باب النكاح
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن مقدار النفقة، وحسن معاشرة المرأة، وحث الزوج الزوجة على فعل الخير، وخروج النساء لحوائجهن، ونستكمل فقه النكاح سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
أولًا: تحريم إفشاء سر الزوجة:
عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا»– أخرجه مسلم (1437).
جاء في سبل السلام (3/206):
والحديث دليل على تحريم إفشاء الرجل ما يقع بينه وبين امرأته من أمور الوقاع ووصف تفاصيل ذلك وما يجري من المرأة فيه من قول أو فعل ونحوه وأما مجرد ذكر الوقاع فإذا لم يكن لحاجة فذكره مكروه لأنه خالف المروءة وقد قال ﷺ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»– أخرجه البخاري (6018) ومسلم (47).
فإن دعت إليه حاجةٌ أو ترتبت عليه فائدةٌ، بأن كان ينكر إعراضه عنها أو تدعي عليه العجز عن الجماع أو نحو ذلك فلا كراهة في ذكره كما قال: «إني لأفعله أنا وهذه» وقال لأبي طلحة: «أعرستم الليلة» أخرجه البخاري (5470)، ومسلم (2144).
وقال لجابر: «الكيس الكيس»، وكذلك المرأة لا يجوز لها إفشاء سره وقد ورد به نص أيضًا.
ثانيًا: إتيان الرجل زوجته:
الوطء حق من الحقوق الزوجية، فهو حق للزوجة كما هو حق الرجل. قال الله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ}[البقرة: 222].
ذهب جمهور أهل العلم إلى وجوب الوطء؛ لأنه حق من حقوق الزوجة، وهذا مذهب مالك وأحمد وشيخ الإسلام وغيرهم.
ومذهب الشافعي أنه ليس واجبًا وحجته أنه حق له فجاز له تركه.
أقوال أهل العلم:
جاء في شرح المهذب (18/131):
قلنا: إن الوطء ليس واجبًا عندنا، لأنه حق له فلا يجب عليه كسائر الحقوق.
وقال أحمد ومالك: الوطء واجب على الرجل إلا أن يكون له عذر.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (32/271):
يجب على الرجل أن يطأ زوجته بالمعروف، وهو من أوكد حقها عليه وأعظم من إطعامها.
والوطء الواجب قيل: إنه واجب في كل أربعة أشهر مرة. وقيل بقدر حاجتها وقدرته، كما يطعمها بقدر حاجتها وقدرته، وهذا أصح القولين، والله أعلم.
قال العلامة السيوطي: في شرح غاية المنتهي (7/267):
ويلزمه: أي الزوج وطء زوجته مسلمة كانت أو كافرة، حرة أو أمة بطلبها في كل ثلث سنة مرة إن قدر على الوطء نصًا، لأن الله تعالى قدره في أربعة أشهر في حق المولى وكذا في حق غيره، لأن اليمين لا توجب ما حلف عليه فدل أن الوطء واجب بدونها.
تعقيب وترجيح:
أرى -والله تعالى أعلم- أن الصواب مع جمهور أهل العلم من أن الوطء واجب وأنه حق من حقوق الزوجة لأنه إذا لم يجامعها لم يأمن منها الفساد وربما كان سببًا للعداوة والبغضاء بينهما.
ثالثًا: ما يقول الرجل إذا أتى أهله:
إذا أراد الزوج أن يأتي امرأته سُنَّ له أن يسمي ويستعيذ بالله من الشيطان لما رواه البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: قال النبي ﷺ: «أَمَا لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ يَقُولُ حِينَ يَأْتِي أَهْلَهُ بِاسْمِ اللهِ اللَّهُمَّ جَنِّبْنِي الشَّيْطَانَ وَجَنِّبْ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا ثُمَّ قُدِّرَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ أَوْ قُضِيَ وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْطَانٌ أَبَدًا»- أخرجه البخاري (5165)، ومسلم (1434).
رابعًا: حكم إتيان المرأة في دبرها:
قال تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ ۖ } [البقرة: 223].
– عن أبي هريرة _رضي الله عنه_ قال: قال رسول الله ﷺ: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا»– رواه أبو داود وصححه الألباني في صحيح أبي داود (2162)، قال الحافظ في بلوغ المرام: إن رجال حديث أبي هريرة هذا ثقات لكن أعل بالإرسال – النيل (6/238).
– وعن عمارة بن خزيمة عن أبيه، أن رسول الله ﷺ قال: «إِنَّ اللهَ لَا يَسْتَحِي مِنْ الْحَقِّ لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ»– أخرجه أحمد في المسند (5/213)، وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1924)، والطحاوي في شرح المعاني (2/404)، والدارمي (2231).
– وعن أبي هريرة _رضي الله عنه_ أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ أَتَى حَائِضًا أَوْ امْرَأَةً فِي دُبُرِهَا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ بَرئ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ عليه الصلاة والسلام»– أخرجه الطحاوي في شرح المعاني (4328)، وأحمد في المسند (9292).
– ذهب جمهور العلماء من السلف والخلف إلى تحريم إتيان المرأة في دبرها للأحاديث الصريحة التي جاءت بذلك وإن كان أهل العلم اختلفوا في تصحيحها إلا أن العمل عليها عند أكثر أهل العلم، أيضًا استُدل لقولهم بأن الله تعالى حرم وطء المرأة الحائض لأجل الأذى فكان الدبر أولى بالتحريم؛ لأنه أعظم أذى، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وابن حزم وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والشوكاني وغيرهم.
وقال بعض أهل العلم يجوز إتيان المرأة في دبرها وحجتهم قول الله تعالى كما تقدم أول المسألة، وهذا ما ذهب إليه ابن عمر وموافقوه.
أقوال أهل العلم في المسألة:
قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (3/96، 97) باختصار:
وذكر الحرث يدل على أن الإتيان في غير المأتى محرم و«حرث» تشبيه لأنه مزدرع الذرية، فلفظ «الحرث» يعني أن الإباحة لم تقع إلا في الفرج خاصة….
قوله تعالى: {أَنَّىٰ شِئْتُمْ} معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمة الفتوى: من أي وجه شئتم مقبلة ومدبرة، كما ذكرنا آنفا… إلى أن قال: وذهبت فرقة ممن فسرها بـ «أنى» إلى أن الوطء في الدبر مباح وممن نسب إليه هذا القول: سعيد بن المسيب ونافع وابن عمر ومحمد بن كعب القرظي وعبد الملك بن الماجشون، وحُكي ذلك عن مالك في كتاب له يسمى كتاب «السر», وحذاق أصحاب مالك ومشايخهم ينكرون ذلك الكتاب، ومالك أجل من أن يكون له كتاب سر.
وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر أن العلماء لم يختلفوا في الرتقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب تُرد به إلا شيء جاء عن عمر بن عبد العزيز من وجه ليس بقوي أنه لا ترد الرتقاء ولا غيرها، والفقهاء كلهم على خلاف ذلك؛ لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدبر ليس بموضع وطء ولو كان موضعًا للوطء ما ردت من لا يوصل إلى وطئها في الفرج… وما نسب إلى مالك وأصحابه من هذا باطل وهم مبرءون من ذلك؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بالحرث لقوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ}، ولأن الحكمة في خلق الأزواج بث النسل فغير موضع النسل لا يناله ملك النكاح وهذا هو الحق.
قال الطحاوي في شرح معاني الآثار (2/407):
بعد أن ساق جملة من الآثار: وما في هذا الباب عن أصحاب رسول الله ﷺ ورضي عنهم وتابعيهم في موافقة هذا المعنى إلى هنا فأكثر من أن يستقصى ولكنا حذفنا ذلك من كتابنا لكثرته وطوله، فلما تواترت هذه الآثار عن رسول الله ﷺ بالنهي عن وطء المرأة في دبرها ثم جاء عن أصحابه وعن تابعيهم ما يوافق ذلك وجب القول به وترك ما يخالفه.
وهذا أيضًا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد -رحمة الله عليهم أجمعين- والله أعلم بالصواب.
قال الماوردي في الحاوي (9/317):
اعلم أن مذهب الشافعي وما عليه الصحابة وجمهور التابعين والفقهاء أن وطء النساء في أدبارهن حرام.
وفي (ص: 318) قال: ودليلنا قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ }[البقرة: 222]. فحرم الوطء في الحيض لأجل الأذى فكان الدبر أولى بالتحريم لأنه أعظم أذى، ثم قال:{فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ ۚ} [البقرة: 222]، يعني في القبل فدل ذلك على تحريم إتيانها في الدبر.
جاء في الإنصاف (8/346):
قوله: ولا في الدبر، وهذا أيضًا بلا نزاع بين الأئمة، ولو تطاوعا على ذلك فرق بينهما.
ويُعزر العالم بالتحريم منهما ولو أكرهها الزوج عليه نهي عنه، فإن أبى فرق بينهما – ذكره ابن أبي موسى وغيره.
قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (32/266):
وأما إتيان النساء في أدبارهن فهذا محرم عند جمهور السلف والخلف كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة، وهو المشهور في مذهب مالك اهـ.
وإلى القول بتحريم إتيان المرأة في دبرها ذهب ابن حزم في المحلى (9/220) وابن القيم، نقل عنه هذا القول ووافقه عليه الشوكاني في النيل (6/240).
خامسًا: ما يحل للزوج من الحائض:
– عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوه في البيوت، فسأل أصحاب النبي ﷺ فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ ۖ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ ۖ } [البقرة: 222] إلى آخر الآية، فقال رسول الله ﷺ: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ» فَبَلَغَ ذَلِكَ الْيَهُودَ فَقَالُوا: مَا يُرِيدُ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَدَعَ مِنْ أَمْرِنَا شَيْئًا- أخرجه مسلم (302).
– وعن عائشة، قالت: «كَانَ إِحْدَانَا إِذَا كَانَتْ حَائِضًا أَمَرَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ فَتَأْتَزِرُ بِإِزَارٍ ثُمَّ يُبَاشِرُهَا»- أخرجه البخاري (300) ومسلم (293).
– وعن ميمونة، قالت: كان رسول الله ﷺ يُبَاشِرُ نِسَاءَهُ فَوْقَ الْإِزَارِ وَهُنَّ حُيَّضٌ- أخرجه البخاري (303) ومسلم (294).
اعلم أن مباشرة الحائض أقسام:
أحدها: أن يباشرها بالجماع في الفرج، فهذا حرام بإجماع المسلمين لأنه نص القرآن والسنة الصحيحة.
القسم الثاني: المباشرة فيما فوق السرة وتحت الركبة، وهو حلال باتفاق العلماء للأحاديث الصريحة في ذلك.
القسم الثالث: مباشرة الحائض كيف شاء دون الجماع في الفرج وحجة أصحاب هذا القول حديث أنس المتقدم وفيه أن رسول الله ﷺ قال: «اصْنَعُوا كُلَّ شَيْءٍ إِلَّا النِّكَاحَ»- أخرجه مسلم (302)، وحملوا الأحاديث التي جاءت بجواز مباشرة ما فوق الإزار على الاستحباب وهذا مذهب أحمد بن حنبل وأهل الظاهر.
وذهب أكثر أهل العلم منهم الأئمة الثلاثة مالك وأبو حنيفة والشافعي إلى أنه يحل له ما فوق الإزار منها، وحجتهم الأحاديث التي جاءت بذلك كما ذكرنا أول المسألة.
أقوال أهل العلم:
قال الطحاوي في شرح المعاني (2/399):
بعد أن ساق جملة من الآثار… فكان في ذلك دليل على المنع من جماع الحيض تحت الإزار، أن ما فيه من كلام رسول الله ﷺ وذكره ما فوق الإزار فإنما هو جواب لسؤال عمر _رضي الله عنه_ إياه (مَا لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ إِذَا كَانَتْ حَائِضًا؟). فقال له “ما فوق الإزار، فكان ذلك جواب سؤاله لا نقصان فيه ولا تقصير… ثم ساق حديث أنس، قال: ففي حديث أنس _رضي الله عنه_ هذا إباحة جماعها فيما دون الفرج وكان الذي في حديث عمر الإباحة لما فوق الإزار، والمنع ما تحت الإزار فاستحال أن يكون ذلك متقدمًا لحديث أنس ڕ_رضي الله عنه_ إذا كان حديث أنس _رضي الله عنه_ هو الناسخ لاجتناب الاجتماع مع الحائض ومواكلتها ومشاربتها، فثبت أنه متأخر عنه وناسخ لبعض الذي أبيح فيه.
فثبت بذلك ما ذهب إليه أبو حنيفة رحمة الله عليه.
قال الشافعي في الأم (1/129):
ودلت سنة رسول الله ﷺ على اعتزال ما تحت الإزار منها وإباحة ما سوى ذلك منها.
وفي المدونة الكبرى (1/153):
قال مالك: في الحائض لتشد عليها إزارها ثم شأنه بأعلاها، قلت: ما معنى قول مالك ثم شأنه بأعلاها؟ قال: سُئل مالك عن الحائض أيجامعها زوجها فيما دون الفرج فيما بين فخذيها؟ قال: لا ولكن شأنه بأعلاها.
جاء في الإنصاف (1/330):
ويجوز أن يستمتع من الحائض بما دون الفرج، هذا المذهب مطلبًا وعليه جمهور الأصحاب.
قال أبو محمد بن حزم في المحلى (9/231):
وحلال للرجل من امرأته الحائض كل شيء حاشا الإيلاج فقط… ثم ساق مذاهب أهل العلم في ذلك، قال: قد بينا سقوط جميع الأقوال التي قدمنا إلا هذا القول وساق حديث أنس المتقدم.
تعقيب وترجيح
بعد عرض أدلة كل طائفة في المسألة، أرى أن الصواب ما ذهب إليه جماهير العلماء منهم الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد من أن مباشرة المرأة الحائض فيما فوق الإزار أي فيما فوق السرة وتحت الركبة، وذلك لأسباب منها أنه فعل النبي ﷺ كما تقدم من حديث عائشة وميمونة رضي الله عنهما ومنها أن هذا القول أقرب للتقوى وأبعد عن الوقوع في المحظور، والله تعالى أعلم وأحكم.