التوســــل
المشروع – الممنوع – شبهات والرد عليها
التوســل
في اللغةِ:
الواو والسين واللام: كلمتان متباينتان جدًّا
الأولى:
الرغبةُ والطلبُ، يقالُ: وَسَلَ، إذا رغِبَ والواسِلُ: الراغبُ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.. والأخرى: السرقةُ، يقالُ: أخذَ إبلَه توسلاً – معجم مقاييس اللغة لابن فارس (6 /110) مادة (وسل) .
قال الجوهريٌّ في الصحاح (5 /1841):
والوسيلةُ: ما يُتقرَّبُ به إلى الغيرِ، والجمعُ: الوُسُلُ والوسائلُ، والتوسيلُ والتوسُّلُ واحدٌ، يقالُ: وسلَ فلانٌ إلى ربِّه وسيلةً، وتوسلَ إليه بوسيلةٍ أي: تقرَّبَ إليه بعملٍ
قال الجرجاني في التعريفات (ص: 272):
التوسل في الاصطلاحِ: ما يُتقرَّبُ به إلى الغيرِ أو هو كلُّ سببٍ مشروعٍ يوصلُ إلى المقصودِ.
قال الراغبُ الأصفهانيُّ في المفردات (523، 524):
الوسيلةُ: التوسلُ إلى الشيءِ برغبةٍ.. وحقيقةُ الوسيلةِ إلى اللهِ تعالى: مراعاةُ سبيلِه بالعلمِ والعبادةِ، وتحرِّي مكارمِ الشريعةِ. .
اعلمْ أنَّ التوسلَ عبادةٌ من العباداتِ صرْفُها لغيرِ اللهِ شركٌ، فقد تقدَّمَ أنَّ معنى الوسيلةِ: الرغبةُ والطلبُ، والتقربُ إلى اللهِ بالعلمِ والعملِ الصالحِ لينالَ مقصودَه وحاجتَه، فلا يجوزُ التوسلُ بجاهِ أحدٍ وإن كان من الأنبياءِ- صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم- وما دونَ الأنبياءِ من الأولياءِ والصالحين أولَى بعدمِ جوازِ التوسلِ بهم- سواءٌ كانوا أحياءً أو أمواتًا كما يفعلُ جُهَّالُ المتصوفةِ قال جلَّ ثناؤُه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: 35].
قال ابن كثير في تفسيره (1/ 630) :
وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ قال عدد من العلماء: أي القربة, وقال قتادة: أي: تقريرا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه, وقرأ ابن زيد: أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ الإسراء: 75, وهذا الذي قاله هؤلاء الأئمة لا خلاف بين المفسرين فيه.
قال الشنقيطيُّ في أضواء البيان (1 /402، 403) :
اعلمْ أنَّ جمهورَ العلماءِ على أنَّ المرادَ بالوسيلةِ هنا: هو القربةُ إلى اللهِ، بامتثالِ أوامرِه ، واجتنابِ نواهيه على وفقِ ما جاء به محمدٌ r بإخلاصٍ في ذلك للهِ تعالى لأنَّ هذا وحدَه هو الطريقُ الموصلةُ إلى رضا الله تعالى ونيلِ ما عندَه من خيرِ الدنيا والآخرةِ
وأصلُ الوسيلةِ الطريقُ التي تقرِّبُ إلى الشيءِ وتوصِّلُ إليه، وهي العملُ الصالحُ بإجماعِ العلماءِ.
لأنَّه لا وسيلةَ إلى اللهِ تعالى إلا باتباعِ رسولِ اللهِ r وعلى هذا فالآياتُ المبينةُ للمرادِ من الوسيلةِ كثيرةٌ جدًّا، كقولِه تعالى: !وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا [الحشر: 7].
وكقولِه: قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي [آل عمران: 31] وقولِه: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ [النور: 54] إلى غيرِ ذلكَ من الآياتِ.
ورُويَ عن ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عنهما أنَّ المرادَ بالوسيلةِ الحاجةُ.. وعلى هذا القولِ الذي رُويَ عن ابنِ عباسٍ فالمعنى «وابتغُوا إليه الوسيلة» واطلبُوا حاجتَكم من اللهِ، لأنَّه وحدَه هو الذي يقدرُ على إعطائِها، وممَّا يبيِّن معنى هذا الوجهِ قولُه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ [العنكبوت: 17]. وقولُه: (وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ [النساء: 32] وفي الحديثِ «إذَا سألتَ فاسْأَلِ اللهَ».
قال مقيِّدُه عفا اللهُ عنه:
التحقيقُ في معنى الوسيلةِ هو ما ذهبَ إليه عامةُ العلماءِ من أنَّها التقربُ إلى اللهِ تعالى بالإخلاصِ له في العبادةِ على وفقِ ما جاءَ به الرسولُ r وتفسيرُ ابنِ عباسٍ داخلٌ في هذا؛ لأنَّ دعاءَ اللهِ والابتهالَ إليه في طلبِ الحوائجِ من أعظمِ أنواعِ عبادتِه التي هي الوسيلةُ إلى نيلِ رضاه ورحمتِه.
وبهذا التحقيقِ تعلمُ أنَّ ما يزعمُه كثيرٌ من الملاحدةِ- أتباعِ الجهالِ المدَّعين للتصوفِ من أنَّ المرادَ بالوسيلةِ في الآيةِ الشيخُ الذي يكونُ له واسطةٌ بينه وبين ربِّه- أنَّه تخبطٌ في الجهلِ والعمَى وضلالٌ مبينٌ وتلاعبٌ بكتابِ اللهِ تعالى، واتخاذُ الوسائطِ من دونِ اللهِ من أصولِ كفرِ الكفارِ، كما صرَّحَ به تعالى في قولِه عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىٰ [الزمر: 3] وقولِه: وَيَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ ج قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ج سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ [يونس: 18].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ( 1 / 1, 2):
فالحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله، والدين ما شرعه الله ورسوله، وقد أرسله الله إلى الثقلين: الجن والإنس، فعلى كل أحد أن يؤمن به وبما جاء به ويتبعه في باطنه وظاهره، والإيمانُ به ومتابعته هو سبيل الله وهو دين الله، وهو عبادة الله وهو طاعة الله، وهو طريق أولياء الله وهو الوسيلة التي أمر الله بها عباده في قوله تعالى (5: 35) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} . فابتغاء الوسيلة إلى الله إنما يكون لمن توسل إلى الله بالإيمان بمحمد واتباعه.
وهذا التوسل بالإيمان به وطاعته فرض على كل أحد في كل حال، باطناً وظاهراً، في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد موته، في مشهده ومغيبه، لا يسقط التوسل بالإيمان به وبطاعته عن أحد من الخلق في حال من الأحوال بعد قيام الحجة عليه، ولا بعذر من الأعذار، ولا طريق إلى كرامة الله ورحمته والنجاة من هوانه وعذابه إلا التوسل بالإيمان به وبطاعته.
وقال في مجموع الفتاوى (1 /199):
فلفظُ الوسيلةِ مذكورٌ في القرآنِ في قولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ [المائدة: 35]، وفي قولِه تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَىٰ رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ج إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا
فالوسيلةُ التي أمرَ اللهُ أنْ تُبْتَغَى إليه، أخبرَ عن ملائكتِه وأنبيائِه أنَّهم يبتغُونها إليه، هي ما يُتَقَرَّبُ إليه من الواجباتِ والمستحبَّاتِ فهذه الوسيلةُ التي أمرَ اللهُ المؤمنين بابتغائِها، تتناولُ كلَّ واجبِ ومستحبٍّ..
فالواجبُ والمستحبُّ هو ما شرعَهُ الرسولُ فأمرَ به أمرَ إيجابٍ أو استحبابٍ، وأصلُ ذلكَ: الإيمانُ بما جاءَ به الرسولُ، فجماعُ الوسيلةِ التي أمرَ اللهُ الخلقَ بابتغائِها هو التوسلُ إليه باتباعِ ما جاءَ به الرسولُ لا وسيلةَ لأحدِ إلى اللهِ إلا ذلك.
والثاني لفظُ الوسيلةِ في الأحاديثِ الصحيحةِ كقولِه r:«سَلُوا اللهَ لِيَ الْوَسِيلَةَ، فَإِنَّهَا مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لِعَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللهِ، وَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُوَ، فَمَنْ سَأَلَ لِي الْوَسِيلَةَ حَلَّتْ لَهُ الشَّفَاعَةُ»([1]).
وقولِه: «مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ، وَالصَّلاَةِ القَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الوَسِيلَةَ وَالفَضِيلَةَ، وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ » ([2]).
“فهذه الوسيلةُ للنبيِّ r خاصةً، وقد أَمَرَنَا أنْ نسألَ اللهَ هذه الوسيلةَ وأخبرَنَا أنَّهَا لا تكونُ إلا لعبدٍ من عبادِ اللهِ، وهو يرجو أنْ يكونَ ذلكَ العبدَ، وهذه الوسيلةُ أُمِرْنَا أنْ نسألَها للرسولِ وأُخْبِرْنَا أنْ من سألَ له هذه الوسيلةَ فقدْ حلَّتْ عليه الشفاعةُ يومَ القيامةِ”
التوسُّلُ المشروعُ
جاءت نصوصٌ من الكتابِ والسُّنَّةِ تبيِّنُ الوسائلَ المشروعةَ التي يتوسَّلُ بها العبدُ إلى اللهٍ لينالَ حاجتَه ومقصودَه منها:
1- التوسلُ بأسماءِ اللهِ الحسنَى:
قال جلَّ ذكرُه: وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف: 180].
قال القرطبيُّ في الجامع لأحكام القرآن (7 /311):
أي: اطلبُوا منه بأسمائِه، فيُطلَبُ بكلِّ اسمٍ ما يليقُ بهِ، تقولُ يا رحيمُ ارحمني، يا حكيمُ احكمْ لي، يا رزَّاقُ ارزقْنِي. انتهى.
2- التوسُّلُ إلى اللهِ تعالى بسابقِ إحسانِه:
قال تباركَ وتعالى عن زكريا عليه السلامُ ▬ وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا [مريم: 4].
قال ابنُ القيمِ في بدائع التفسير (2 /222):
فقد قيلَ: إنَّه دعاءُ المسألةِ والمعنى: إنَّك عودتَنِي إجابتَك، وإسعافَك، ولم تشقِنِي بالردِّ والحرمانِ، فهو توسلٌ إليه تعالى بما سلفَ من إجابتِه وإحسانِه. انتهى
3- التوسُّلُ بالأعمالِ الصالحةِ:
بأنْ يذكرِ العبدُ بينَ يَدَي الدعاءِ الأعمالَ الصالحةَ التي فعلَها خالصًا للهِ تعالى ويتوسلَ بذلكَ إلى اللهِ ، فيقولُ على سبيلِ المثالِ، يا ربِّ إنْ كنتُ فعلتُ كذا وكذا من الأعمالِ الصالحةِ ابتغاءَ مرضاتِك فأعْطِنِي كذا وكذا ويذكرُ مسألتَه.
كقولِ اللهِ تعالى عن المؤمنينَ: !رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة: 83]
وقولِه جلَّ ذكرُه: !رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا ج رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ [آل عمران: 193]. إلى غيرِ ذلكَ من الآياتِ وهي كثيرةٌ.
وحديثُ الثلاثةِ الذين آوَوْا إلى الغارِ وتوسَّلوا إلى اللهِ بأعمالِهم الصالحةِ كما في الصحيحينِ من حديثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r، قَالَ: « بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ، إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ، لاَ يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ، فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا، وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ البَقَرِ فَسُقْهَا، فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ، فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ البَقَرِ، فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الفَرَقِ فَسَاقَهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ، فَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، فَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فَأَبْطَأْتُ عَلَيْهِمَا لَيْلَةً، فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الجُوعِ، فَكُنْتُ لاَ أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا، وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا، فَيَسْتَكِنَّا لِشَرْبَتِهِمَا
فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي ابْنَةُ عَمٍّ، مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ، وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ، إِلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى قَدَرْتُ، فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا، فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا، فَقَالَتْ: اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ الخَاتَمَ إِلَّا بِحَقِّهِ، فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ المِائَةَ دِينَارٍ، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا »
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في الفتح (6 /589):
وفي هذا الحديثِ استحبابُ الدعاءِ في الكربِ والتقرُّبُ إلى اللهِ تعالى بذكرِ صالحِ العملِ، واستنجازُ وعدِه بسؤالِه.
قال ابنُ تيميةَ في اقتضاء الصراط المستقيم (2 /312):
أمَّا التوسلُ والتوجهُ إلى اللهِ وسؤالِه بالأعمالِ الصالحةِ التي أمرَ بها كدعاءِ الثلاثةِ الذين آوَوْا إلى الغارِ بأعمالِهم الصالحةِ. انتهى.
وتوسُّلُ سارةَ زوجةُ إبراهيمَ عليه السلامُ إلى اللهِ بإيمانِها باللهِ وبرسولِه بأنْ لا يسلطَ عليها الجبارَ، كما في الصحيحينِ في حديثِ أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ r: «هَاجَرَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِسَارَةَ، فَدَخَلَ بِهَا قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ المُلُوكِ، أَوْ جَبَّارٌ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ إِبْرَاهِيمُ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِنْ أَحْسَنِ النِّسَاءِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ مَنْ هَذِهِ الَّتِي مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهَا فَقَالَ: لاَ تُكَذِّبِي حَدِيثِي، فَإِنِّي أَخْبَرْتُهُمْ أَنَّكِ أُخْتِي، وَاللَّهِ إِنْ عَلَى الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ فَقَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ وَتُصَلِّي، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ، وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي، إِلَّا عَلَى زَوْجِي فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ الكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ “، قَالَ الأَعْرَجُ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ، قَالَ: ” قَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ يُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ، فَأُرْسِلَ ثُمَّ قَامَ إِلَيْهَا، فَقَامَتْ تَوَضَّأُ تُصَلِّي، وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ آمَنْتُ بِكَ وَبِرَسُولِكَ وَأَحْصَنْتُ فَرْجِي إِلَّا عَلَى زَوْجِي، فَلاَ تُسَلِّطْ عَلَيَّ هَذَا الكَافِرَ، فَغُطَّ حَتَّى رَكَضَ بِرِجْلِهِ “، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ” فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ إِنْ يَمُتْ فَيُقَالُ هِيَ قَتَلَتْهُ، فَأُرْسِلَ فِي الثَّانِيَةِ، أَوْ فِي الثَّالِثَةِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ إِلَّا شَيْطَانًا، ارْجِعُوهَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَعْطُوهَا آجَرَ فَرَجَعَتْ إِلَى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، فَقَالَتْ: أَشَعَرْتَ أَنَّ اللَّهَ كَبَتَ الكَافِرَ وَأَخْدَمَ وَلِيدَةً» ([1]).
4- التوسُّلُ بدعاءِ الصالحينَ الأحياءِ:
يجوزُ التوسلُ بدعاءِ من تظُنُّ أنَّه من أهلِ الفضلِ و الصلاحِ فتقولَ له ادعُ اللهَ أنْ يغفرَ لي أو ادعُ اللهَ أنْ يشفيَنِي وما أشبهَ ذلكَ.
فمن التوسلِ المشروعِ التوسلُ بدعاءِ الصالحينَ لا بذاتِ الصالحينَ ولا بجاهِ الصالحينَ، وإن كانوا الأنبياءَ – صلواتُ اللهِ وسلامُه عليهم.
([1]) أخرجه البخاري (2217) ومسلم (2371).
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ رَجُلًا، دَخَلَ المَسْجِدَ يَوْمَ جُمُعَةٍ مِنْ بَابٍ كَانَ نَحْوَ دَارِ القَضَاءِ، وَرَسُولُ اللَّهِ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَ رَسُولَ اللَّهِ r قَائِمًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعْتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُغِيثُنَا، فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا» قَالَ أَنَسٌ: وَلاَ وَاللَّهِ، مَا نَرَى فِي السَّمَاءِ مِنْ سَحَابٍ، وَلاَ قَزَعَةً وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ سَلْعٍ مِنْ بَيْتٍ وَلاَ دَارٍ، قَالَ: فَطَلَعَتْ مِنْ وَرَائِهِ سَحَابَةٌ مِثْلُ التُّرْسِ فَلَمَّا تَوَسَّطَتِ السَّمَاءَ انْتَشَرَتْ، ثُمَّ أَمْطَرَتْ، فَلاَ وَاللَّهِ، مَا رَأَيْنَا الشَّمْسَ سِتًّا، ثُمَّ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ ذَلِكَ البَابِ فِي الجُمُعَةِ، وَرَسُولُ اللَّهِ قَائِمٌ يَخْطُبُ، فَاسْتَقْبَلَهُ قَائِمًا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَتِ الأَمْوَالُ وَانْقَطَعَتِ السُّبُلُ، فَادْعُ اللَّهَ يُمْسِكْهَا عَنَّا، قَالَ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى الآكَامِ وَالظِّرَابِ، وَبُطُونِ الأَوْدِيَةِ، وَمَنَابِتِ الشَّجَرِ» قَالَ: فَأَقْلَعَتْ، وَخَرَجْنَا نَمْشِي فِي الشَّمْسِ قَالَ شَرِيكٌ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَهُوَ الرَّجُلُ الأَوَّلُ؟ فَقَالَ: «مَا أَدْرِي»([1]).
فانظر لفقه هذا الرجل – وهو من عوام الصحابة لا من علمائهم – لما حل بهم القحط والجدب ذهب للنبي صلى الله عليه وسلم يستغيث بدعائه لا بجاهه ولا بذاته فقال: ادع الله أن يغيثنا ولم يقل أغثنا يارسول الله, وكذلك لما كثر المطر وتقطعت بهم السبل قال ادع الله أن يمسكها عنا لم يستغث بذاته ولا دعائه.
قال الحافظُ ابنُ حجرٍ في الفتح (2 /588) – في معرضِ شرحِه للحديثِ-:وفيه: سؤالُ الدعاءِ من أهلِ الخيرِ، ومن يُرجَى منه القبولُ، وإجابتُهم لذلك . انتهى
وعَنْ أُسَيْرِ بْنِ جَابِرٍ، أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ وَفَدُوا إِلَى عُمَرَ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ مِمَّنْ كَانَ يَسْخَرُ بِأُوَيْسٍ، فَقَالَ عُمَرُ: هَلْ هَاهُنَا أَحَدٌ مِنَ الْقَرَنِيِّينَ؟ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا يَأْتِيكُمْ مِنَ الْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ، لَا يَدَعُ بِالْيَمَنِ غَيْرَ أُمٍّ لَهُ، قَدْ كَانَ بِهِ بَيَاضٌ، فَدَعَا اللهَ فَأَذْهَبَهُ عَنْهُ، إِلَّا مَوْضِعَ الدِّينَارِ أَوِ الدِّرْهَمِ، فَمَنْ لَقِيَهُ مِنْكُمْ فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُمْ»([2]).
وقال رسول الله : «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ، قَالَ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ: آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ »([3]).
قال شيخُ الإسلامِ في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص:150):
وقد مضت السُّنَّةُ أنَّ الحيَّ يُطلَبُ منه الدعاءُ كما يُطلَبُ منه سائرُ ما يقدرُ عليه، وأمَّا المخلوقُ الغائبُ والميِّتُ فلا يُطلَبُ منه شيءٌ.
([1]) أخرجه البخاري (1014) ومسلم (897).
التوسل الممنوع
هو التوسل بجاه الصالحين والأنبياء والأولياء والتوسل بصاحب القبر وما يُعتقد أنه ولي, وما أشبه ذلك وهذا حرام ولا يجوز, وهذا مذهب أهل السنة والجماعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/222)
:
والذي قاله أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم من العلماء – من أنه لا يجوز أن يسأل الله تعالى بمخلوق: لا بحق الأنبياء ولا غير ذلك.
وقال أيضا في مجموع الفتاوى ( 1/225) :
وكذلك من نقل عن مالك أنه جوز سؤال الرسول أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين – غير مالك – كالشافعي وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا؛ بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة ولكن من الناس من يحرف نقلها وأصلها ضعيف.
وقال في موضعٍ آخر: وأما دعاء الرسول وطلب الحوائج منه وطلب شفاعته عند قبره أو بعد موته فهذا لم يفعله أحد من السلف ومعلوم أنه لو كان قصد الدعاء عند القبر مشروعا لفعله الصحابة والتابعون وكذلك السؤال به فكيف بدعائه وسؤاله بعد موته؟ – مجموع الفتاوى (1/233)
قال الإمام ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية ( 237 – 238)
في معرض رده على من يتوسل بالصالحين :
فَلَا مُنَاسَبَةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ إِجَابَةِ دُعَاءِ هَذَا السَّائِلِ, فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: لِكَوْنِ فُلَانٍ مِنْ عِبَادِكَ الصالحين أجب دعاي! وَأَيُّ مُنَاسَبَةٍ فِي هَذَا وَأَيُّ مُلَازَمَةٍ؟ وَإِنَّمَا هَذَا مِنَ الِاعْتِدَاءِ فِي الدُّعَاءِ! وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الْأَعْرَافِ: 55]. وَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنَ الْأَدْعِيَةِ الْمُبْتَدَعَةِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا عَنِ الصَّحَابَةِ، وَلَا عَنِ التَّابِعِينَ، وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْأَئِمَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي الْحُرُوزِ وَالْهَيَاكِلِ الَّتِي يَكْتُبُ بِهَا الْجُهَّالُ وَالطُّرُقِيَّةُ. وَالدُّعَاءُ مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ، وَالْعِبَادَاتُ مَبْنَاهَا عَلَى السُّنَّةِ وَالِاتِّبَاعِ، لَا عَلَى الْهَوَى وَالِابْتِدَاعِ .
وَإِنْ كان مراده الإقسام على الله بحق فلان، فذلك محذور أيضا؛ لأن الإقسام بالمخلوق لَا يَجُوزُ، فَكَيْفَ عَلَى الْخَالِقِ؟! وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ” ([1]). وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: يُكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الدَّاعِي: أَسْأَلُكَ بِحَقِّ فُلَانٍ، أَوْ بِحَقِّ أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ، وَبِحَقِّ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ حَتَّى كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ
([1]) صحيح الترمذي (1535), وأخرجه أحمد (2 / 34، 69، 86) والطحاوي في ” مشكل
الآثار ” (1 / 357 – 359), وصححه الألباني في الصحيحة: (2042).
عَنْهُمَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ بِمَعْقِدِ الْعِزِّ مِنْ عَرْشِكَ، وَلَمْ يَكْرَهْهُ أَبُو يُوسُفَ لَمَّا بَلَغَهُ الْأَثَرُ فِيهِ. وَتَارَةً يَقُولُ: بِجَاهِ فُلَانٍ عِنْدَكَ، يَقُولُ: نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِأَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِكَ وَأَوْلِيَائِكَ. وَمُرَادُهُ أَنَّ فُلَانًا عِنْدَكَ ذُو وَجَاهَةٍ وَشَرَفٍ وَمَنْزِلَةٍ فَأَجِبْ دُعَاءَنَا. وَهَذَا أَيْضًا مَحْذُورٌ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا هُوَ التَّوَسُّلُ الَّذِي كَانَ الصَّحَابَةُ يَفْعَلُونَهُ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفَعَلُوهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَوَسَّلُونَ فِي حَيَاتِهِ بِدُعَائِهِ، يَطْلُبُونَ مِنْهُ أَنْ يَدْعُوَ لَهُمْ، وَهُمْ يُؤَمِّنُونَ عَلَى دُعَائِهِ، كَمَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَغَيْرِهِ, فَلَمَّا مَاتَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا خَرَجُوا يَسْتَسْقُونَ: اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا إِذَا أَجْدَبْنَا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا. مَعْنَاهُ بِدُعَائِهِ هُوَ رَبَّهُ وَشَفَاعَتِهِ وَسُؤَالِهِ، لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّا نُقْسِمُ عَلَيْكَ [بِهِ]، أَوْ نَسْأَلُكَ بِجَاهِهِ عِنْدَكَ، إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ مُرَادًا لَكَانَ جَاهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْظَمَ وَأَعْظَمَ مِنْ جَاهِ الْعَبَّاسِ.
و في مجموع فتاوى ابن عثيمين ( 2 /345 ):
قال: فإذا قال قائل: جئت إلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند قبره، وسألته أن يستغفر لي، أو أن يشفع لي عند الله فهل يجوز ذلك أو لا؟
قلنا: لا يجوز.
فإذا قال: أليس الله يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا}
قلنا له: بلى إن الله يقول ذلك، ولكن يقول: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا} وإذ هذه ظرف لما مضى، وليست ظرفًا للمستقبل لم يقل الله: “ولو أنهم إذا ظلموا” بل قال: {إِذْ ظَلَمُوا}. فالآية تتحدث عن أمر وقع في حياة الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واستغفار الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد مماته أمر متعذر لأنه «إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث – كما قال الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:”صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» . فلا يمكن لإنسان بعد موته أن يستغفر لأحد؛ بل ولا يستغفر لنفسه أيضًا؛ لأن العمل انقطع.
فتوى رسمية من مفتي الديار المصرية, نشرتها مجلة الإذاعة المصرية في 7 / 3 /1957
سئل فضيلة الأستاذ الشيخ حسن مأمون مفتي الديار المصرية سؤالين هامين عن زيارة الأضرحة والتوسل فأجاب فضيلته بما يلي:
س1 – ما حكم الشرع في زيارة الأضرحة – أضرحة الأولياء – والطواف بالمقصورة وتقبيلها والتوسل بالأولياء؟
ج1 – أود أن أذكر أولاً أن أصل الدعوة الإسلامية يقوم على التوحيد والإسلام يحارب جاهداً كل ما يقرب الإنسان من مزالق الشرك بالله. ولا شك أن التوسل بالأضرحة والموتى أحد هذه المزالق وهي رواسب جاهلية فلو نظرنا إلى ما قاله المشركون عندما نعي عليهم الرسول – صلى الله عليه وسلم – عبادتهم للأصنام قالوا له:(ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) فهي نفس التي يسوقها
اليوم الداعون للتوسل بالأولياء لقضاء حاجة عند الله أو التقرب منه ومن مظاهر هذه الزيارات أفعال تتنافى مع عبادات إسلامية ثابتة فالطواف في الإسلام والتقبيل في الإسلام لم يسن إلا للحجر الأسود وحتى الحجر الأسود
قال فيه عمر وهو يقبله: (والله لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما فعلت) فتقبيل الأعتاب أو نحاس الضريح أو أي مكان به حرام قطعاً.
وتأتي بعد ذلك الشفاعة وهذه هي في الآخرة غيرها في الدنيا فالشفاعة ارتبطت في أذهاننا بما يحدث في هذه الحياة من توسط إنسان لآخر أخطأ عند رئيسه ومن بيده أمره يطلب إليه أن يغفر له هذا الخطأ وإن كان هذا المخطئ لا يستحق العفو والمغفرة غير أن الله سبحانه وتعالى قد حدد طريق الشفاعة في الآخرة فهذه الشفاعة لن تكون إلا لمن يرتضي الله أن يشفعوا ولأشخاص يستحقون هذه الشفاعة وهؤلاء أيضاً يحددهم إذن فكل هذا متعلق بإذن الله وحكمه فإذا نحن سبقنا هذا الحكم بطلب الشفاعة من أي كان فإن هذا عبث لأننا نستطيع أن نعرف من سيأذن الله لهم بالشفاعة ومن يشفع لهم.
وعلى ذلك يتضح أن كل زيارة للأضرحة – غير الشرعية – والطواف حولها وتقبيل المقصورة والأعتاب والتوسل بالأولياء وطلب الشفاعة منهم كل هذا حرام قطعاً ومناف للشريعة أو فيه إشراك بالله وعلى العلماء أن ينظموا حملة جادة لتبيان هذه الحقائق فإن الكثير من العامة بل ومن الخاصة ممن لم تتح لهم المعرفة الإسلامية الصحيحة يقعون فريسة الرواسب الجاهلية التي تتنافى مع الإسلام وإذا أخذ الناس بالرفق في هذا الأمر فلا بد أنهم سوف يستجيبون للدعوة لأن الجميع حريصون ولا شك على التعرف على حقائق دينهم.
س2 – هل يجوز النذر لغير الله مثل أن ينذر أحدهم نتائج ماشيته أو ريع أرضه أو مبلغاً من المال لأحد الأولياء؟ وهل يقر الإسلام هذه النذور؟
ج2 – وردت الآيات صريحة في أن النذر لا يجوز إلا لله والنذر لغير الله شرك فالنذر طاعة ولا طاعة لغير الله.
حسن المأمون مفتي الديار المصرية
شبهةٌ والردُّ عليها
جوَّزَ البعض التوسلَ بجاهِ الصالحينَ- الأحياءِ منهم أو الأمواتِ- بحجَّةِ بعض الأحاديث منها حديثِ أنسٍ رضيَ اللهُ عنه والحديثُ حجَّةٌ عليهم في عدمِ جوازِ التوسلِ بالأمواتِ وإنْ كان الميِّتُ رسولَ اللهِ .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، كَانَ إِذَا قَحَطُوا اسْتَسْقَى بِالعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ إِنَّا كُنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِينَا، وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِعَمِّ نَبِيِّنَا فَاسْقِنَا»، قَالَ: فَيُسْقَوْنَ([1]).
فلو جازَ التوسلُ بدعاءِ النبيِّ r بعد موتِه ما عدلَ الصحابةُ عنه إلى سؤالِ العباسِ رضيَ اللهُ عنه أنْ يدعوَ لهم، وهو دونَ النبيِّ في الفضلِ والمكانةِ .
وأيضًا حديث عثمان بن حنيف: (أنَّ رجلًا ضريرَ البصرِ أتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقال ادعُ اللهَ أن يُعافيَني قال إن شئتَ دعوتُ وإن شئتَ صبرتَ فهو خيرٌ لك قال فادْعُه قال فأمره أن يتوضأ فيحسنَ وضوءَه ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألُك وأتوجَّه إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمةِ إني توجَّهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضىَ لي اللهم فشَفِّعْه فيَّ) ([1])
قال ابنُ تيميةَ في اقتضاء الصراط المستقيم (2 /318، 319):
معناه: نتوسلُ إليكَ بدعائِه وشفاعتِه وسؤالِه، ونحن نتوسلُ إليكَ بدعاءِ عمِّه وسؤالِه وشفاعتِه، ليس المرادُ به إنَّا نقسمُ عليكَ به أو ما يجري هذا المجرَى ممَّا يفعلُه المبتدعون بعدَ موتِه وفي مغيبِه.
كما يقولُ بعضُ الناسِ: أَسألُ بجاهِ فلانٍ عندَك، ويقولون: إنَّا نتوسلُ إلى اللهِ بأنبيائِه وأوليائِه ويرْوُون حديثًا موضوعًا ([2]) إذَا سألتُم اللهَ فاسأَلُوهُ بجاهِي، فإنَّ جاهِي عندَ اللهِ عريضٌ. فإنَّه لو كانَ هذا هو التوسُّلُ الذي كانَ الصحابةُ يفعلُونه كما ذَكَرَ عمرُ رضيَ اللهُ عنه لفعلُوا ذلكَ بعد موتِه، ولم يعدِلُوا عنه إلى العباسِ مع علمِهم بأنَّ السؤالَ بهِ والإقسامَ بهِ أعظمُ من العباسِ، فعُلِمَ أنَّ ذلكَ التوسلَ الذي ذكرُوه هو ممَّا يفعلُه الأحياءُ دونَ الأمواتِ.
وهو التوسلُ بدعائِهم وشفاعتِهم، فإنَّ الحيَّ يُطلَبُ منه ذلك، والميِّتَ لا يُطلَبُ منه شيءٌ، لا دعاءٌ ولا غيرُه.
وكذلك حديثُ الأعمَى فإنَّه طلبَ من النبيِّ r أنْ يدعوَ له ليردَّ اللهُ عليه بصرَه، فعلَّمَهُ النبيُّ دعاءً أَمَرَهُ فيه أنْ يسألَ اللهَ قبولَ شفاعةِ نبيِّه فيه فهذا يدلُّ على أنَّ النبيَّ r شفعَ فيه، وأمرَهُ أنْ يسألَ اللهَ قبولَ الشفاعةِ وأنَّ قولَه «أسألُكَ وأتوجَّهُ إليٍكَ بنبيَّكَ محمدٍ نبيِّ الرحمةِ»([3]) أي: بدعائِهِ وشفاعتِهِ ، كما قالَ عمرُ «كنَّا نتوسَّلُ إليكَ بنبيَّنَا ([4])» فلفظُ التوسُّلِ والتوجهِ في الحديثين بمعنًى واحدٍ، ثم قال: «يا محمدُ، يارسولَ اللهِ إنِّي أتوجهُ بكَ إلى ربِّي في حاجتِي ليقضيَها، اللَّهمَّ فشفِّعْهُ فيَّ»([5]).
([1]) أخرجه أحمد في المسند (17279), وأخرجه الترمذي (3578), والنسائي في السنن الكبرى (10495), وابن ماجه (1385), والطبراني في المعجم الكبير (9/17) والحاكم في المستدرك (1/707) باختلاف يسير, وابن خزيمة في صحيحه (2/225), وصححه الألباني في تخريج مشكاة المصابيح (2429) ومقبل بن هادي الوادعي في الصحيح المسند _925).
([2]) حديث كذب وموضوع: انظر مجموع الفتاوى لابن تيمية (27/126) والرد على البكري (ص:70), والتوسل والوسيلة (252), ومجموع فتاوى ابن باز (26/222), وقال الألباني: باطل لا أصل له في التوسل (115) والسلسلة الضعيفة (22)
([3]) صحيح تقدم تخريجه قريبًا.
([4]) صحيح تقدم تخريجه قريبًا.
([5]) صحيح تقدم تخريجه قريبًا.
فطَلَبَ من اللهِ أنْ يشفعَ فيه نبيُّه، وقولُهُ «يا محمدُ يا نبيَّ اللهِ» هذا وأمثالُه نداءٌ طلبَ به استحضارَ المنادَى في القلبِ، فيخاطِبُ الشهودَ بالقلبِ: كما يقولُ المصلِّى «السلامُ عليكَ أيُّها النبيُّ ورحمةُ اللهِ وبركاتُهُ»..
فلفظُ: التوسلِ بالشخصِ، والتوجُّهِ بهِ، والسؤالِ بهِ، فيه إجمالٌ واشتراكٌ- غلَطَ بسببِهِ من لم يفهمْ مقصودَ الصحابةِ- يُرادُ بهِ التسبُّبُ بهِ لكونِهِ داعيًا، وشافعًا مثلاً أو لكونِ الداعِي محبًّا له مطيعًا لأمرِه مقتديًا به، فيكونُ التسبُّبُ: إمَّا لمحبةِ السائلِ له واتباعِه له، وإمَّا بدعاءِ الوسيلةِ وشفاعتِه، ويُرادُ به الإقسامُ به، والتوسلُ بذاتِهِ، فلا يكونُ التوسلُ لا لشيءٍ منه، ولا لشيءٍ من السائلِ بل بذاتِه، أو بمجردِ الإقسامِ بهِ على اللهِ.
فهذا الثانِي هو الذي كرهُوه ونهَوْا عنه، وكذلكَ لفظُ السؤالِ بشيءٍ قد يُرادُ به المعنَى الأولَ، وهو التسبُّبُ به لكونِه سببًا في حصولِ المطلوبِ، وقد يُرادُ بهِ الإقسامُ.
ومن الأولِ: حديثُ الثلاثةِ الذين أوَوْا إلى الغارِ… وساقَ الحديثَ ومعناه.
وقالَ في رسالة في الرد على البكري (ص: 70):
إنَّ اللهَ تعالى يحبُّ أنْ نتوسَّلَ إليهِ بالإِيمانِ والعملِ الصالحِ والصلاةِ والسلامِ على نبيِّه ومحبتِه وطاعتِه وموالاتِه.
الخلاصةُ: أنَّ لفظَ التوسلَ بالنبيِّ يرادُ بهِ ثلاثةُ معانٍ:
أحدُها: التوسلُ بطاعتِه فهذا فرضٌ لا يتمُّ الإيمانُ إلا بِهِ.
والثاني: التوسلُ بدعائِه وشفاعتِه، وهذا كانَ في حياتِه، ويكونُ يومَ القيامةِ بالتوسلِ بشفاعتِه.
والثالثُ: التوسلُ بمعنى الإقسامِ على اللهِ بذاتِه r والسؤالِ بذاتِه، فهذا هو الذِي لم يكنْ الصحابةُ يفعلونَه في الاستسقاءِ ونحوِه، ولا في حياتِه، ولا بعدَ مماتِه، لا عندَ قبرِه، ولا غيرَ قبرِه، ولا يُعرَفُ هذا في شيءٍ من الأدعيةِ المشهورةِ بينَهم ([1]).
فائدة: –
إذا انفرد الصحابي بقول وعرف أن غيره لم يخالفه, فهو حجة, أما إذا عرف أن غيره يخالفه فليس بحجة باتفاق, وسيأتي أقوال العلماء في ذلك.
قال ابن مفلح في الفروع (3/229) :
وَيَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِصَالِحٍ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ، قَالَ أَحْمَدُ فِي مَنْسَكِهِ الَّذِي كَتَبَهُ لِلْمَرُّوذِيِّ: إنَّهُ يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُعَائِهِ، وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ، وَجَعَلَهَا شَيْخُنَا كَمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ بِهِ([2])، قَالَ: وَالتَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ
([2])قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/204) : وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وأيمان البندق وسراويل الفتوة وغير ذلك لا ينعقد يمينه ولا كفارة في الحلف بذلك. والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد. وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك ….
وقال في مجموع الفتاوى (1/336) : وأصل القول بانعقاد اليمين بالنبي ضعيف شاذ ولم يقل به أحد من العلماء فيما نعلم والذي عليه الجمهور كمالك والشافعي وأبي حنيفة أنه لا تنعقد اليمين به كإحدى الروايتين عن أحمد وهذا هو الصحيح.
وقال في مجموع الفتاوى (1/286) : وقد ثبت أنه لا يجوز القسم بغير الله لا بالأنبياء ولا بغيرهم
بِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ وَأَفْعَالِ الْعِبَادِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي حَقِّهِ مَشْرُوعٌ “عِ”، وَهُوَ مِنْ الْوَسِيلَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]
قال المرداوي في الإنصاف (2/456) :
فوائد …. مِنْهَا: يَجُوزُ التَّوَسُّلُ بِالرَّجُلِ الصَّالِحِ، عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ: يُسْتَحَبُّ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: الْمَرُّوذِيُّ يَتَوَسَّلُ بِالنَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي دُعَائِهِ وَجَزَمَ بِهِ فِي الْمُسْتَوْعِبِ وَغَيْرِهِ، وَجَعَلَهُ الشَّيْخُ تَقِيُّ الدِّينِ كَمَسْأَلَةِ الْيَمِينِ بِهِ, وقد بين مقصود الإمام أحمد بالتوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم, فقال:
وَالتَّوَسُّلُ بِالْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ وَالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ، وَبِدُعَائِهِ وَشَفَاعَتِهِ، وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي حَقِّهِ: مَشْرُوعٌ إجْمَاعًا، وَهُوَ مِنْ الْوَسِيلَةِ الْمَأْمُورِ بِهَا فِي قَوْله تَعَالَى {اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35]
قال أحمد بن عبد الهادي الحنبلي في الصارم المنكي في الرد على السبكي (ص: 136)
وأما دعاؤه هو وطلب استغفاره وشفاعته بعد موته, فهذا لم ينقل عن أحد من أئمة المسلمين لا من الأئمة الأربعة ولا غيرهم, بل الأدعية التي ذكروها خالية من ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض كلامه عن انفراد الصحابي بالقول في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 223 – 229) :
استباح أبو طلحة أكل البَرد وهو صائم .
واستباح حذيفة السحور بعد ظهور الضوء المنتشر حتى قيل هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع. وغيرهما من الصحابة لم يقل بذلك، وجب الرد إلى الكتاب والسنة.
وكذلك الكراهية والتحريم. مثل كراهة عمر وابنه للطيب قبل الطواف بالبيت
وكراهة من كره من الصحابة فسخ الحج إلى التمتع، أو التمتع مطلقاً، أو رأى تقدير مسافة القصر بحدٍّ حدَّه، وأنه لا يقصر بدون ذلك، أو رأى أنه ليس للمسافر أن يصوم في السفر.
ومن ذلك قول سلمان: إن الريق نجس .
وقول ابن عمر: إن الكتابية لا يجوز نكاحها.
وتوريث معاذ ومعاوية للمسلم من الكافر.
ومنع عمر وابن مسعود للجنب أن يتيمم.
وقول علي وزيد وابن عمر في المفوِّضة: إنه لا مهر لها إذا مات الزوج.
وقول علي وابن عباس في المتوفى عنها الحامل: إنها تعتدُّ أبْعَدَ الأجَلَين.
وقول ابن عمر وغيره: إن المحرم إذا مات بطل إحرامه وفعل به ما يفعل بالحلال.
وقول ابن عمر وغيره: لا يجوز الاشتراط في الحج.
وقول ابن عباس وغيره في المتوفى عنها: ليس عليها لزوم المنزل.
وقول عمر وابن مسعود: إن المبتوتة لها السكنى والنفقة.
وأمثال ذلك مما تنازع فيه الصحابة، فإنه يجب فيه الرد إلى الله والرسول، ونظائر هذا كثير فلا يكون شريعة للأمة إلا ما شرعه رسول الله .
ومن قال من العلماء: “إن قول الصحابي حجة” فإنما قاله إذا لم يخالفه غيره من الصحابة ولا عرف نص يخالفه، ثم إذا اشتهر ولم ينكروه كان إقراراً على القول، فقد يقال: “هذا إجماع إقراري”، إذا عرف أنهم أقروه لم ينكره أحد منهم، هم لا يقرون على باطل.
وأما إذا لم يشتهر فهذا إن عرف أن غيره لم يخالفه فقد يقال: “هو حجة”. وأما إذا عرف أنه خالفه فليس بحجة بالاتفاق.
وأما إذا لم يعرف هل وافقه غيره أو خالفه لم يجزم بأحدهما، ومتى كانت السنة تدل على خلافه كانت الحجة في سنة رسول الله r لا فيما يخالفها بلا ريب عند أهل العلم.
وإذا كان كذلك فمعلوم أنه إذا ثبت عن عثمان بن حنيف أو غيره أنه جعل من المشروع المستحب أن يتوسل بالنبي r بعد موته من غير أن يكون النبي r داعياً له ولا شافعاً فيه، فقد علمنا أن عمر وأكابر الصحابة لم يروا هذا مشروعاً بعد مماته، كما كان يشرع في حياته، بل كانوا في الاستسقاء في حياته يتوسلون به، فلما مات لم يتوسلوا.
بل قال عمر في دعائه الصحيح المشهور الثابت باتفاق أهل العلم بمحضر من المهاجرين والأنصار في عام الرمادة المشهور لما اشتد بهم الجدب حتى حلف عمر لا يأكل سمناً حتى يخصب الناس، ثم لما استسقى بالناس قال: “اللهم إنا كنا
إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا” فيسقون ([1])
وهذا دعاء أقره عليه جميع الصحابة، لم ينكره أحد مع شهرته، وهو من أظهر الإجماعات الإقرارية، ودعا بمثله معاوية بن أبي سفيان في خلافته لما استسقى بالناس.
فلو كان توسلهم بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته كتوسلهم في حياته لقالوا: كيف نتوسل بمثل العباس ويزيد بن الأسود ونحوهما؟ ونعدل عن التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أفضل الخلائق وهو أفضل الوسائل وأعظمها عند الله؟.
فلما لم يقل ذلك أحد منهم، وقد علم أنهم في حياته إنما توسلوا بدعائه وشفاعته، وبعد مماته توسلوا بدعاء غيره وشفاعة غيره، علم أن المشروع عندهم التوسل بدعاء المتوسل به لا بذاته.
قال ابن عثيمين في الشرح الممتع على شرح زاد المستقنع ( 5 /213 ) :
قال في الروض: «وأبيح التوسل بالصالحين»، وهذه عبارة على إطلاقها فيها نظر، ولكنهم يريدون بذلك ـ رحمهم الله ـ: التوسل بدعاء الصالحين؛ لأن دعاء الصالحين أقرب إلى الإجابة من دعاء غير الصالحين.
ودليل هذه المسألة: ما حصل من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ حين خرج يستسقي ذات يوم فقال: «اللهم إنا كُنَّا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإننا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، ثم قال: قم يا عباس فادع الله فقام فدعا فسقاهم الله» ([2]) .
والتوسل بدعاء الصالحين مقيد بعدم الفتنة؛ بأن يكون دعاؤه سبباً لفتنته هو، أو لفتنة غيره، فإن خيف من ذلك ترك.
وأما التوسل بالصالحين بذواتهم فهذا لا يجوز؛ وذلك لأن التوسل فعل ما يكون وسيلة للشيء، وذات الصالح ليست وسيلة للشيء، فلا علاقة بين الدعاء، وذات الرجل الصالح.
وكذلك لا يجوز التوسل بجاه الصالحين؛ لأن جاه الصالحين إنما ينفع صاحبه، ولا ينفع غيره.
وأقبح من ذلك أن يتوسل بالقبور، فإن هذا قد يؤدي إلى دعاء أهل القبور والشرك الأكبر.
تم بحمد الله تعالى.
كتبته/أم تميم
عزة بنت محمد رشاد بن حسن شاهين