المقالة الخامسة والستون
فقه الطلاق_ الطلاق الرجعي
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن حكم ما إذا طلق الرجل زوجته وهي حائض، هل يجب عليه مراجعتها أم لا؟ وعن عدد التطليقات، وعن الطلاق الذي ليس فيه سنة ولا بدعة، وعن حكم من قال لامرأته أنت طالق ثلاثًا، هل تقع الثلاث أم واحدة؟ ونستكمل ما بدأناه سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
الطلاق الرجعي:
قال تعالى: ﴿الطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ ۖ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَـٰنٍ ۗ﴾ [البقرة: 229].
قال العلامة ابن كثير في تفسيره (1/258):
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله عز وجل إلى ثلاث طلقات وأباح الرجعة في المرة والثنتين وأبانها بالكلية في الثالثة فقال: ﴿الطَّلَـٰقُ مَرَّتَانِ ۖ﴾ الآية، أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين فأنت مخير فيها ما دامت في عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناويًا الإصلاح بها والإحسان إليها؛ وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسنًا إليها لا تظلمها من حقها شيئًا ولا تضار بها.
الطلاق الرجعي ثابت بالكتاب والسنة والإجماع، وهو حق للزوج مدة العدة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَـٰتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَـٰثَةَ قُرُوٓءٍ ۚ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوٓا إِصْلَـٰحًا ۚ﴾ [البقرة: 228].
وأما السنة: فلحديث ابن عمر وفيه: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّـهِ r فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْـخَطَّابِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّـهِ r: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»- أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471).
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن له الرجعة في المدخول بها ما لم تنقضِ العدة، فإذا انقضت العدة فهو خاطب من الخطاب- الإجماع (ص:43).
الأول: أن يكون دخل بها، لأن غيرها لا عدة عليها فلا يمكن رجعتها.
الثاني: أن يكون النكاح صحيحًا؛ لأن من نكاحها فاسد تبين بالطلاق، فلا تمكن رجعتها، ولأن الرجعة إعادة إلى النكاح، فإذا لم تحل بالنكاح لعدم صحته، وجب أن لا تحل بالرجعة إليه.
الثالث: أن يطلّق دون ما يملكه من عدد الطلاق، وهو ثلاث للحر واثنتان للعبد؛ لأن من استوفى عدد طلاقه، لا تحل له مطلقته حتى تنكح زوجًا غيره، فلا تمكن رجعتها لذلك.
الرابع: أن يكون الطلاق بغير عوض؛ لأن العوض في الطلاق إنما جعل لتفتدي به المرأة نفسها من الزوج، ولا يحصل ذلك مع ثبوت الرجعة، فإذا وجدت هذه الشروط كان له رجعتها مادامت في العدة للإجماع- مطالب أولي النهى (8/83).
تحرير محل النزاع:
أولًا: اتفق جمهور العلماء على أن الرجعة تكون بالقول، بأن يقول الزوج لزوجته: راجعتك أو راجعتها وما أشبه ذلك، واستدلوا بحديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري ومسلم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا»- أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471).
ثانيًا: اخلف الفقهاء في جواز الرجعة بالفعل على قولين:
القول الأول: ذهب أبو حنيفة ومالك إلى جواز الرجعة بالفعل، كالمس بشهوة والجماع وغيره.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
قول الله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 228]
قالوا: وإنما يكون أحق إذا استبد به، والبعل هو الزوج وفي تسميته بعلًا بعد الطلاق الرجعي دليل بقاء الزوجية بينهما، فالمباعلة هي المجامعة- انظر المبسوط للسرخسي (6/22).
الرجعة استدامة للملك، والفعل المختص به يكون أدل على استدامة الملك من القول وذلك يحصل بالجماع- المبسوط (6/24).
القول الثاني: ذهب الشافعي وأحمد وابن حزم وغيرهم إلى أن الرجعة لا تكون إلا بالقول.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
حديث ابن عمر وفيه: «أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّـهِ r فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْـخَطَّابِ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّـهِ r:: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ»- أخرجه البخاري (5251)، ومسلم (1471).
قياس الرجعة على أصل النكاح، فكما أن النكاح لا يصح إلا بالقول فكذا الرجعة لا تصح إلا بالقول.
أقوال أهل العلم في المسألة:
أولًا: من قال بأن الرجعة تحصل بالقول والفعل:
قال ابن الهمام في فتح القدير (4/142):
والرجعة أن يقول: راجعتك أو راجعت امرأتي، وهذا صريح في الرجعة ولا خلاف فيه بين الأئمة، قال: أو يطأها أو يقبلها أو يلمسها بشهوة أو ينظر إلى فرجها بشهوة، وهذا عندنا.
وبناء على مذهبنا أن جماعه إياها في العدة رجعة منه، وعند الشافعي لا يكون رجعة… إلى أن قال: وعندنا الرجعة استدامة للملك، والفعل المختص به يكون أدل على استدامة الملك من القول… وذلك يحصل بالجماع.
جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (9/294):
وأما الفعل مع النية فإنه يحصل به الرجعة، والدخول عليها من جملة الفعل، فإن نوى به الرجعي كفى، قاله بعضهم، وتحصل من كلامه أن الرجعة تحصل بالقول مع النية، سواء كان القول صريحًا أو محتملًا، وكذلك بالفعل مع النية.
ثانيًا: من قال بأن الرجعة تحصل بالقول دون الفعل:
جاء في الحاوي (10/310):
قال الشافعي: ولما لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام فلا تكون رجعة إلا بكلام.
قال الماوردي: وهذا كما قال: ولا تصح الرجعة إلا بكلام من الناطق، وبالإشارة من الأخرس، ولا تصح بالفعل من الوطء والاستمتاع… واستُدل على لفظ راجعتك بحديث ابن عمر المتقدم انتهى.
جاء في شرح غاية المنتهى (8/85):
وتحصل الرجعة بلفظ راجعتها ورجعتها وارتجعتها وأمسكتها ورددتها وأعدتها؛ لورود السنة بلفظ الرجعة في حديث ابن عمر، وورود الكتاب به؛ أي: لفظ الرد لقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 228]، وبلفظ الإمساك في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [البقرة: 231].
جاء في المحلى (10/17):
فإن وطئها لم يكن بذلك مراجعا لها حتى يلفظ بالرجعة ويشهد، ويعلمها بذلك قبل تمام عدتها.
تعقيب وترجيح:
وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب هو ما ذهب إليه أبو حنيفة ومالك وغيرهما من أن الرجعة تكون بالفعل وبالقول؛ وذلك لقول الله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ إِنْ أَرَادُوٓا إِصْلَـٰحًا ۚ﴾، والرد إما بالقول أو بالفعل ولم يقيد أحد لفظ «الرد» في الآية بالقول، هذا والله تعالى أعلم.
رابعًا: هل للزوج حق الرجعة من غير إذن زوجته؟
أجمع أهل العلم على أن الرجعة من حق الزوج بعد الطلقة الأولى والثانية وليس للزوجة أن تمنعه؛ لأنها حق كسائر حقوق الزوج ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم.
قال تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 228].
قال تعالى: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَـٰدَةَ لِلَّهِ ۚ﴾ [الطلاق: 2].
قال ابن المنذر: وأجمعوا على أن الحر إذا طلق زوجته الحرة وكانت مدخولًا بها تطليقة أو تطليقتين، أنه أحق برجعتها حتى تنقضي العدة. الإجماع (ص51) مسألة: 462.
خامسًا: هل الإشهاد على الرجعة واجب أو مستحب؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور العلماء: أبو حنيفة ومالك والشافعي في أحد قوليه وأحمد إلى أن الإشهاد على الرجعة مستحب.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 228].
حيث جعل الزوج أحق بردها، فلو افتقر إلى رضاها لكان الحق لها،.
أن الإشهاد على الطلاق ليس بواجب، فالإشهاد على الرجعة استحبابًا أولى.
ولأن الرجعة لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة، لأن الرجعة لا تفتقر إلى ولي ولا صداق ولا رضا المرأة ولا علمها، فلما لم يعتبر فيها شروط النكاح لم يعتبر فيها الشهادة.
ولأنها رفع تحريم طرأ على النكاح فأشبه الظهار.
ولأن البيع أوكد منها لاعتبار القول فيه دونها، فلما لم تجب الشهادة في البيع، فالرجعة من باب أولى.
وحملوا قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ على الاستحباب.
القول الثاني: ذهب الشافعي في أحد قوليه وابن حزم إلى وجوب الإشهاد في الرجعة.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا﴾ قالوا: إن الأمر في الآية للوجوب.
لأنه عقد يستباح به بضع المرأة، فوجب فيه الشهادة كالنكاح- الحاوي (10/319).
أولًا: من قال باستحباب الإشهاد على الرجعة:
قال السرخسي في المبسوط (6/22):
والمراد بالآية الاستحباب، ألا ترى أنه جمع بين الرجعة والفرقة وأمر بالإشهاد عليهما، ثم الإشهاد على الفرقة مستحب لا واجب، فكذلك على الرجعة، وهو نظير قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ ۚ﴾ [البقرة: 282]، ثم البيع صحيح من غير إشهاد، وليس في الرجعة عوض لا قليل ولا كثير لأنه استدامة للملك فلا يستدعي عوضًا، ولهذا لا يعتبر فيه رضاها ولا رضا الولي، ولأن الله تعالى جعل الزوج أحق بذلك… وساق الآية في سورة البقرة كما تقدم.
جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (9/330):
وندب للزوج الإشهاد على الرجعة، وأصابت من منعت نفسها من الزوج له؛ أي: لأجل الإشهاد فتثاب على ذلك.
ويسن الإشهاد على الرجعة وليس شرطًا فيها؛ لأنها لا تفتقر إلى قبول فلم تفتقر إلى شهادة، وجملة ذلك أن الرجعة لا تفتقر إلى ولي ولا صداق ولا رضا المرأة ولا علمها، وهي – أي: الرجعية – زوجة يملك منها ما يملكه ممن لم يطلقها.
تصح الرجعة من غير ولي وبغير رضاها وبغير عوض؛ لقوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ فجعل الزوج أحق بردها، فلو افتقر إلى رضاها لكان الحق لها.
ثانيًا: من قال بوجوب الإشهاد على الرجعة:
قال الماوردي في الحاوي (10/319):
أما الرجعة: فلا تفتقر إلى ولي، ولا إلى قبول الزوجة ويجوز للزوج أن ينفرد بها.
وهل تفتقر إلى شهادة وتكون شرطًا في صحتها أو لا؟ على قولين:
أحدهما: قاله في الإملاء أن الشهادة في الرجعة واجبة مع التلفظ بها، فإن لم يشهد كانت الرجعة باطلة؛ لقول الله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ فهذا أمر واقتضى الوجوب، ولأنه عقد يستباح به بضع الحرة، فوجب فيه الشهادة كالنكاح.
القول الثاني: نص عليه في القديم والجديد، أنها مستحبة ليست بواجبة؛ لأنه لما لم يعتبر فيها شروط النكاح في غير الشهادة من الولي والقبول – لم يعتبر فيها الشهادة، ولأنها رفع تحريم طرأ على النكاح فأشبه الظهار.
ولأن البيع أوكد منها لاعتبار القول فيه دونها، ثم لم تجب الشهادة في البيع، فكان بأن لا تجب لاعتبار القبول فيه دونها، ثم لم تجب الشهادة في البيع فكان أن لا تجب في الرجعة أولى.
فأما قوله تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ فهو عطف على الرجعة في قوله: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق: 2]، وعلى الطلاق في قوله: ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ﴾ ثم لم تجب في الطلاق وهو أقرب المذكورين فكانت بأن لا تجب في الرجعة لبعدها أولى، فعلى هذا تكون الشهادة عليها ندبًا إن لم تشهد صحت الرجعة.
فإن راجعها ولم يشهد، فليس مراجعًا لقول الله تعالى… وساق الآية كما في سورة الطلاق ثم قال: فرق عز وجل بين المراجعة والطلاق والإشهاد، فلا يجوز إفراد بعض ذلك عن بعض، وكان من طلق ولم يشهد ذوي عدل أو راجع ولم يشهد ذوي عدل متعديًا لحدود الله تعالى.
تعقيب وترجيح:
أرى -والله تعالى أعلم- أن الصواب في هذه المسألة أنه يجوز للزوج مراجعة زوجته بغير إذنها كما نقلنا أدلة الجمهور على ذلك، أما الإشهاد في الرجعة فالذي تطمئن له النفس أنه للاستحباب وليس للوجوب لما تقدم من أدلة أهل العلم، والذي يقوي ذلك عندي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر -رضي الله عنه- في حديث ابن عمر الذي أخرجه البخاري ومسلم: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» ولم يأمره بالإشهاد على المراجعة ولم يقل له: استئذن الزوجة للمراجعة، فالحديث صارف للآية من وجوب الشهادة إلى الاستحباب، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، والله تعالى أعلم بالصواب.
سادسًا: ما يجوز للزوج أن يطلع عليه من المطلقة الرجعية:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهب مالك والشافعي والإمام أحمد في قول إلى أن الرجعية محرمة فلا يجوز للزوج لمسها ولا النظر إليها حتى يراجعها.
القول الثاني: ذهب أبو حنيفة وأحمد في قول وابن حزم إلى جواز النظر إلى الرجعية وأن يخلو بها.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
قوله تعالى: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ فسماه الله تعالى: «بعلًا» فهي زوجة له، فجاز النظر إليها والخلوة بها وغير ذلك.
لم يأت نص بمنعه من شيء من ذلك- المحلى (10/16).
قلت: أرأيت إن طلق امرأته تطليقة يملك الرجعة هل تزين له وتشوف له؟ قال: كان قوله الأول لا بأس أن يدخل عليها ويأكل معها إذا كان معها من يتحفظ بها، ثم رجع عن ذلك فقال: لا يدخل عليها ولا يرى شعرها ولا يأكل معها حتى يراجعها، قلت: هل يسعه أن ينظر إليها أو إلى شيء من محاسنها تلذذًا وهو يريد رجعتها في قول مالك؟ قال: لم أسمع من مالك في هذا شيئًا، وليس له أن يتلذذ بشيء منها وإن كان يريد رجعتها حتى يراجعها، وهذا على الذي أخبرتك أنه يكره له أن يخلو معها أو يرى شعرها أو يدخل عليها حتى يراجعها.
جاء في الحاوي الكبير (10/308):
المطلقة طلاقًا رجعيًّا وهو أن يطلقها واحدة أو اثنتين بغير عوض، وهي مدخول بها محرمة عليه قبل الرجعة تحريم المبتوتة في الوطء والاستمتاع والنظر، وبه قال ابن عباس وعبد الله بن عمر، وهو مذهب مالك وعطاء وأكثر الفقهاء.
قال صاحب المغني (7/187):
وظاهر كلام الخرقي أن الرجعية محرمة لقوله: «وإذا لم يدر أواحدة طلق أم ثلاثًا؟ فهو متيقن للتحريم شاك في التحليل» وقد روي عن أحمد ما يدل على هذا وهو مذهب الشافعي وحكي ذلك عن عطاء ومالك، وقال القاضي: ظاهر المذهب أنها مباحة، قال أحمد في رواية أبي طالب لا تحتجب عنه، وفي رواية أبي الحارث تتشوّف له ما كانت في العدة، فظاهر هذا أنها مباحة له وله أن يسافر بها ويخلو بها ويطأها، وهذا مذهب أبي حنيفة؛ لأنها في حكم الزوجات فأبيحت له كما قبل الطلاق.
ثانيًا: من قال الرجعية غير محرمة:
جاء في التجريد للقدوري (10/ 5309):
المطلقة الرجعية زوجة، وأحكام الزوجية قائمة.
قال ابن حزم في المحلى (10/16):
في معرض كلامه عن الطلاق الرجعي: … فإذًا هي زوجته فحلال له أن ينظر منها إلى ما كان ينظر إليه منها قبل أن يطلقها وأن يطأها؛ إذ لم يأت نص بمنعه من شيء من ذلك، وقد سماه الله تعالى: «بعلًا» لها إذ يقول عز وجل: ﴿وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَٰلِكَ﴾ [البقرة: 228].
جاء في الروض المربع شرح زاد المستقنع (ص: 587):
الرجعية (زوجة) يملك منها ما يملكه ممن لم يطلقها و(لها) ما للزوجات من نفقة وكسوة ومسكن (وعليها حكم الزوجات) من لزوم مسكن ونحوه.
تعقيب وترجيح
ما ذهب إليه الأئمة – أبو حنيفة وأحمد وابن حزم وغيرهم- من جواز النظر إلى الرجعية والخلوة بها هو ما أرجحه لأنها زوجة، ولم يرد نص من الكتاب أو السنة، ولم ينعقد الإجماع على تحريم الرجعية على الزوج، هذا والله تعالى أعلم.