فقه المرأة في رمضان
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فهذه بعض الأحكام المتعلقة بفقه المرأة في رمضان عسى الله تعالى أن ينفع بها ويجعلها في ميزان حسناتنا.
أولًا: إذا وقع الحيض أوالنفاس قبل غروب الشمس:
إذا حاضت المرأة قبل غروب الشمس ولو بلحظات بطل صومها، وهذا مما أجمع عليه أهل العلم، لأن من المعلوم أن الحيض والنفاس من مبطلات الصيام، ولا فرق إن وقع أول النهار أو أوسط النهار أو قبل غروب الشمس ولو بلحظات، وعلى هذا فيكون عليها قضاء هذا اليوم.
ثانيًا: إذا انقطع دم الحيض أو النفاس قبل الفجر:
إذا انقطع دم الحيض أو النفاس قبل الفجر ونوت المرأة الصوم قبل طلوع الفجر فصيامهما صحيح ولا يتوقف صحة صومهما على الغسل.
والدليل على ذلك:
1- قوله تعالى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ﴾ [البقرة: 187].
فلما أباح المباشرة إلى تبين الفجر، علم أن الغسل إنما يكون بعده- المغني (3/149).
2- عن عائشة وأم سلمة _رضي الله عنهما_ أن رسول الله ﷺ كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم- [أخرجه البخاري (1926)، ومسلم (1109)].
فإذا كان الجنب يغتسل بعد الفجر ويصح صومه فكذا الحائض سواء بسواء- المغني (3/149).
ثالثًا: إذا أصبحت المرأة جنبًا صح صومها.
والدليل على ذلك: ما روي عن عائشة وأم سلمة _رضي الله عنهما_ أن رسول الله ﷺ كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم- [أخرجه البخاري (1926)، ومسلم (1109)].
رابعًا: الحامل أو المرضع إذا لم يطيقا الصوم:
إذا شق على الحامل أو المرضع الصوم أو خافتا على أنفسهما أو على أولادهما فلهما الفطر:
واختلف الفقهاء فيما يجب عليهما، هل يجب عليهما القضاء، أم الإطعام، أم كليهما، أم لا يجب عليهما شيئًا على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن عليهما القضاء، وإليه ذهب أبو حنيفة والشافعي وأحمد.
وحجتهم: قياس الحامل والمرضع على المريض قال تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ ) [البقرة: 184].
القول الثاني: أن عليهما الإطعام، وهذا مذهب ابن عباس رضي الله عنهما.
وحجته: الآية الكريمة: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ ) [البقرة: 184]، قال ابن عباس: الآية ليست منسوخة.
وحديث ابن عباس وفيه: «إذا خافت الحامل على نفسها والمرضع على ولدها في رمضان قال: يفطران ويطعمان مكان كل يوم مسكينًا، لا يقضيان صوما»– [أخرجه الدارقطني (2360)، والبيهقي (6/253)، وصححه الألباني – رحمه الله – في الإرواء (4/19)].
القول الثالث: ليس عليهما قضاء ولا إطعام، وهذا مذهب الإمام ابن حزم الظاهري.
وحجته: براءة الذمة، ولأن الله تعالى لم يوجب القضاء إلا على المريض والمسافر والحائض والنفساء ومتعمد القيء، ولم يوجبه على الحامل أو المرضع، كما أنه لا نصَّ ولا إجماع على وجوب الفدية.
تعقيب وترجيح:
والذي تطمئن إليه النفس وينشرح له الصدر في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة أبو حنيفة والشافعي وأحمد من وجوب القضاء على الحامل والمرضع إذا لم تطيقا الصوم وخافتا على أنفسهما. قال الله تعالى: (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ ) [البقرة: 184].
فالحامل والمرضع في حكم المريض كما قال أهل العلم، أما إذا أفطرتا خوفًا على أولادهما فالذي تطمئن إليه النفس أن عليهما القضاء فقط وليس عليهما فدية مع القضاء.
وهذا ما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم والذي يقوي هذا عندي أنه لم يأت نصٌّ ولا إجماع يوجب عليهما الفدية مع القضاء، وأيضا قول رسول الله ﷺ: «إن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة، وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام»، [صحيح النسائي (2315)، والبيهقي (8172)، وصحيح الترمذي (715)، وابن ماجه (1676)، والإمام أحمد في المسند (31/392)، والطبراني في المعجم الكبير (764)، وابن خزيمه (2043)].
فالحامل والمرضع تفطران بعذر وعندهم رخصة وعلى هذا لا يجب عليها إلا القضاء فقط، والله تعالى أعلم بالصواب.
خامسًا: هل يجوز للمرأة صوم الستة من شوال قبل قضاء ما عليها من صيام رمضان؟
لم يرد في هذه المسألة نص من كتاب أو سنة ولم ينعقد الإجماع على شيء صريح، ولكن قال بعض أهل العلم: لا يجوز صيام الستة أيام من شوال قبل قضاء رمضان وحجتهم قول رسول الله ﷺ: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال» [أخرجه مسلم (1164)]، قالوا: الذي عليه صوم من رمضان لا يقال له صام رمضان لأنه لم يكمل عدة رمضان فلا يحصل له ثواب من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال.
ويرد على هذا القول من عدة وجوه:
الأول: أن صوم رمضان معلق في ذمتها، فإذا صامت ستًا من شوال ثم قضت ما عليها من صوم رمضان قبل دخول رمضان آخر فقد برئت ذمتها وحصل لها ثواب صوم الدهر كما جاء في الحديث، وأيضًا الحديث ليس فيه تصريح أن القضاء يكون أولًا ثم صوم الستة ثانيًا، ولكن جاء في الحديث: «من صام رمضان» والذي يؤجل قضاء رمضان بعد أن يصوم الستة ثم يقضي ما عليه قبل دخول رمضان آخر ينطبق عليه أنه صام رمضان.
الثاني: من أفطر أكثر رمضان لعذر مرض أو نحوه وأراد أن يصوم ستًا من شوال ليحصل على ثواب صوم الدهر، فإذا قلنا له: اقض ما عليك ثم صم الستة فقد يكون في ذلك مشقة كبيرة على بعض الناس.
أيضًا من أفطر رمضان كله لعذر وقلنا له: اقض ما عليك من صوم رمضان أولا، ثم صم الستة فلن يستطع بأي حال من الأحوال؛ لأن قضاء رمضان استحوذ على شوال كله وبذلك يفوته فضل صوم الستة.
الثالث: ثبت عن عائشة _رضي الله عنها_ كما جاء في الصحيحين، أنها كانت تقضي ما عليها من رمضان في شعبان، ويبعُد عن عائشة _رضي الله عنها_ أن تترك صوم الستة من شوال ويوم عرفة ويوم عاشوراء وصيام الاثنين والخميس وصيام ثلاثة أيام من كل شهر ونحو ذلك من صيام التطوع، فهذا دليل على جواز صيام التطوع قبل قضاء رمضان، ومن ثمَّ جواز صيام الستة من شوال قبل قضاء رمضان، وإن كان الأفضل تقديم القضاء على صيام الست من شوال، والله تعالى أعلم بالصواب.
سادسًا: الحكم إذا جامع الرجل امرأته في نهار رمضان:
عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: «بينما نحن جلوس عند النبي ﷺ إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك، قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله ﷺ: هل تجد رقبة تعتقها؟، قال: لا. قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا فقال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟، قال: لا. قال: فمكث النبي ﷺ فبينا نحن على ذلك أتى النبي ﷺ بعرق فيها تمر، والعرق المكتل، قال: أين السائل؟ فقال: أنا. قال: خذها فتصدق به، فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله ﷺ؟ فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي. فضحك رسول الله ﷺ حتى بدت أنيابه ثم قال: أطعمه أهلك»– [أخرجه البخاري (1936)، ومسلم (1111)ٍ].
تنازع الفقهاء في وجوب الكفارة على المرأة على قولين:
القول الأول: الكفارة تقع على الرجل والمرأة فيلزم كل واحد منهما كفارة، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك وأحمد في أحدي الروايتين، وابن المنذر من الشافعية وغيرهم.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
حديث أبي هريرة المتقدم يدل على وجوب الكفارة على الرجل، وأما المرأة فلأنها أفسدت صومها فحكمها حكم الرجل.
ولأن النص وإن ورد في الرجل لكنه معلول بمعنى يوجد فيهما وهو
إفساد صوم رمضان فتجب الكفارة عليها بدلالة النص- بدائع الصنائع (2/147، 148).
القول الثاني: الكفارة تقع على الرجل وحده؛ وهو المشهور عن الشافعي ورواية عن أحمد وأهل الظاهر.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
حديث أبي هريرة المتقدم أمر النبي ﷺ الأعرابي بالكفارة، ولم يأمر امرأته، فدل على وجوبها على الرجل دون المرأة- سبل السلام (2/ 578).
تعقيب وترجيح:
والذي أرجحه بعد ذكر هذه الأقوال والمذاهب هو ما ذهب إليه أبو حنيفة والإمام مالك وهي إحدى الروايتين عن أحمد أن الكفارة تقع على الرجل والمرأة فتلزم كل واحد منهما كفارة، لحديث أبي هريرة المتقدم، أما المرأة فلأنها أفسدت صومها بفعلها فحكمها حكم الرجل.
وما ذهب إليه الجمهور من أن المرأة إذا أكرهت فليس عليها كفارة هو الصواب، لقول رسول الله ﷺ: «إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه»– [صحيح سنن ابن ماجه (2045) وغيره]، والله تعالى أعلم.
سابعًا: إذا تكرر الجماع هل تتكرر الكفارة؟
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء: مالك والشافعي وأحمد وداود الظاهري إلى أن الجماع إذا تكرر تتكرر الكفارة.
وحجتهم: أن كل يوم عبادة مستقلة.
القول الثاني: ذهب الحنفية إلى أن الجماع إذا تكرر فليس فيه إلا كفارة واحدة، وعليه قضاء الأيام التي جامع فيها.
وحجتهم: أن حرمة الشهر واحدة ولا تتجدد فيجب عليه أن يكفر مرة واحدة، وإن تكرر الجماع، فإن كفر ثم أفطر بجماع فعليه كفارة أخرى.
تعقيب وترجيح:
أرى – والله تعالى أعلم – أن الصواب ما ذهب إليه الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد من وجوب كفارة لكل يوم جامع فيه، لأن كل يوم مستقل عن الآخر كرمضانين وكالحجتين، وبالله التوفيق.
ثامنًا: خروج المرأة لصلاة التراويح في المسجد
يجوز للمرأة أن تخرج لصلاة التراويح إذا استأذنت زوجها ولم يترتب على خروجها فتنة:
والأدلة على ذلك كثيرة منها:
1- عن أم سلمة زوج النبي ﷺ قالت: « أَنَّ النِّسَاءَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ كُنَّ إِذَا سَلَّمْنَ مِنَ المَكْتُوبَةِ، قُمْنَ وَثَبَتَ رَسُولُ اللَّهِ r وَمَنْ صَلَّى مِنَ الرِّجَالِ مَا شَاءَ اللَّهُ، فَإِذَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَامَ الرِّجَالُ »– [أخرجه البخاري: (866)].
2- عن ابن عمر قال: “كانت امرأة لعمر تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟
قالت: وما يمنعه أن ينهاني؟ قال: يمنعه قول رسول الله ﷺ: «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ الله »– [أخرجه البخاري: (900)، ومسلم (442)].
تاسعًا: حكم اعتكاف المرأة في مسجد بيتها:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور الفقهاء: مالك والشافعي وأحمد وأهل الظاهر وغيرهم إلى أن اعتكاف المرأة لا يجوز إلا في المسجد.
واستدلواعلى ذلك بما يأتي:
قوله تعالى: (وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ۗ ) [البقرة: 187].
2- عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي ﷺ يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء فيصلي الصبح ثم يدخله، فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب خباء، فأذنت لها فضربت خباء، فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خباء آخر فلما أصبح النبي ﷺ رأى الأخبية فقال: ما هذا؟ فأخبر فقال النبي ﷺ: آلبر ترون بهن؟ فترك الاعتكاف ذلك الشهر ثم اعتكف عشرًا من شوال»– [أخرجه البخاري (2033)، ومسلم (1173)]، وهذا ما ذهب إليه.
القول الثاني: يجوز للمرأة أن تعتكف في مسجد بيتها، وإليه ذهب أبو حنيفة وبعض المالكية وبعض الشافعية.
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
حديث الأحوص عن عبد الله عن النبي ﷺ قال: «صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها»– [صحيح سنن أبي داود (750)، وابن خزيمة (1690)، والحاكم في المستدرك (757)، والبيهقي في السنن الكبرى(5361)].
المخدع: البيت الصغير الذي يكون داخل البيت الكبير، تحفظ فيه الأمتعة النفيسة- [عون المعبود (2/ 195)].
تعقيب وترجيح:
والذي أختاره في هذه المسألة وأرجحه هو ما ذهب إليه الجمهور، منهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد من أن المرأة لا يجوز لها أن تعتكف في مسجد بيتها وتعتكف في أي مسجد سواء كان تقام فيه الجمعة والجماعات أو لا، لأنه ليس فرض عليها صلاة الجماعة، والذي يقوي ذلك ما أشار إليه الإمام النووي، أن زوجات النبي ﷺ لم يعتكفن إلا في المسجد ولو كان يصح اعتكاف النساء في البيوت لدلَّهن على ذلك رسول الله ﷺ، والله تعالى أعلم.