الحاوي الكبير (9/328):
قال الشافعي: وفي القرآن والسنة دليل على تحريم المتعة، قال تعالى:} إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ{ فلم يحرمهن الله على الأزواج إلا بالطلاق وقال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ ۗ}
وقال تعالى: }وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ{. فجعل إلى الأزواج فرقة من عقدوا عليه النكاح مع أحكام ما بين الأزواج فكان بينًا -والله تعالى أعلم- أن نكاح المتعة منسوخ بالقرآن والسنة لأنه إلى مدة ثم نجده ينفسخ بلا إحداث طلاق فيه ولا فيه أحكام الأزواج.
قال المرداوي في الإنصاف (8/160):
الصحيح من المذهب: أن نكاح المتعة لا يصح وعليه الإمام أحمد –رحمه الله- والأصحاب.
ثانيًا: نكاح التحليل:
المُحِلَّ: اسم فاعل من الإحلال، والمحلل: اسم مفعول من التحليل، والمراد من المحل هو تزوج المرأة المطلقة ثلاثًا بقصد الطلاق أو شرطه لتحل هي لزوجها الأول. والمراد من المحلل له: الزوج الأول- المبدع في شرح المقنع (6/ 151)، تحفة الأحوذي (4/221).
حكمه: ذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى تحريم زواج التحليل وحجتهم في ذلك ما يأتي:
1- عن عبد الله بن مسعود قال: «إِنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ لَعَنَ الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ»-صحيح سنن الترمذي (1120) وصحيح سنن أبي داود (2076) وصحيح ابن ماجه (1935).
قال أبو عيسى الترمذي: والعمل على هذا الحديث عند أهل العلم من أصحاب النبي ﷺ منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمرو وغيرهم، وهو قول الفقهاء والتابعين وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق- جامع الترمذي (ص: 119)
2- عن عائشة، قالت: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، وَإِنَّ مَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللهِ ﷺ فَقَالَ: أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إِلَى رِفَاعَةَ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ»- أخرجه البخاري (5261) ومسلم (1433).
3- عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال: جاء رجل إلى ابن عمر رضي الله عنهما فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثًا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحُلها لأخيه هل تحل؟ للأول؟ قال: لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحًا على عهد رسول الله ﷺ – صحيح: أخرجه الحاكم في المستدرك (2/199) قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه والبيهقي (7/208).
4- وعن جابر الأسدي قال: قال عمر بن الخطاب: لا آوتى بمحلل ولا بمحللة إلا رجمتهما- أخرجه عبد الرزاق في المصنف (6/265) وسعيد بن منصور في السنن (1992، 1993).
وجه الدلالة:
هذه الأحاديث صريحة في تحريم زواج التحليل.
أقوال أهل العلم:
قال الإمام مالك في شرح الموطأ (3/166):
قال مالك في المحلل -أي المتزوج مبتوتة بقصد إحلالها لباتها-: إنه لا يقيم على نكاحه ذلك لفساده، حتى يتسقبل نكاحًا جديد فإن أصابها في ذلك الفاسد فلها مهرها عليه.
قال الشافعي في الأم (5/117):
ونكاح المحلل الذي يروى أن رسول الله ﷺ لعنه -والله تعالى أعلم– ضرب من نكاح المتعة لأنه غير مطلق إذا شرط أن ينكحها حتى تكون الإصابة، فقد يستأخر ذلك أو يتقدم، وأصل ذلك أنه عقد عليها النكاح إلى أن يصيبها فإذا أصابها فلا نكاح له عليها، مثل أنكحك عشرًا ففي عقد أنكحك عشرًا أن لا نكاح بيني وبينك بعد عشر، كما في عقد أنكحك لأحللك أي إذا أصبتك فلا نكاح بيني وبينك بعد أن أصبتك كما يقال: أتكارى منك هذا المنزل عشرًا أو أستأجر هذا العبد شهرًا وفي عقد شهر أنه إذا مضى فلا كراء… إلى أن قال: فإذا عقد النكاح على واحد مما وصفت فهو داخل في نكاح المتعة، وكذلك كل نكاح إلى وقت معلوم أو مجهول فالنكاح مفسوخ لا ميراث بين الزوجين وليس بين الزوجين شيء من أحكام الأزواج، طلاق ولا ظهار ولا إيلاء ولا لعان إلا بولد، وإن كان لم يصبها فلا مهر لها وإن كان أصابها فلها مهر مثلها لا ما سمى لا لها وعليها العدة ولا نفقة لها في العدة. وإن كانت حاملاً، فإن نكحها بعد هذا نكاحًا صحيحًا فهي عنده على ثلاث.
قال الحافظ في التلخيص (3/373):
فائدة: استدلوا بهذا الحديث على بطلان النكاح إذا شرط الزوج أنه إذا نكحها بانت منه، أو شرط أنه يطلقها أو نحو ذلك وحملوا الحديث على ذلك ولا شك أن إطلاقه يشمل هذه الصورة وغيرها.
قال ابن قدامة في المغني (7/ 180):
نكاح المحلل حرام باطل، في قول عامة أهل العلم؛ منهم الحسن والنخعي، وقتادة، ومالك، والليث، والثوري، وابن المبارك، والشافعي، وسواء قال: زوجتكها إلى أن تطأها. أو شرط أنه إذا أحلها فلا نكاح بينهما، أو أنه إذا أحلها للأول طلقها
قال ابن القيم في زاد المعاد (5/94):
بعد أن ساق أحاديث عن ابن مسعود وعلي وأبي هريرة وعقبة بن عامر… فهؤلاء الأربعة من سادات الصحابة رضي الله عنهم وقد شهدوا على رسول الله ﷺ بلغة أصحاب التحليل، وهم: المحلل والمحلل له وهذا إما خبر عن الله فهو خبر صدق، وإما دعاء فهو دعاء مستحب قطعًا وهذا يفيد أنه من الكبائر الملعون فاعلها، ولا فرق عند أهل المدينة وأهل الحديث وفقهائهم بين اشتراط ذلك بالقول أو بالتواطؤ والقصد، فإن القصود في العقود عندهم معتبرة والأعمال بالنيات، والشرط المتواطأ عليه دخل عليه المتعاقدان كالملفوظ عندهم، والألفاظ لا تراد لعينها بل للدلالة على المعاني، فإذا ظهرت المعاني والمقاصد فلا عبرة بالألفاظ لأنها وسائل وقد تحققت غاياتها فترتبت عليها أحكامها.
قال الصنعاني في سبل السلام (3/186):
والحديث دليل على تحريم التحليل لأنه لا يكون اللعن إلا على فاعل المحرم وكل محرم منهي عنه والنهي يقتضي فساد العقد واللعن وإن كان ذلك للفاعل لكنه علق بوصف يصح أن يكون علة الحكم وذكروا للتحليل صورًا، منها أن يقول له في العقد: إذا أحللتها فلا نكاح وهذا مثل نكاح المتعة لأجل التوقيت ومنها أن يقول في العقد: إذا أحللتها طلقتها، ومنها أن يكون مضمرًا عند العقد بأن يتواطئا على التحليل ولا يكون النكاح الدائم هو المقصود، وظاهر شمول اللعن فساد العقد لجميع الصور وفي بعضها خلاف بلا دليل ناهض فلا يشتغل بها.
قال المباركفوري في تحفة الأحوذي (4/223):
استدل بهذا الحديث، يعني بحديث: «لَعَنَ الْمُحِلَّ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» على كراهة النكاح المشروط به التحليل، وظاهره يقتضي التحريم كما هو مذهب الإمام أحمد انتهى.
قلت: لا شك في أن ما قال الإمام أحمد هو الظاهر.