المقالة الحادية والخمسون
باب النكاح – الأنكحة المحرمة – نكاح الشغار، نكاح المسلمين من أهل الشرك، حكم نكاح أهل الكتاب
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن الأنكحة المحرمة، وذكرنا منها: زواج المتعة، ونكاح التحليل ونستكمل الأنكحة المحرمة سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
ثالثًا: نكاح الشغار:
تعريفه:
الشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته وليس بينهما صداق- المبسوط للسرخسي (5/ 105).
حكمه:
اتفق الفقهاء على أن نكاح الشغار منهي عنه، واختلفوا هل النهي يقتضي إبطال النكاح أم لا؟
القول الأول: يصح النكاح بمهر المثل، وإليه ذهب أبو حنيفة- المبسوط للسرخسي (5/ 105).
واستدل على ذلك بما يأتي:
أن النهي عن نكاح الشغار متوجه للصداق، وفساد الصداق لا يؤثر على صحة النكاح، لأن النكاح لا يبطل بالشروط الفاسدة- المبسوط للسرخسي (5/ 105)
القول الثاني: النهي يقتضي الفساد، فيفسخ النكاح سواء قبل الدخول أو بعده، وإليه ذهب الإمام مالك والحنابلة- المدونة الكبرى (3/98)، المغني لابن قدامة (7/ 176).
واستدل على ذلك بما يأتي:
عن مالك عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ «نهى عن الشغار»- أخرجه البخاري (5112) ومسلم (1415)
وفي رواية أن النبي ﷺ قال: «لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ»- أخرجه مسلم (60 – 1415).
وجه الدلالة:
أن النبي ﷺ نهى عن الشغار، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه، والنهي هنا متوجه للصداق، وفساد الصداق موجب لفساد النكاح- المدونة الكبرى (3/98).
القول الثالث: النهي يقتضي إبطال النكاح، وإليه ذهب الشافعي- الحاوي الكبير (9/321).
واستدلوا على ذلك بما يأتي:
عن مالك عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله ﷺ «نهى عن الشغار»- أخرجه البخاري (5112) ومسلم (1415)
وفي رواية أن النبي ﷺ قال: «لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ»- أخرجه مسلم (60 – 1415).
وجه الدلالة:
أن النبي ﷺ نهى عن الشغار والنهي في الحديث متوجه إلى النكاح فيبطل النكاح – الحاوي الكبير (9/ 324).
أقوال أهل العلم في زواج الشغار:
جاء في المبسوط للسرخسي (5/ 105):
والشغار أن يقول الرجل للرجل: أزوجك أختي على أن تزوجني أختك على أن يكون مهر كل واحدة منهما نكاح الأخرى، أو قالا ذلك في ابنتيهما أو أمتيهما، ثم النكاح بهذه الصفة يجوز عندنا.
جاء في المدونة الكبرى (3/98):
قال سحنون: قلت: أرأيت إن قلت لرجل زوجني أمتك بلا مهر وأنا أزوجك أمتي بلا مهر؟
قال ابن القاسم: قال مالك: الشغار بين العبيد مثل الشغار بين الأحرار، وأرى أن يفسخ وإن دخل بها، فهذا يدلك على أن مسألتك شغار… إلى أن قال: أرأيت نكاح الشغار إذا وقع فدخلا بالنساء وأقاما معهما حتى ولدنا أولادًا أيكون ذلك جائزًا أم يفسخ؟ قال: قال مالك: يفسخ على كل حال، قلت: وإن رضي النساء بذلك فهو شغار عند مالك؟ قال: نعم.
جاء في الحاوي الكبير (9/321):
قال الشافعي رحمه الله: وإذا أنكح الرجل ابنته أو المرأة تلي أمرها الرجل على أن ينكحه ابنته أو المرأة تلي أمرها أن صداق كل واحدة منها بضع الأخرى ولم يسم لكل واحدة منهما صداقًا فهذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله ﷺ وهو مفسوخ.
قال الخرقي في مختصره مع المغني (6/452):
وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته فلا نكاح فلا نكاح بينهما وإن سموا ذلك صداقًا.
قال ابن قدامة: ولا تختلف الرواية عن أحمد في أن نكاح الشغار فاسد… واستدل بحديث ابن عمر المتقدم وغيره.
رابعًا: نكاح المسلمين من أهل الشرك:
أجمع العلماء على أنه لا يجوز زواج المسلم من المشركة ولا المشرك من المسلمة، واستثني من ذلك نساء أهل الكتاب.
قال تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ وَلَأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ۗ وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ ۗ أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۖ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ } [البقرة: 221].
وقال سبحانه: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ۚ وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ۚ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].
قال ابن جرير في جامع البيان (2/513):
بعد أن حكى جملة من أقوال أهل العلم في تفسير آية سورة البقرة… وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة من أن الله تعالى ذكره عني بقوله: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ }من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات وإن الآية عام ظاهرها خاص باطنها لم ينسخ منها شيء، وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها وذلك أن الله تعالى ذكره أحل بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، للمؤمنين من نكاح محصناتهن، مثل الذي أباح لهم من نساء المؤمنات.
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (3/75):
وعلى هذا تأويل جماعة العلماء في قول الله تعالى: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ } أنهن الوثنيات والمجوسيات، لأن الله تعالى قد أحل الكتابيات بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ… إلى أن قال: وقوله تعالى: {وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ} أي: لا تزوجوا المسلمة من المشرك، وأجمعت الأمة على أن المشرك لا يطأ المؤمنة بوجه.
قال ابن كثير في تفسيره (4/429):
وقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ ۖ} فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقينًا، {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ } هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين، وقد كان جائزًا في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة… إلى أن ذكر قول الله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} تحريم من الله _عز وجل_ على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن.
خامسًا: حكم نكاح أهل الكتاب:
أجمعت الأمة على عدم جواز زواج المسلمة من مشرك وإن كان من أهل الكتاب (اليهود والنصارى).
والدليل على ذلك:
قول الله تعالى: {وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ} [البقرة: 221]، وقوله تعالى: {لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ ۖ }
وأباح جمهور أهل العلم زواج المسلم من الكتابية.
وحجتهم في ذلك:
أن الله تعالى قال: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ } ثم استثنى نساء أهل الكتاب فقال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5].
أقوال أهل العلم في المسألة:
قال السرخسي في المبسوط (4/ 210):
ولا بأس بأن يتزوج المسلم الحرة من أهل الكتاب لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] الآية.
قال الزرقاني في شرح الموطأ (3/179):
قال مالك: لا يحل نكاح أمة يهودية ولا نصرانية لأن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه {وَالْمُحْصَنَاتُ } الحرائر {مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} الحرائر {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} حل لكم أن تنكحوهن (فهن الحرائر من اليهوديات والنصرانيات) فالمراد بالكتاب التوراة والإنجيل لا المجوس… إلى أن قال: كذا يحرم نكاح نساء سائر الكفار الحرائر غير اليهود والنصارى، كعبدة شمس وقمر وصور ونجوم ومعطلة وزنادقة وباطنية وفرق بين الكتابية وغيرها بأن غيرها اجتمع فيه نقص الكفر في الحال وفساد الدين في الأصل، والكتابية فيها نقص واحد وهو كفرها في الحال.
جاء في روضة الطالبين (5/472):
الكفار ثلاثة أصناف:
أحدها: الكتابيون: فيجوز للمسلم مناكحتهم سواء كانت الكتابية ذمية أو حربية، لكن تكره الحربية وكذا الذمية على الصحيح، لكن أخف من كراهة الحربية، والمراد بالكتابيين: اليهود والنصارى.
قال ابن قدامة في المغني (6/414):
ليس بين أهل العلم بحمد الله اختلاف في حل حرائر نساء أهل الكتاب ومما روي عنه ذلك عمر وعثمان وطلحة وحذيفة وسلمان وجابر وغيرهم.
قال ابن المنذر: ولا يصح عن أحد من الأوائل أنه حرم ذلك، وروى الخلاد بإسناده أن حذيفة وطلحة والجارود بن المعلى وأذينة العبدي تزوجوا نساء أهل الكتاب وبه قال سائر أهل العلم.
وحرمته الإمامية تمسكًا بقوله تعالى: {وَلَا تُنكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُوا ۚ} [البقرة: 221]. وقوله: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10].
ولنا: قول الله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5]، وإجماع الصحابة.
فأما قوله سبحانه: {وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ۚ } [البقرة: 221] فروي عن ابن عباس أنها نسخت بالآية التي في سورة المائدة وكذلك ينبغي أن يكون ذلك في الآية الأخرى لأنهما متقدمتان والآية التي في آخر المائدة متأخرة عنهما، وقال آخرون ليس هذا نسخًا فإن لفظ المشركين بإطلاقه لا يتناول أهل الكتاب بدليل قوله سبحانه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ} [البينة: 1]… وذكر آيات أخر ثم قال: وسائر القرآن يفصل بينهما.