>> المقالة الثانية والثلاثون: باب النكاح وأحكام النكاح
فقه المرأة
باب النكاح – المقالة الثانية والثلاثون
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
انتهينا بفضل الله تعالى من فقه المرأة في الحج، ونبدأ في فقه المرأة في النكاح سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
أولًا: تعريف النكاح:
النكاح لغة:
قَالَ الأَزهري: أَصل النِّكَاحِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْوَطْءُ، وَقِيلَ لِلتَّزَوُّجِ نِكَاحٌ لأَنه سَبَبٌ لِلْوَطْءِ الْمُبَاحِ- لسان العرب (2/ 626).
قال ابن فارس: النُّونُ وَالْكَافُ وَالْحَاءُ أَصْلٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْبِضَاعُ. وَنَكَحَ يَنْكِحُ. وَامْرَأَةٌ نَاكِحٌ فِي بَنِي فُلَانٍ، أَيْ ذَاتِ زَوْجٍ مِنْهُمْ. يُقَالُ نَكَحْتُ: تَزَوَّجْتُ. وَأَنْكَحْتُ غَيْرِي- مقاييس اللغة (5/ 475).
النكاح شرعًا:
حل استمتاع الرجل من امرأة لم يمنع من نكاحها مانع شرعي- الدر المختار (ص: 177).
ثانيًا: الترغيب في النكاح:
جاء في كتاب الله آيات تحث على الزواج وترغب فيه وتدل على أنه آية من آيات الله ومنة عظيمة من الله تفضل بها على عباده.
قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم: 21].
وقال تعالى:اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل: 72].
وقد أمر الله تعالى الأولياء بإنكاح من تحت ولايتهم من الأيامى وهم: من لا أزواج لهم من رجال ونساء، ثيب وأبكار، ووعد سبحانه المتزوج بالغنى بعد الفقر.
قال تعالى :وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ ۚ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
[النور: 32].
وكذا، جاءت السنة بالترغيب في النكاح:
– عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله : «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ»-أخرجه البخاري (5065) ومسلم (1400).
الباءة:
أصلها في اللغة: الجماع، مشتقة من المباءة وهي المنزل، ومنه مباءة الإبل وهي مواطنها، ثم قيل لعقد النكاح: باءة، لأن من تزوج امرأة بوأها منزلاً- مقاييس اللغة (1/ 312)، لسان العرب (1/ 36).
الوجاء:
هو رض الخصيتين، والمراد هنا: أن الصوم يقطع الشهوة ويقطع شر المني كما يفعله الوجاء – مسلم بشرح النووي (5/188).
– وعن ابن عمرو، أن رسول الله قال: «الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِ الدُّنْيَا الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ»- أخرجه مسلم (1467).
ثالثًا: حكمة النكاح:
الله تبارك وتعالى حكيمٌ عليمٌ ومن تمام حكمته ألا يأمر بشيء
-سواء كان واجبًا أو مستحبًا- إلا وكان في هذا الأمر مصلحة كاملة أو راجحة.
*وفوائد النكاح كثيرة منها:
أنه سبب لوجود النوع الإنساني، ومنها قضاء الوطر بنيل اللذة والتمتع بالنعمة وهذه هي الفائدة التي في الجنة إذ لا تناسل فيها، ومنها غض البصر وكف النفس عن الحرام وغير ذلك- عون المعبود (6/28).
والوطر: كل حاجة كان لصاحبها فيها همة – اللسان (9/340).
أيضًا من حكم الزواج طيب نفس نبينا يوم القيامة بكثرة أمته وسيأتي الحديث، ومنها إذا كان الإنسان يدعو إلى الله فهو في أشد الحاجة إلى ولد يقوم بعد موته مقامه في الدعوة إلى الله والنصح لعباده، ومنها دعاء الولد لوالده بعد انقطاع عمله بالموت.
– عن معقل بن يسار قال: جاء رجل إلى النبي فقال: إني أصبت امرأة ذات حسب وجمال وإنها لا تلد، أفأتزوجها، قال: «لا، ثم أتاه الثانية فنهاه ثم أتاه الثالثة، فقال: تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ»- صحيح سنن أبي داود (2050) وصحيح ابن ماجه (1863) وصحيح النسائي (3277).
– وعن أبي هريرة أن رسول الله قال: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»- أخرجه مسلم (1631).
والأدلة في هذا الباب من كتاب الله وسنة رسول الله r كثيرة، لم أذكر إلا بعضًا منها خشية الإطالة.
رابعًا: حكم الزواج:
قال الله تعالى: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا [النساء: 3].
– عن عبد الله أن رسول الله r قال: « يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ »– أخرجه البخاري (5065) ومسلم (1400).
– وعن أنس « أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ سَأَلُوا أَزْوَاجَ النَّبِيِّ عَنْ عَمَلِهِ فِي السِّرِّ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا آكُلُ اللَّحْمَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ فَقَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ قَالُوا كَذَا وَكَذَا؟ لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»- أخرجه مسلم (1401).
اختلف الفقهاء في حكم النكاح هل هو واجب أم مستحب؟ والجمهور على استحبابه.
قال الكاساني في بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 228)
بعد أن ساق حديث عبد الله المتقدم: قال: أقام الصوم مقام النكاح، والصوم ليس بواجب فدل أن النكاح ليس بواجب أيضًا، لأن غير الواجب لا يقوم مقام الواجب.
ولأن في الصحابة – رضي الله عنهم – من لم تكن له زوجة، ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – علم منه بذلك ولم ينكر عليه، فدل أنه ليس بواجب.
قال ابن رشد القرطبي في المقدمات الممهدات (1/ 452)
بعد أن ساق الأدلة على أن النكاح مستحب وليس بواجب، قال:
فإذا ثبت بهذه الأدلة أن النكاح غير واجب علم أن الأوامر الواردة في القرآن بالنكاح في قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، وقوله: {وَأَنْكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32] ليست على الوجوب. وإذا لم تكن على الوجوب فهي على الندب لا على الإباحة. والدليل على ذلك حض رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على النكاح ونهيه عن التبتل وهو ترك النكاح.
قال الإمام النووي في شرح مسلم (5/189):
بعد أن ساق حديث عبد الله المتقدم، قال: وفي هذا الحديث الأمر بالنكاح لمن استطاع وتاقت إليه نفسه، وهذا مجمع عليه، لكنه عندنا وعند العلماء كافة أمر ندب لا إيجاب، فلا يلزم التزوج والتسري، سواء خاف العنت أم لا، هذا مذهب العلماء كافة ولا يُعلم أحد أوجبه إلا داود ومن وافقه من أهل الظاهر ورواية عن أحمد، فإنهم قالوا: يلزمه إذا خاف العنت أن يتزوج أو يتسرى، قالوا وإنما يلزمه في العمر مرة واحدة، ولم يشترط بعضهم خوف العنت…
واحتج الجمهور بقوله تعالى: فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ فخيره سبحانه وتعالى بين النكاح والتسري.
قال الإمام المازي:
هذا حجة للجمهور؛ لأنه سبحانه وتعالى خيره بين النكاح والتسري بالاتفاق، ولو كان النكاح واجبًا لما خيره بينه وبين التسري؛ لأنه لا يصح عند الأصوليين التخيير بين واجب ومستحب، لأنه يؤدي إلى إبطال حقيقة الواجب وأن تاركه لا يكون آثمًا.
أما قوله r «فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» فمعناه: من رغب عنها إعراضًا عنها غير معتقد لها على ما هي عليه، والله أعلم.
قال المرداوي في الإنصاف (8/7) باختصار:
إن الناس في النكاح ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من له شهوة ولا يخاف الزنا، فهذا النكاح في حقه مستحب على الصحيح من المذهب، نص عليه وعليه جماهير الأصحاب.
القسم الثاني: من ليس له شهوة كالعنين ومن ذهبت شهوته لمرض أو كبر أو غيره.
فعموم كلام المصنف هنا أنه سنة في حقه أيضًا.
والقول الثاني: هو من حقهم مباح، وهو الصحيح من المذهب.
القسم الثالث: من خاف العنت، فالنكاح في حقه واجب قولاً واحدًا، إلا أن ابن عقيل ذكر رواية أنه غير واجب.ا.هـــــــ
العنين الذي لا يأتي النساء – لسان العرب (6/484).
تعقيب وترجيح:
أرى -والله تعالى أعلم- أن الصحيح في هذه المسألة هو ما ذهب إليه الجمهور من أن النكاح سنة لما تقدم من الأدلة المقتضية للترغيب في مطلق النكاح.
أما من خشي العنت وهو الوقوع في الزنا وكان لديه مؤنة الزواج فيلزمه إعفاف نفسه كما ذهب إلى ذلك الحنابلة وغيرهم، عملاً بالقاعدة الفقهية «الوسائل لها أحكام المقاصد»، فالوسيلة إلى واجب واجب والوسيلة إلى مستحب مستحب، فعدم الوقوع في الزنا واجب والوسيلة إلى ذلك النكاح فأصبح النكاح واجبًا لمن كانت تلك حالته ولديه مؤنة.
مجلة التوحيد- الثانية والثلاثون من فقه المرأة
للدكتورة/ أم تميم عزة بنت محمد
الموقع الرسمي لأم تميم
www.omtameem.com