المقالة الثالثة والخمسون
باب النكاح_ الصداق والمتعة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد:
فقد تحدثنا في المقالة السابقة عن الحقوق الزوجية: حق الزوجة على الزوج، وذكرنا منها الصداق، ومشروعيته، وحكم الزواج دون صداق، وقدر الصداق، وتعجيل الصداق وتأجيله، ونستكمل فقه النكاح سائلين الله عز وجل أن يتقبل جهد المقل وأن ينفع به المسلمين.
متى يجب الصداق المسمى كله؟
يجب المهر المسمى في هاتين الحالتين:
1- إذا حصل البناء:
اتفق أهل العلم على أن للمرأة المهر كله إذا دخل بها الزوج دخولاً حقيقيًّا، وحجتهم قول الله تعالى: (وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا ۚ أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا) [النساء: 20-21].
قال الحافظ ابن كثير في تفسيره (1/451):
أي: إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأةً، ويستبدل مكانها غيرها فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئًا، ولو كان قنطارًا من مال، وفي هذه الآية دلالةٌ على جواز الإصداق بالمال الجزيل.
وقوله تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ) [النساء: 21] أي: كيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وأفضت إليك، قال غير واحد: يعني بذلك الجماع.
وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال للمتلاعنين بعد فراغها من تلاعنهما: «إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا كَاذِبٌ فَهَلْ مِنْكُمَا تَائِبٌ، قالها ثلاثًا، فقال الرجل: يا رسول الله مالي -يعني ما أصدقها- قال: لَا مَالَ لَكَ إِنْ كُنْتَ صَدَقْتَ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَذَبْتَ عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ لَك» أخرجه البخاري (5312) ومسلم (1493).
جاء في تبيين الحقائق (2/ 142):
قال تعالى: (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَىٰ بَعْضُكُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ) [النساء: 21] أوجب جميع المهر بعد الإفضاء وهو الخلوة؛ لأنه من الدخول في الفضاء.
جاء في الاستذكار (5/436):
قال أبو عمر: بعد أن حكي قول أبي حنيفة وموافقيه: حجة هؤلاء كلهم الآثار عن الصحابة فيمن أغلق بابًا أو أرخى سترًا أنه قد وجب عليه الصداق.
وقال الشافعي: إذا خلا بها ولم يجامعها ثم طلق فليس لها إلا نصف الصداق ولا عدة عليها، وهو قول أبي ثور وداود، وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس… إلى أن قال: وقال تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة: 237]، وقال تعالى: (فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ۖ) [الأحزاب: 49]، فأين المذهب عن كتاب الله تعالى؟ ولم يجتمعوا على أن مراد الله عز وجل من خطابه هذا غير ظاهر، ولا تعرف العرب الخلوة دون وطء مسببًا والله أعلم.
جاء في الحاوي الكبير (9/ 540):
والقسم الثالث: أن يطلقها بعد الخلوة بها وقبل الإصابة لها، فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاث مذاهب:
أحدها: وهو قول الشافعي في الجديد والمعمول عليه من مذهبه: أنه ليس لها من المهر إلا نصفه، ولا تأثير للخلوة في كمال مهر ولا إيجاب عدة.
وبه قال من الصحابة: ابن عباس، وابن مسعود.
ومن التابعين: الشعبي، وابن سيرين، ومن الفقهاء: أبو ثور.
والمذهب الثاني: أن الخلوة كالدخول في كمال المهر ووجوب العدة، وبه قال من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم.
ومن التابعين: الزهري ومن الفقهاء؛ الثوري وأبو حنيفة وبه قال الشافعي في القديم.
إلا أن أبا حنيفة يعتبر الخلوة التامة في كمال المهر ووجوب العدة بأن لا يكونا محرمين ولا صائمين.
والمذهب الثالث: أن الخلوة يد لمدعي الإصابة منهما في كمال المهر أو وجوب العدة، فإن لم يدعياها لم يكمل بالخلوة مهر ولا يجب بها عدة وهذا مذهب مالك، وبه قال الشافعي في الإملاء.
جاء في المغني لابن قدامة (7/ 248-249)
(وإذا خلا بها بعد العقد، فقال: لم أطأها وصدقته، لم يلتفت إلى قولهما، وكان حكمهما حكم الدخول، في جميع أمورهما، إلا في الرجوع إلى زوج طلقها ثلاثا، أو في الزنى، فإنهما يجلدان، ولا يرجمان) وجملة ذلك أن الرجل إذا خلا بامرأته بعد العقد الصحيح استقر عليه مهرها ووجبت عليها العدة، وإن لم يطأ. روي ذلك عن الخلفاء الراشدين وزيد، وابن عمر. وبه قال علي بن الحسين وعروة، وعطاء، والزهري، والأوزاعي، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
قضى الخلفاء الراشدون المهديون، أن من أغلق بابا، أو أرخى سترا، فقد وجب المهر، ووجبت العدة.
جاء في السيل الجرار (2/287):
أما الدخول فظاهر ولا خلاف فيه والنصوص متطابقة عليه، وأما الخلوة فلم يكن في المقام ما ينتهض للاحتجاج به، ولم يصح من المرفوع ما تقوم به الحجة… إلى أن قال: وقد قال الله عز وجل: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة: 237]، فإن كان المراد بالمس الجماع فظاهرٌ أن الخلوة ليست بجماع….
أما لزوم المهر بالوطء فأمرٌ أوضح من شمس النَّهار؛ لأنها بما استحل من فرجها.
2- إذا مات أحد الزوجين قبل البناء:
إذا مات الزوج ولم يدخل بالمرأة أو ماتت المرأة قبل البناء، حق لها الصداق.
قال ابن حزم في مراتب الإجماع (ص: 124):
واتفقوا على أن من مات أو ماتت وقد سُمِّيَ لَهَا صَدَاقٌ صَحِيْحٌ وَوَطِئَهَا أَوْ لَمْ يَطَأَهَا، فلها جميع ذلك الصداق.
متى يجب نصف الصداق؟
قال تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ۚ وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۚ وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ۚ ) [البقرة: 237].
قال الإمام الطبري في تفسيره (2/731):
وتأويل ذلك: لا جناح عليكم أيها الناس إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة، فلهن عليكم نصف ما كنتم فرضتم لهن من قبل طلاقكم إياهن، يعني بذلك: فلهن عليكم نصف ما أصدقتموهن.
جاء في العناية شرح الهداية (3/ 322):
(فإن طلقها قبل الدخول والخلوة فلها نصف المسمى لقوله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة: 237].
جاء في الاستذكار (5/430):
وقد أجمع المسلمون أن الثيبَ والبكرَ في استحقاق نصف المهر بالطلاق قبل الدخول سواء.
جاء في الحاوي الكبير (9/ 548)
الطلاق قبل الدخول لمن سمي لها مهر بالعقد أو فرض لها مهر قبل الطلاق وبعد العقد، فلها نصف المهر المسمى أو المفروض، لقوله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة: 237]
جاء في المغني لابن قدامة (7/ 273):
وكل فرقة كانت قبل الدخول بسبب الزوج، كطلاقه، وخلعه، وإسلامه، وردته، أو جاءت من أجنبي، كالرضاع، أو وطء ينفسخ به النكاح، سقط نصف المهر، ووجب نصفه.
جاء في المحلى بالآثار (9/ 73):
ومن طلق قبل أن يدخل بها فلها نصف الصداق الذي سمي لها لقوله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) [البقرة: 237]
المتعة
هي كل ما ينتفع به كالطعام والثياب وأثاث البيت، وأصل ما يتبلغ به من الزاد وهو اسم مِنْ مَتَّعْتُهُ بالتثقيل إذا أعطيته، والجمع أمتعة، ومتعة الطلاق من ذلك، ومتعتُ المطلقة بكذا إذا أعطيتها إياه؛ لأنها تنتفع به وتتمتع به-شرح المهذب (18/71).
حكمها:
اختلف الفقهاء في حكم المتعة على قولين:
القول الأول: ذهب جمهور أهل العلم: أبو حنيفة والشافعي وأهل الظاهر وغيرهم إلى وجوب المتعة.
وحجتهم في ذلك:
قول الله تعالى: (لَّا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ۚ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [البقرة: 236]، وقوله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [البقرة: 241]
القول الثاني: ذهب مالك على أن المتعة مستحبة وليست واجبة.
وحجته في ذلك:
أن الله تعالى قال: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) و (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)، ولو كانت واجبة لأطلقها على الخلق أجمعين.
أقوال أهل العلم:
قال القرطبي في تفسيره (3/198):
قوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ) معناه أعطوهن شيئًا يكون متاعًا لهن وحمله ابن عمر وعلي بن أبي طالب والحسن بن أبي الحسن وسعيد بن جبير وأبو قلابة والزهري وقتادة والضحاك بن مزاحم على الوجوب، وحمله أبو عبيد ومالك بن أنس وأصحابه والقاضي شريح وغيرهم على الندب.
تمسك أهل القول الأول بمقتضى الأمر وتمسك أهل القول الثاني بقوله تعالى: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) و(حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)، ولو كانت واجبةً لأطلقها على الخلق أجمعين، والقول الأول أولى لأن عمومات الأمر بالإمتاع في قوله: (وَمَتِّعُوهُنَّ) وإضافة الإمتاع إليهن بلام التمليك في قوله: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ) أظهر في الوجوب منه في الندب، وقوله: (عَلَى الْمُتَّقِينَ) تأكيد لإيجابها؛ لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه، وقد قال تعالى في القرآن: (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) [البقرة: 2].
قال السرخسي في المبسوط (6/70):
ولنا في ذلك قوله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة: 241]، فإن الله سبحانه وتعالى أضاف المتعة إليهن بلام التمليك ثم قال: (حَقًّا)؛ وذلك دليل وجوبه، وقال: (عَلَى الْمُتَّقِينَ) وكلمة “على” تفيد الوجوب، والمراد بالمتقين والمحسنين: المؤمنون، والمؤمن هو الذي ينقاد لحكم الشرع، وقال تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ) أمر به والأمر للوجوب، وقال تعالى: (فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [الأحزاب: 49].
جاء في شرح المهذب (18/72):
فإن المتعة واجبةٌ عندنا، وبه قال أبو حنيفة رضي الله عنه.
وقال مالك _رضي الله عنه_: هي مستحبة غير واجبة.
دليلنا قوله تعالى: (وَمَتِّعُوهُنَّ)، وهذا أمر، والأمر يقتضي الوجوب، وقوله تعالى: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) و(حَقًّا) يدل على الوجوب.
وإلى جواب المتعة ذهب ابن حزم في المحلى (10/3)، والشوكاني في السيل الجرار (2/289).
جاء في المغني لابن قدامة (7/ 241):
والمتعة تجب على كل زوج، لكل زوجة مفوضة طلقت قبل الدخول، وسواء في ذلك الحر والعبد، والمسلم والذمي، والحرة والأمة، والمسلمة والذمية.
جاء في المدونة (2/ 238):
قلت: أرأيت المطلقة إذا كان زوجها قد دخل بها وكان قد سمى لها مهرا في أصل النكاح، أيكون لها عليه المتعة في قول مالك؟ قال: نعم. عليه المتعة.قلت: فهل يجبر على المتعة أم لا؟ قال: لا يجبر على المتعة في قول مالك.
تعقيب وترجيح:
والذي اختاره في ذلك وأرجحه ما ذهب إليه جمهور أهل العلم من وجوب المتعة؛ لأن ظاهر الآية يتضمن الوجوب وجعلها الله تعالى حقًا، والله تعالى أعلم.