قواعد وأصول
إنَّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أمَّا بعد، فقبل أن أشرع في الرد على الشبهات، لابد من معرفة بعض القواعد والأصول التي يندفع بها أكثر الشبهات المتعلقة بهذه المسألة.
القاعدة الأولى:
أنَّ الحكم على المُعيَّن بظواهر الأفعال، وأمّا السرائر فموكولةٌ إلى الله تعالى.
دليل ذلك: قوله ﷺ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»[1].
قال ابن دقيق العيد: ومعنى قوله ﷺ: «وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»، أي فيما يسترونه ويخفون دون ما يخلون به في الظاهر من الأحكام الواجبة.
ذكر ذلك الخطابي: قال: وفيه أنَّ من أظهر الإسلام وأسّر بالكفر يُقبل إسلامُه في الظاهر[2].
قال النووي –رحمه الله–: وقوله ﷺ: «وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»، يعني من أتى بالشهادتين، وأقام الصلاة، وآتى الزكاة عصم دمه وماله، ثم إن كان فعل ذلك بنية خالصة صالحة فهو مؤمن، وإن كان فعله تقيةً وخوفًا من السيف -كالمنافق- فحسابه على الله، وهو المتولي السرائر[3].
فدلَّ هذا كله على أن السرائر موكولةٌ إلى الله تعالى.
القاعدة الثانية:
من المعلوم عند علماء الأصول قاعدة: اليقين لا يزول بالشك، وهذه القاعدة مستنبطة من السُنة.
قال السعدي –رحمه الله– بعد أن ذكر القاعدة: هذا أصلٌ كبير يدلُّ عليه قوله ﷺ في الحديث الصحيح، حين شكى إليه الرجل يجد الشيء وهو في الصلاة، قال: «لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا»[4].
أي: حتى يتيقن أنه أحدث، فمتى تيقن أمرًا من الأمور، أو استصحب أصلًا من الأصول، فالأصل بقاء ذلك الأمر المتيقَّن، فلا ينتقل عن ذلك بمجرد الشك حتى يتيقن زواله[5]. انتهى.
(قلت): إذا كان الخروج من الصلاة لا يجوز إلا بعد اليقين، أليس من باب قياس الأولى ألا نُخرِجَ أحدًا من الدين إلا بعد التيقُّن من كفره؟!
القاعدة الثالثة:
القرائن ليست سببًا في الحكم على المُعيَّن بأنه مستحلٌّ ومن ثمّ يحكم عليه بالكفر، وهذا خطأ.
الدليل: حديث أسامة بن زيد -رضي الله عنه-، وفيه: أنه قتل رجلًا بعد ما قال لا إله إلا الله، قال: فلما قَدِمنا بلغَ ذلك النبيَّ ﷺ، قال: فَقَالَ لِي: «يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟» قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا، قَالَ: فَقَالَ: «أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ؟»، قال: فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا، حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنِّي لَمْ أَكُنْ أَسْلَمْتُ قَبْلَ ذَلِكَ اليَوْمِ»[6].
وفي رواية: «أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حَتَّى تَعْلَمَ أَقَالَهَا أَمْ لَا؟»[7].
وفي لفظ: «فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ إِذَا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟»[8].
الشاهد: أن القرائن كانت مع أسامة -رضي الله عنه-، ولذا قتل المشـرك بعد النطق بالشهادة، وهذه القرائن: أن هذا الرجل كان يقاتل المسلمين، وأنه كافر أصلي، وأنه لم ينطق الشهادة إلا عندما أيقن أن أسامة -رضي الله عنه-، سيقتله، فكل هذا كان سببًا لقتله، ومع هذا كله، رفضَ رسولُ الله ﷺ عذر أسامة -رضي الله عنه-، واستدلاله بالقرائن، فدلَّ ذلك على أن القرائن لا تدلُّ على الاستحلال، وبناءً على ذلك: إذا فعل إنسانٌ أفعالَ كفر، لا نحكم عليه بقرائن أفعاله أنه كافر، إلا بعد إقامة الحجة، بتوافُر الشـروط، وانتفاء الموانع، لأنه في الأصل مسلم.
القاعدة الرابعة:
الاستحلال لا يُعرَف من الفعل ولا المداومة ولا الإصرار، وبرهان ذلك من وجوه:
الوجه الأول: لم يقل به أحدٌ من أهل العلم المُتقدمين، ولو كان حقًا لسبقونا إليه.
الوجه الثاني: يلزم منه تعارض دليلين من الإجماع:
1- الإجماع على عدم كفر أهل الذنوب.
قال ابن عبد البر –رحمه الله–: اتفق أهل السُنة والجماعة -وهم أهل الفقه والأثر- على أن أحدًا لا يُخرِجُه ذنبه -وإن عظم- من الإسلام([9]، وهذا الإجماع مُطلق لا قيْد فيه، فيعمُّ المذنبَ المداومَ والمصرَّ.
2- الإجماع على كفر من استحلَّ الذنب.
قال ابن تيمية –رحمه الله–: من فعل المحارم مستحلًا لها فهو كافر
بالاتفاق[10].
فإطلاقهم الإجماع على عدم كفر أهل الذنوب، مع إجماعهم على كفر من استحلَّ محرمًا، دليلٌ على عدم اعتبار المداومة والإصرار استحلالًا.
الوجه الثالث: يلزم منه تكفير أهل الذنوب، وذلك ما أجمع أهل السنة على خلافه، فمن قارف الذنب دهره، وداوم عليه، وأصرَّ عليه -بفعله- فهو كافر عند من قرَّر ذلك لأنه يراه مستحلًّا ما حرّم الله، وهو ليس بكافرٍ بإجماع أهل السنة.
الوجه الرابع: أنَّ حقيقة الاستحلال هي اعتقاد الحل، كما تقدم، ولا يمكن أن يُصار إلى معرفة الاعتقاد -معرفة يقينية- إلا بإفصاح صاحب ذلك الاعتقاد عما في نفسه، ولذلك فإننا نجد من العصاة اعترافًا بالذنب وتأثرًا من النصيحة، وربما يعزم أحدهم على التوبة كثيرًا، والاستحلال لا يتصور مع الإقرار بالذنب[11].
شبهة والرد عليها:
استدل بعض من قال أن الاستحلال يُعرف بالفعل، بما صحَّ في الرجل الذي تزوج امرأةَ أبيه، فأمر النبي ﷺ بقتله[12].
قال العلماء: الحديث حُمل على أن ذلك الرجل عُلم منه الاستحلال.
قال الإمام أحمد –رحمه الله–: نرى -والله أعلم- أن ذلك منه على الاستحلال[13].
قال الطحاوي –رحمه الله–: ذلك المتزوج فعل ما فعل من ذلك على الاستحلال كما كانوا يفعلون في الجاهلية، فصار بذلك مرتدًا فأمر رسول الله ﷺ أن يُفعل به ما فُعل بالمرتد[14].
قال الشوكاني –رحمه الله–: لا بد من حمل الحديث على أن ذلك الرجل… عالم بالتحريم وفعَلَه مستحلًّا، وذلك من موجبات الكفر[15].
(قلت): لأن استحلاله هنا استحلال جحود، لا استحلال عن تأويل، فانتبه.
ومما جعل أهل العلم يقولون إنه مستحل: عدم تكفير أهل العلم من زنا بامرأة أبيه، ولو تكرَّر ذلك الذنب.
فلو كان من تزوج امرأة أبيه -لمجرد وقوعه عليها دون استحلال قلبي-، كافرًا لكان أولى أن يكفروا من زنا بامرأة أبيه.
القاعدة الخامسة:
عدم التكفير بالقول أو بالفعل إلا بعد إقامة الحجة، فقد يكون معذورًا عند الله لقرينة عنده، أنت لا تعلمها.
مثال على عدم التكفير بالقول على كل حال: الرجل الذي قال لأولاده: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ اطْحَنُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاللَّهِ لَئِنْ قَدَرَ عَلَيَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا، فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا فِيكِ مِنْهُ، فَفَعَلَتْ، فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ، فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: «يَا رَبِّ خَشْيَتُكَ، فَغَفَرَ لَهُ»([16].
وحديث الرجل الذي قال من شدة فرحه عندما وجد راحلته – وقد أيس منها: اللهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ[17].
فالأول أخطأ من شدة خوفه أو جهله، وتكلَّم بكلمة الكفر، والثاني أخطأ من شدة فرحه، وتكلَّم بكلمة كفر، ومع ذلك فقد غفر الله تعالى لهما.
قال ابن عثيمين –رحمه الله–: كل إنسان فعل مكفِّرًا فلا بد ألا يوجد فيه مانعٌ من موانع التكفير….
فلا بد من الكفر الصريح الذي لا يحتمل التأويل، فإن كان يحتمل التأويل فإنه لا يُكفَّر صاحبُه، وإن قلنا إنه كفرٌ[18]، فيفرَّق بين: القول والقائل، وبين الفعل والفاعل.
قد تكون الفِعلةُ فِسقًا ولا يفسق الفاعل لوجود مانع يمنع من تفسيقه، وقد تكون كفرًا ولا يكفر الفاعل لوجود ما يمنع من تكفيره.
وما ضرّ الأمة في خروج الخوارج إلا هذا التأويل….
كيف أحكم على إنسان أنه فاسق دون أن تقام عليه الحجة؟
فهؤلاء الذين تشير إليهم من حكام العرب والمسلمين: قد يكونون معذورين لم تُبيَّن لهم الحجة.
أو بُيِّنت لهم وجاءهم من يُلبِّس عليهم ويُشبِّه عليهم[19].
قال الألباني –رحمه الله–: ولهذا فإني أنصح أولئك الشباب أن يتورعوا عن تبديع العلماء وتكفيرهم، وأن يستمروا في طلب العلم حتى ينبغوا فيه، وألّا يغتروا بأنفسهم ويعرفوا حقَّ العلماء وأسبقيَّتهم فيه ….[20].
شبهات من كفَّر حكامَ المسلمين والردُّ عليها [21]
الشبهة الأولى: التبديل
وصورته: أن يحكم بغير ما أنزل الله تعالى ويزعم أن ما حكم به هو حكم الله، أي أنه كذب على الله وزعم أن هذا الحكم من عند الله، كما كانت تفعل اليهود، فقد كانوا يمحون أحكامًا من التوراة، ويضعون أحكامًا من عندهم، ويزعمون أنها من عند الله، كما في قصة التحميم المشهورة وغيرها، وقد قال الله تعالى في هؤلاء: ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَـٰبَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَٰذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۖ﴾ [البقرة: 79].
حكمه: أجمع العلماء على أن هذا التبديل كفر أكبر.
قال ابن تيمية –رحمه الله–: والإنسان متى حلَّل الحرام المجمع عليه، أو حرَّم الحلال المجمع عليه، أو بدَّل الشرع المجمع عليه كان كافرًا مرتدًا باتفاق الفقهاء[22].
أما من يرى تكفير من حكم بغير كتاب الله: فالتبديل عنده لا يلزم فيه نسبة الحكم الجديد إلى الدين، وبناء على ذلك كفَّروا كلَّ من حكم في مسألة بغير ما أنزل الله.
وتعريفهم للتبديل باطل من وجوه:
الوجه الأول: قال ابن العربي، ونقله الشنقيطي عن القرطبي مقرًّا له: إن الحكم بما عنده على أنه من عند الله فهو تبديل له يوجب الكفر[23].
الوجه الثاني: التبديل المخرج صاحبه من الملة هو: الكذب على الله ورسوله ﷺ.
قال ابن تيمية –رحمه الله–: الشرع المبدل: وهو الكذب على الله ورسوله ﷺ، أو على الناس بشهادات الزور ونحوها، والظلم البيِّن، فمن قال: إن هذا من شرع الله، فقد كفر بلا نزاع[24].
فقد فسر المبدّل، بأنه الحكم المزعوم بأنه من عند الله، ونص أن الزاعم قال: هذا من شرع الله، فانتبه.
قال ابن حزم –رحمه الله–: بعد ذكر قول الله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰٓىِٕكَ هُمُ الْكَـٰفِرُونَ﴾، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰٓىِٕكَ هُمُ الْظَـٰلِمُونَ﴾، ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰٓىِٕكَ هُمُ الْفَـٰسِقُونَ﴾.
فليُلزم المعتزلة أن يصرحوا بكفر كل عاص وظالم وفاسق، لأن كل عامل بالمعصية فلم يحكم بما أنزل الله[25].
تنبيه: يا أخي الكريم، ويا أختي الكريمة، ليس الغاية أن تنزل صورة التبديل على الحكام المعاصرين، ولو بتغير صورة المسألة، بل الإنصاف أن تسعى لظهور الحق ولو كان مخالفًا لهواك.
استشهد بعضهم بأن صورة التبديل كما اعتقدوا: بقول البخاري T: فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة، إذا كان عنده حكم رسول الله ﷺ في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين[26].
والحق أن هذا الاستشهاد لا يستقيم، لأن البخاري أراد قومًا وقعوا في التبديل -بالمعنى الذي قررنا وقال به أهل العلم- حيث زعموا أن ترك الزكاة من الدين، واستدلوا على أن الزكاة لا تؤدى إلا للرسول ﷺ بقول الله تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: 103].
وبرهان ذلك فيما قال ابن حجر –رحمه الله–: قال القاضي عياض وغيره: كان أهل الردَّة ثلاثة أصناف…. وصنف ثالث استمروا على الإسلام لكنهم جحدوا الزكاة، وتأولوا بأنها خاصة بزمن النبي ﷺ، وهم الذين ناظر عمرُ أبا بكر في قتالهم كما وقع في حديث الباب[27].
الشبهة الثانية: سنّ القوانين:
وصورته: أن يحكم بغير ما أنزل الله بحكم هو أتى به من عنده، بمعنى أنه هو الذي اخترع ذلك الحكم أو القانون، ولا يكون مستحلًّا، ولا جاحدًا، ولا مكذِّبًا، ولا مفضِّلًا، ولا مساويًا، ولا ينسب الحكم الذي جاء به لدين الله تعالى.
حكمه: الكفر الأصغر، الذي لا يُخرج من ملَّة الإسلام.
استدل البعض على التكفير بهذه الحالة، بأن اختراعه لذلك القانون يُعدُّ منازعة لله تعالى في شيء من خصائصه، وهو: التشريع.
الرد: والحق أنه يجب التفصيل في هذه الحالة، وذلك لأن المقنِّن لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يقوم بالعمل ويدَّعي لنفسه حق التشريع بالتصريح، لا بمجرد الفعل، فهذا كافر الكفر الأكبر بلا شك، لأنه مستحلٌّ لأمر حرمه الله تعالى.
الحالة الثانية: أن يقوم بالعمل لا يدَّعي لنفسه ذلك، فهذا لا يكفر لثلاثة أمور:
1- لا دليل على كفره.
2- عدم تكفير أهل السنة لصديق السوء الذي يقنن للذنب ويزينه ويدعو له… فهو كافر عند من قرَّر هذا، مع أنه لا يكفر باتفاق أهل السنة.
3- عدم تكفير أهل السنة للمصورين الذين لا يستحلُّون التصوير المحرَّم، فقد قال الله عنهم في الحديث القدسي: «وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي»[28].
وقال عنهم الرسول ﷺ: «أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ القِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ»[29].
ولا فرق بينهما، إذ المصوِّر جعل نفسه خالقًا مع الله، والمشـرِّع جعل نفسه مشرعًا مع الله، فمن كفَّر المشرِّع مع الله فليكفر الخالق كخلق الله، سواء بسواء… فالمصوِّر كافر عند من قرَّر هذا، مع أنه لا يكفر باتفاق أهل السنة.
استدل بعضهم على تكفير من سنَّ القوانين أو تحاكم إليها بأنه طاغوت يتحاكم إليه من دون الله.
وهذا الاستدلال غير صحيح، وبيان خطئِه من وجهين:
الوجه الأول: أنه مبنيٌّ على مقدمة غير صحيحة، وهي القول بأن الطاغوت لا يكون إلا كافرًا.
وهذا خطأ، لأن الطاغوت يطلق على كل رأس في الضلالة لأنه مشتق من الطغيان الذي هو: مجاوزة الحد.
قال الفيروز أبادي –رحمه الله–: والطاغوت … وكل رأس ضلال، والأصنام. وما عُبد من دون الله، ومردة أهل الكتاب[30].
قال القرطبي –رحمه الله–: في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَاجْتَنِبُوا الطَّـٰغُوتَ ۖ﴾ [النحل: 36]، قال: أي: اتركوا كل معبود دون الله، كالشيطان، والكاهن، والصنم، وكل ما دعا إلى الضلال[31].
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: وقال ابن قتيبة: كل معبود من حجر أو صورة أو شيطان: فهو جِبْت وطاغوت، وكذلك حكى الزَّجَّاج عن أهل اللغة[32].
قال ابن تيمية –رحمه الله–: وهو اسم جنس يدخل فيه: الشيطان، والوثن، والكهان، والدرهم والدينار، وغير ذلك[33].
فلو كان كل طاغوت كافرًا، لما ساغ وصفُ الجمادات به، وإطلاق أهل العلم وصف الطاغوت على أهل الذنوب غير المكفرة.
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله–: والطواغيت كثيرة، والمُتبيَّن لنا منهم خمسة: أولهم الشيطان، وحاكم الجور، وآكل الرشوة، ومن عُبد فرضي، والعامل بغير علم[34].
وقال ابن عثيمين –رحمه الله–: وعلماء السوء الذين يدعون إلى الضلال والكفر، أو يدعون إلى البدع، أو تحليل ما حرَّم الله، أو تحريم ما أحل الله: طواغيت[35].
فلو كان كل طاغوت كافرًا لما جاز لهم هذا الإطلاق، أو للزم منه أن يكونوا مكفرين بالذنوب.
الشبهة الثالثة: تعطيل إقامة الحدود:
وهذه من أشدِّ الحالات نزاعًا بين طلاب العلم، إلا أن علماء العصر الثلاثة: ابن باز، والألباني، وابن عثيمين -رحمهم الله- اتفقوا على عدم التكفير بها.
قال ابن باز –رحمه الله–: فإذا سنَّ قانونًا يتضمن أنه لا حدَّ على الزاني، أو لا حدَّ على السارق… فهذا القانون باطل، وإذا استحلَّه الوالي كفر[36].
قال الألباني –رحمه الله–: بعدم تكفير من شرَّع القانون إلا إن استحلَّه[37].
قال ابن عثيمين –رحمه الله–: الحكم بغير ما أنزل الله ليس كفرًا مُخرِجًا عن الملَّة، لكنه كفرٌ عمليٌ (أصغر)، لأن الحاكم بذلك خرج عن الطريق الصحيح، ولا يفرَّق في ذلك بين الرجل يأخذ قانونًا وضْعيًا من قبل غيره ويحكمه في دولته، وبين من ينشيء قانونًا ويضع هذا القانون الوضعي، إذ المهم هو: هل هذا القانون يخالف القانون السماوي أم لا؟.
مراده –رحمه الله–: أن العبرة بمخالفة أو موافقة القانون للحكم الشـرعي، وأنه لا ينظر لمصدر ذلكم القانون، هل هو من وضع ذلك الحاكم، أم أنه أخذه من غيره؟
الشبهة الرابعة: التكفير بلازم المذهب:
استدلَّ بعضهم على التكفير بهذه الحالة باللازم، فرأى أنه لم يستبدل حكم الله بحكم نفسه ثم جعل ما جاء به حكم على من تحته إلا وهو يعتقد أنه أنفع وأصلح من حكم الله.
وهذا الاستدلال مردود من أربعة أوجه:
الوجه الأول: ما قرَّره أهل العلم من أن لازم المذهب لا يكون مذهبًا إلا إذا عرفه والتزمه، وأن المرء قد يعتقد خلاف ما يلزم من قوله، ولو كان التلازم قويًا بحيث يُنسب القائل للتناقض، لو لم يلتزم ذلك اللازم.
قال ابن تيمية –رحمه الله–: ولازمُ المذهب لا يجب أن يكون مذهبًا، بل أكثر الناس يقولون أقوالًا ولا يلتزمون لوازمها، فلا يلزم إذا قال القائل ما يستلزم التعطيل أن يكون معتقدًا للتعطيل، بل يكون معتقدًا للإثبات ولكن لا يعرف ذلك اللزوم[38].
وقال –رحمه الله–: فما كان من اللوازم يرضاه القائل بعد وضوحه له، فهو قوله، وما لا يرضاه فليس قوله، وإن كان متناقضًا… فأما إذا نفى -هو- اللزوم لم يجز أن يضاف إليه اللازم بحال[39].
وقال –رحمه الله–: وأما قول السائل: هل لازم المذهب مذهب؟ أم ليس بمذهب؟
فالصواب: أن لازم مذهب الإنسان ليس بمذهب إذا لم يلتزمه، فإنه إذا كان قد أنكره ونفاه كانت إضافته إليه كذبًا عليه[40].
وقال -رحمه الله-: من ثبت إسلامُه بيقين لم يزُل ذلك عنه بالشك[41].
وقال محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله–: ولا نُكَفِّر إلا بما أجمع عليه أهل العلم كلُّهم[42].
يلزم من هذه القاعدة تكفير من اتفق أهل السنة على عدم تكفيره، وهو المشرِّع للذنب دون الشرك.
مثال: لو أن أبًا شرَّع الذنب في أهله، وألزمهم به، وخالف من ينكر عليه، ولم يستمع لمن يناصحه فلا يكفر عند أهل السنة، لأن التزامه بمذهبه من إباحة المعاصي لأهل بيته ومعاونتهم على ذلك ليس دليلا على استحلاله هذه المعاصي.
بينما يكفر عند من قال لازم المذهب لابد أن يكون مذهبًا.
الشبهة الخامسة: التكفير بحالة التشريع العام:
أنه وقع من اليهود تحميم الزاني (أي تسويد وجهه بالفحم) مع ترك إقامة الحدِّ عليه، فقد سألهم النبي ﷺ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟». فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ[43].
وفي لفظ: «لاَ تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ الرَّجْمَ؟» فَقَالُوا: لاَ نَجِدُ فِيهَا شَيْئًا[44].
ولما قرأ قارئُهم التوراة وضع يده على آية الرجم، وقرأ ما قبلها وما بعدها[45].
فهؤلاء اليهود جحدوا حكم الله تعالى، وأتوا بحكم آخر مكانه، وزعموا أن ما جاءوا به هو حكم الله تعالى.
فأنزل الله تعالى فيهم، كما في صحيح مسلم: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَـٰرِعُونَ فِى الْكُفْرِ﴾ إلى قوله: ﴿إِنْ أُوتِيتُمْ هَٰذَا فَخُذُوهُ﴾ [المائدة: 41]، وقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰٓىِٕكَ هُمُ الْكَـٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44] …… الآيات[46].
قالوا: فإن الله سبحانه لم يحكم بكفرهم إلا لكونهم جعلوا التحميم شرعًا عامًّا.
وهذا الاستدلال مردود، لأن اليهود الذين يراد الاستدلال على كفرهم بالتشريع العام، قد كفروا بغير التشريع المزعوم، وبيان ذلك من وجهين:
1- أنهم أنكروا حكم الله في الزاني المحصن، وهو ما صرحت به الروايات كما تقدم آنفًا.
2- أنهم بدلوا حكم الله في الزاني المحصن، فلما سألهم ﷺ: «مَا تَجِدُونَ فِي التَّوْرَاةِ فِي شَأْنِ الرَّجْمِ؟». فَقَالُوا: نَفْضَحُهُمْ وَيُجْلَدُونَ.
فقد غيَّروا حكم الله ثم نسبوا ما جاءوا به من عند أنفسهم إلى دين الله.
وهذا هو التبديل الذي تقدم بيانه، وتقرير الاتفاق على أنه كفر أكبر.
قال ابن عبد البر رحمه الله -في معرض كلامه عن الحديث المتقدم-: وفي هذا الحديث أيضًا: دليل على أنهم كانوا يكذبون على توراتهم، ويضيفون كذبهم ذلك إلى ربهم وكتابهم[47].
وبناء على ذلك، فلا يصحُّ الاستدلال بهذه القصة على التكفير بحالة التشريع العام، لأن اليهود وقعوا في حالتين، اتَّفق أهل السنة على كُفْر من تلبَّس بإحداهما -فضلا عنهما معًا- فإثبات أن كفرهم إنما جاء من التشريع العام يحتاج إلى دليل.
تنبيه مهم:
كانت لابن عثيمين –رحمه الله– فتوى بالتكفير بهذه الحالة، إلا أنه رجع عنها.
قال –رحمه الله–: ومن هؤلاء من يضعون للناس تشريعات تخالف التشريعات الإسلامية، لتكون منهاجًا يسير الناس عليه، فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية، إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق، إذ من المعلوم بالضرورة العقلية والجبلية الفطرية أن الإنسان لا يّعْدِل عن منهاج إلى منهاج يخالفه إلا وهو يعتقد فضل ما عدل إليه، ونقص ما عدل عنه[48].
وفي هذه الفتوى ثلاثة أمور لابد من التنبه لها:
1- أنه استدلَّ على كفر المشرِّع باللازم، وقد تقدم بيانُ أن هذا الاستدلال فيه نظر.
2- أنه –رحمه الله– أرجع التكفير في هذه الحالة للاعتقاد، وهو ما يتفق مع ما قررته في حكم هذه الحالة، إلا أنه قد علَّق الكفر في هذه الحالة باللازم الذي لا يلزم.
ومع ذلك يرون أن الإرجاع للاعتقاد في هذه الصورة إرجاء!
الفتوى المتأخرة لابن عثيمين –رحمه الله–:
قال -في معرض فتوى طويلة عن مسألة التكفير-:
أما فيما يتعلق بالحكم بغير ما أنزل الله، فهو في الكتاب العزيز ينقسم إلى ثلاثة أقسام: كفر، وظلم، وفسق، على حسب الأسباب التي بُني عليها هذا الحكم.
فإذا كان الرجل يحكم بغير ما أنزل الله تبعًا لهواه مع علمه بأن الحق فيما قضى الله به، فهذا لا يكفر لكنه بين فاسق و ظالم.
وأما إذا كان يُشرِّع حكمًا عامًا تمشي عليه الأمة، يرى أن ذلك من المصلحة، وقد لُبِّس عليه فيه، فلا يكفر أيضًا لأن كثيرًا من الحكام عندهم جهل في علم الشريعة، ويتصل بهم من لا يعرف الحكم الشرعي، وهم يرونه عالمًا كبيرًا، فيحصل بذلك المخالفة.
وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا، أو شرع هذا وجعله دستورًا يمشي الناس عليه، يعتقد أنه ظالم في ذلك، وأن الحق فيما جاء به الكتاب والسنة، فإننا لا نستطيع أن نكفِّر هذا.
وإنما نكفِّر من يرى أن حكم غير الله أولى أن يكون الناس عليه، أو مثل حكم الله عز وجل، فإن هذا كافر، لأنه مكذب لقول الله تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾ [المائدة: 50] [49].
الشبهة السادسة: الحكم بغير ما أنزل الله تعالى:
والرد على هذه الشبهة، قد ذكرته باستفاضة، مع ذكر الأدلة من الكتاب والسنة وإجماع أئمة السنة من السلف والخلف، وذلك في موضع آخر[50].
الشبهة السابعة: قول ابن تيمية -رحمه الله-: لفظ الكفر المعرَّف بـ: (أل) لا يأتي إلا أريد به الكفر الأكبر:
قال –رحمه الله–: والكفر المعرَّف، ينصرف إلى الكفر المعروف، وهو المخرج عن الملة[51].
الرد: قول شيخ الإسلام –رحمه الله– جاء على اسم المصدر (الكفر) بينما جاءت الآية باسم الفاعل (الكافر): ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰٓىِٕكَ هُمُ الْكَـٰفِرُونَ﴾، وفرق بينهما، إذ المصدر يدل على الفعل وحده، أما اسم الفاعل فهو دالٌّ على الفعل وعلى من قام بالفعل أي (الفاعل).
وقد قرَّر ابن تيمية –رحمه الله–، القول بأن المراد بالكفر في الآية هو الكفر الأصغر، قولًا لبعض أئمة السلف، بل لعامة السلف.
قال شيخ الإسلام –رحمه الله– في معرض شرحه للآية: ليس الكفر الذي ينقل عن الملة، كما قال ابن عباس وأصحابه في قوله تعالى: ﴿وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَٰٓىِٕكَ هُمُ الْكَـٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، قالوا: كفروا كفرًا لا ينقِلُّ عن الملة، وقد اتَّبعهم على ذلك: أحمد بن حنبل وغيره من أئمة أهل السنة[52].
قال ابن عثيمين –رحمه الله–: من سوء الفهم: قول من نسب لشيخ الإسلام ابن تيمية أنه قال: (إذا أطلق الكفر فإنما يراد به كفر أكبر) مستدلًا بهذا القول على التكفير بآية ﴿فَأُوْلَٰٓىِٕكَ هُمُ الْكَـٰفِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، مع أنه ليس في الآية أن هذا هو (الكفر).
وأما القول الصحيح عن شيخ الإسلام فهو: تفريقه –رحمه الله– بين (الكفر) المعرَّف بـ: (أل) و(كفر) منكرًا.
فأما الوصف فيصلح أن نقول فيه (هؤلاء كافرون) أو (هؤلاء الكافرون) بناءً على ما اتَّصفوا به من الكفر الذي لا يخرج عن الملة، ففرق بين أن يوصف الفعل وأن يوصف الفاعل[53].
الشبهة الثامنة: قول الله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [النساء]:
الرد: أن المنفيَّ هو كمال الإيمان، لا أصله، وقد سبق بيان ذلك عند شرح عقيدة الوعيدية من الخوارج ومن تبعهم.
قال ابن تيمية –رحمه الله–: كل ما نفاه الله ورسوله، من مسمى أسماء الأمور الواجبة، كاسم الإيمان والإسلام والدين والصلاة والصيام والطهارة والحج وغير ذلك، فإنما يكون لترك واجب من ذلك المسمَّى، ومن هذا قوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [النساء].
فلما نفى الإيمان حتى توجد هذه الغاية، دلَّ على أن هذه الغاية فرض على الناس، فمن تركها كان من أهل الوعيد لم يكن قد أتى بالإيمان الذي وعد أهله بدخول الجنة بلا عذاب[54].
وقال أيضا –رحمه الله–: فما جاء من نفي الأعمال في الكتاب والسنة فإنما هو لانتفاء بعض واجباته، كقوله تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [النساء]. [55].
وقال أيضًا –رحمه الله– في معرض كلامه عن آية سورة النساء كما تقدم-: وهذه الآية مما يحتج بها الخوارج على تكفير ولاة الأمر الذين لا يحكمون بما أنزل الله([56]).
قال العلامة ابن باز رحمه الله -تعليقًا على قول الله تعالى-: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِىٓ أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٦٥)﴾ [النساء].
فمن زعم أنه يجوز الحكم بغيرها (أي : الشريعة)، أو قال: إنه يجوز أن يتحاكم الناس إلى الآباء أو إلى الأجداد، أو إلى القوانين الوضعية التي وضعها الرجال -سواء كانت شرقية أو غربية- فمن زعم أن هذا يجوز فإن الإيمان منتفي عنه، ويكون بذلك كافرًا كفر أكبر …. أما الذي يرى أن الواجب تحكيم شرع الله، وأنه لا يجوز تحكيم القوانين ولا غيرها مما يخالف شرع الله ولكنه قد حكم بغير ما أنزل الله لهوىً في نفسه ضد المحكوم عليه، أو لرشوة، أو لأمور سياسية، أو ما أشبه ذلك من الأسباب، وهو يعلم أنه ظالم ومخطيء ومخالف للشرع، فهذا يكون ناقص الإيمان، وقد انتفى في حقه كمال الإيمان، وهو بذلك كافر كفرًا أصغرًا، وظالم ظلمًا أصغر، وفاسق فسقًا أصغر[57].
الشبهة التاسعة: قول الله تعالى: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)﴾ [المائدة: 50]:
قالوا: إن الله وصف الحكم بغير الشريعة بأنه حكم الجاهلية، وهذا يعني أنه كفر.
الرد: إن إضافة الشيء إلى الجاهلية، أو وصفه بأنه من أعمال أهل الجاهلية، لا يلزم منها الكفر.
الدليل: أن رسول الله ﷺ قال لأبي ذر -رضي الله عنه-، لما عيَّر رجلًا: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»[58]، كما وصف أمورًا -اتفق أهل السنة على عدم التكفير بها- بأنها من أعمال الجاهلية، منها: الطعنُ في الأنساب، والنياحةُ على الميت[59].
فمن قال بالتلازم بين النسبة للجاهلية والكفر، لزمه التكفير بما اتفق أهل السنة على عدم التكفير به، وهو: تعييرُ المسلم، والطعنُ في الأنساب، والنياحةُ.
قال أبو عبيد القاسم بن سلام –رحمه الله–: ألا تسمع قوله: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ۚ﴾ [المائدة: 50]؟ تأويله عند أهل التفسير: أنَّ من حكم بغير ما أنزل الله، وهو على ملة الإسلام كان بذلك الحكم كأهل الجاهلية، إنما هو أنَّ أهل الجاهلية كذلك كانوا يحكمون، وهكذا قوله ﷺ: «خِلاَلٌ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ: الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ والأَنْوَاءُ»[60]… ليس وجوه هذه الآثار كلها -من الذنوب- أنَّ راكبَها يكون جاهلًا! ولا كافرًا، ولا منافقًا!… ولكن معناها: أنها تتبيَّن من أفعال الكفار، محرَّمةٌ منهيٌّ عنها في الكتاب والسنة[61].
قال البخاري -رحمه الله-: باب: المعاصي من أمر الجاهلية، ولا يكفر صاحبها بارتكابها، إلا الشرك، لقول النبي ﷺ: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» وقول الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ﴾ [النساء: 48] [62].
الشبهة العاشرة: طعنهم في بيعة الحاكم الذي ليس من قريش:
الرد: اشتراط كون الحاكم من قريش: صحيح، ولكن إنما يُنظر إليه في حال الاختيار، أي: عند اختيار أهل الحَلِّ والعقد وليَّ الأمر.
أما في حال تولي غير القرشي بالغلبة، والقوة، وحصول الخلافة له، وتمكّنه من الأمر، فلا تجوز حينئذ منازعته، ولا الخروج عليه، ولا استبداله، ولو وُجد القرشي.
الدليل على اشتراط أن يكون الخليفة قرشيًا:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن النبي ﷺ قال: «النَّاسُ تَبَعٌ لِقُرَيْشٍ فِي هَذَا الشَّأْنِ»[63].
عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي ﷺ قال: «لاَ يَزَالُ هَذَا الأَمْرُ فِي قُرَيْشٍ مَا بَقِيَ مِنْهُمُ اثْنَانِ»[64].
بيان المنع من الخروج على الحاكم المتغلب ولو لم يكن قرشيًا:
قد سبق بيان الأدلة على ذلك[65]، ومزيد من الأدلة نذكرها ها هنا.
قد أجمع العلماء على طاعة الحاكم المتغلب، وإجماعهم هذا مطلقٌ لا تقييدَ فيه.
ودليل ذلك أن النبي ﷺ: أمر بطاعة الإمام إن كان عبدًا مجدَّع الأطراف، فدلَّ ذلك أن الإمام من قريش عند القدرة على الاختيار.
فعن أبي ذر -رضي الله عنه-، قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي أَنْ أَسْمَعَ وَأُطِيعَ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا مُجَدَّعَ الْأَطْرَافِ»[66].
ولذلك أجمع العلماء على منع الخروج على الحاكم المتغلب ولو لم يكن قرشيًا:
قال الحافظ ابن حجر: قال ابن بطال: أجمع الفقهاء على وجوب طاعة السلطان المتغلب والجهاد معه، وأن طاعته خير من الخروج عليه[67].
قال الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله–: الأئمة مجمعون من كل مذهب على أن من تغلب على بلدٍ أو بلدان، له حكم الإمام في جميع الأشياء[68].
قال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمهم الله: وأهل العلم… متفقون على طاعة من تغلب عليهم في المعروف، يرون نفوذ أحكامه و صحة إمامته، لا يختلف في ذلك اثنان[69].
قال ابن عثيمين –رحمه الله–: فلو فُرض أن السلطان غَلَب الناس واستولى وسيطر، وليس من العرب، بل كان عبدا حبشيًا، فعلينا أن نسمع ونطيع[70].
الشبهة الحادية عشرة: ظنهم أنَّ الطاعة لا تجب إلا على من بايعه الناس جميعًا أو أكثرهم:
الرد: هذا خطأ من وجوه، نذكرها بالأدلة:
الأول: ما دام قد بايع أهل الحَلِّ والعقد، فالطاعة والبيعة لازمتان على كل واحد من الرعية، وإن لم يبايع أو يتعهد لهم بذلك بنفسه.
الثاني: أن الصحابة -رضي الله عنهم-، ومن بعدهم، كانوا على هذا، إذ لم يشترط أحدٌ منهم هذا الشرط للزوم البيعة ووجوب الطاعة.
الوجه الثالث: أنَّ في اشتراط هذا من المشقة والمفسدة ما يوجب على العاقل -فضلا عن العالم- عدم القول به.
فأما المشقة: فتلحق الحاكم والمحكوم على السواء، إذ في ظل اتِّساع البلاد وكثرة الناس وبعد المسافات ما يلحق أنواعا من المشاق.
وأما المفسدة: فيستطيع كل من بيَّت سوءً أن يتخلف عن البيعة، ويعمل ما شاء من أسباب الفرقة والنزاع بحجة عدم لزوم الطاعة عليه.
قال شيخ الإسلام –رحمه الله–: وما أمر الله به من طاعة ولاة الأمور ومناصحتهم، واجبٌ على الإنسان وإن لم يعاهدهم عليه، وإن لم يحلف لهم الأيمان المؤكدة.
كما يجب عليه الصلوات الخمس والزكاة والصيام وحج البيت….وغير ذلك ما أمر الله به ورسوله ﷺ، من الطاعة[71].
قال الشوكاني –رحمه الله–: وليس من شرط ثبوت الإمامة أن يبايعه كل من يصلح للمبايعة، ولا من شرط الطاعة على الرجل أن يكون من جملة المبايعين، فإن هذا الاشتراط -في الأمرين- مردودٌ بإجماع المسلمين أولهم وآخرهم، سابقهم ولاحقهم، ولكن التحكم في مسائل الدين وإيقاعها على ما يطابق الرأي المبني على غير أساس يفعل مثل هذا.
وإذا تقرر لك ما ذكرناه، فهذا الذي قد بايعه أهل الحل والعقد، قد وجبت على أهل القُطر الذي تنفُذُ فيه أوامرُه ونواهيه وطاعتُه بالأدلة المتواترة[72].
قال ابن عثيمين –رحمه الله–: ومن المعلوم أن البيعة للإمام إذا بايعه أهل الحل والعقد، ولا يمكن أن نقول: إن البيعة حق لكل فرد من أفراد الأمة.
والدليل على هذا: أن الصحابة -رضي الله عنهم-، بايعوا الخليفة الأول أبا بكر -رضي الله عنه-، ولم يكن ذلك من كل فرد من أفراد الأمة، بل من أهل الحَلِّ والعقد، فإذا بايع أهل الحل والعقد لرجل، وجعلوه إماما عليهم، صار إمامًا، وصار من خرج على هذه البيعة يجب عليه أن يعود إلى البيعة حتى لا يموت ميتة جاهلية[73]، أو يرفع أمره إلى ولي الأمر لينظر فيه ما يرى، لأن مثل هذا المبدأ: مبدأ خطير، فاسد، يؤدي إلى الفتن، وإلى الشرور.
فنقول لهذا الرجل ناصحين له: اتَّق الله في نفسك، اتَّق الله في أمتك، ويجب عليك أن تبايع لولي الأمر وتعتقد أنه إمام ثابت، سواء بايعت أنت، أم لم تبايع.
إذًا: الأمر في البيعة ليس لكل فرد من أفراد الناس، ولكنه لأهل الحل والعقد[74].
وقال –رحمه الله–: قد يقول قائل -مثلًا- نحن لم نبايع الإمام، فليس كل واحد بايعه.
هذه شبهةٌ شيطانيةٌ باطلةٌ، حتى الصحابة -رضي الله عنهم-، حين بايعوا أبا بكر، هل كل واحد منهم بايع؟ حتى العجوز في بيتها؟ واليافع[75] في سوقه؟ أبدًا.
المبايعة لأهل الحل والعقد، ومتى بايعوا ثبتت الولايةُ على كل أهل البلاد، شاء أم أبى… [76].
الشبهة الثانية عشرة: تكفيرهم الحكام بدعوى إعانتهم الكفار على المسلمين:
الرد: لا بد أن نعلم أنه ليست كل إعانة للكفار مكفرة.
من الأدلة على ذلك: حديث حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه-، الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما[77]، وفيه أنه:
1- أعان -رضي الله عنه-، كفار قريش حين كاتبهم بخبر غزو النبي ﷺ، لهم.
2- لم يحكم النبي ﷺ، بكفره رضي الله عنه.
3- ولم يوافق النبيُّ ﷺ عمرَ بنَ الخطاب -رضي الله عنه-، في تكفيره لحاطب -رضي الله عنه-، كما جاء في الحديث أنَّ عمر قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا المُنَافِقِ، فقال رسول الله ﷺ: «إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»[78].
4- رجع عمر -رضي الله عنه-، عن تكفيره وبكى، وقال: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
5- لم يكن ترك تكفير النبي ﷺ، لحاطب -رضي الله عنه-، إلا لعذر أنه قصد الدنيا بإعانته الكفار، حيث اعتذر بأنه يريد أن تكون له يدٌ على قريش ليحمي أهله الذين في مكة.
تنبيه:
لا يمكن اعتبار حاطب -رضي الله عنه-، متأولًا، لأنه لو كان كذلك، لقام النبي ﷺ، بتعليمه وإزالة الشبهة عنه، ولكنه ﷺ، لم يقم بذلك، ولما لحقه -رضي الله عنه-، إثم لوجود التأويل، ومن ثم فليس محتاجًا لفضيلة شهوده بدرًا حتى يكفِّر عنه ذلك الإثم.
ثم إنه -رضي الله عنه-، كان يعلم بخطئه وخطورة عمله، مما يزيد نفي التأويل عنه.
وكذا لا يمكن اعتبار حاطب -رضي الله عنه-، معفيًا من التكفير على اعتبار أنه من أهل بدر، لأنه لو صدر منه الكفر لكان الكفر قاضيًا على بدريته بالحبوط، ومن ثمَّ فلا يمكن أن يشفع له عملٌ حابط، فقد أخبر الله تعالى أنَّ الشرك محبطٌ للنبوة والرسالة -وهما بلا شك أعظم من بدرية حاطب-، حين قال: ﴿لَىِٕنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَـٰسِرِينَ﴾ [الزمر: 65].
قال الشافعي –رحمه الله–: وليس الدّلالة على عورة المسلم، ولا تأييد كافر بأن يحذر أن المسلمين يريدون منه غِرة[79] ليحذرها أو يتقدم في نكاية المسلمين بكفر بيِّن[80].
قال شيخ الإسلام –رحمه الله–: وقد تحصل للرجل موادتهم لرحم أو حاجة، فتكون ذنبًا ينقص به إيمانه، ولا يكون به كافرًا، كما حصل لحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه-، لما كاتب المشركين ببعض أخبار النبي ﷺ[81].
بيان ضابط الإعانة المكفرة:
فينظر إلى الباعث للإعانة، ماهو؟
فإن أعانهم لأجل دينهم كفر.
قال الإمام البغوي –رحمه الله– في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ﴾ [المائدة: 51]-: فيوافقهم ويعينهم[82].
قال الألوسي –رحمه الله–: وقيل: المراد من قوله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ﴾ [المائدة: 51]، كافر مثلهم حقيقة، وحُكى عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: ولعل ذلك إذا كان توليهم من حيث كونهم يهودًا ونصارى[83].
قال العلامة عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ رحمهم الله: وأما قوله: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ﴾ [المائدة: 51]، وقوله: ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْأَخِرِ يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُو﴾ [المجادلة: 22]، وقوله: ﴿يَـٰٓأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا﴾ [المائدة: 57]، فقد فسرته السنة، وقيدته، وخصته بالموالاة المطلقة العامة.
وأصل الموالاة هو الحب والنصرة والصداقة، ودون ذلك مراتب متعددة، ولكل ذنب حظُّه وقِسطُه من الوعيد والذمِّ، وهذا عند السلف الراسخين في العلم من الصحابة والتابعين، معروف في هذا الباب وغيره[84].
قال ابن عثيمين –رحمه الله– عن تفسير قول الله تعالى: ﴿وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ۗ﴾ [المائدة: 51]-: هو منهم في الظاهر بلا شك بسبب المعاونة والمناصرة.
لكن: هل يكون منهم في الباطن؟
نقول: يمكن، قد تكون هذه المناصرة والمعاونة تؤدي إلى المحبة ثم إلى اتباع الملة….
إذًا: من يتولهم منكم فإنه منهم في الظاهر، وربما يؤدي ذلك إلى الباطن ومشاركتهم في عقائدهم وأعمالهم وأخلاقهم[85]. انتهى .
أما إن أعانهم لأجل الدنيا، فإنه لا يكفر به -مع كونه إثمًا عظيمًا- وهذا يستفاد من عذر حاطب الذي قَبِلَه النبي ﷺ.
الشبهة الثالثة عشرة: تكفيرهم الحكامَ بدعوى أنهم أماتوا الجهاد:
الرد: إماتة الحكام الجهاد كلمة مجملة تحتاج إلى تفصيل كاشف عن المراد بها، حيث تحتمل معنيين، بينهما في الحكم كما بين السماء والأرض، فنقول:
هل المراد أنَّ الحكام أنكروا شرعية الجهاد مطلقًا؟
إن كان كذلك، فهذا كفر بلا ريب.
أو أنَّ المراد أنهم تركوا الجهاد مع عدم إنكار شرعيته.
1- إن ترك الجهاد وهو غير قادر، فهو معذور شرعًا.
2- إن تركه وهو قادر، فهو مقصِّر غير معذور، ولكنه لا يكفر بذلك التقصير.
بيان خطأ التكفير بدعوى تعطيل الجهاد:
قال الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: جوابًا على سؤال: هناك من يقول: إن ولاة الأمر والعلماء في هذه البلاد قد عطَّلوا الجهاد، وهذا كفر بالله، فما هو رأيكم في كلامه؟
الجواب: هذا كلام جاهلٍ، يدل على أنه ما عنده بصيرة ولا علم، وأنه يكفِّر الناس، وهذا رأي الخوارج، وهم يدورون على رأي الخوارج والمعتزلة، نسأل الله العافية[86]. انتهى.
قال ابن عثيمين –رحمه الله–: ولهذا لو قال لنا قائل الآن، لماذا لا نحارب أمريكا وروسيا وفرنسا وانجلترا؟ لماذا؟
لعدم القدرة.
الأسلحة إللي ذهب عصرها عندهم هي التي في أيدينا، وهي عند أسلحتهم بمنزلة سكاكين الموقد عند الصواريخ، ما تفيد شيئًا فكيف يمكن أن تقاتل هؤلاء؟
ولهذا أقول (ابن عثيمين): إنه من الحُمْق أن يقول قائل إنه يجب علينا أن نقاتل أمريكا وفرنسا وانجلترا وروسيا، كيف نقاتل؟ هذا تأباه حكمة الله عز وجل ويأباه شرعه.
لكن الواجب علينا أن نفعل ما أمر الله به عز وجل: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ﴾ [الأنفال: 60]، هذا الواجب علينا أن نُعِدَّ لهم ما استطعنا من قوة، وأهم قوة نعدُّها هو الإيمان والتقوى[87].
وقال أيضًا –رحمه الله–: فالقتال واجب، ولكنه كغيره من الواجبات لا بدَّ من القدرة، والأمة الإسلامية اليوم عاجزة، لا شك عاجزة، ليس عندها قوة معنوية، ولا قوة مادية، إذ يُسقط الوجوبَ عدمُ القدرة عليه: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: 16]، قال تعالى: ﴿وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ ۖ﴾ [البقرة: 216] [88]. انتهى.
وقال –رحمه الله–: في موضع آخر، لكن الآن ليس بأيدي المسلمين ما يستطيعون به جهاد الكفار، حتى ولا جهاد مدافعة[89].
وقال: إنه في عصرنا الحاضر يتعذر القيام بالجهاد في سبيل الله بالسيف ونحوه، لضعف المسلمين ماديًا ومعنويا، وعدم إتيانهم بأسباب النصر الحقيقية، ولأجل دخولهم في المواثيق والعهود الدولية، فلم يبق إلا الجهاد بالدعوة إلى الله على بصيرة[90].
_____________________________________________
([1]) أخرجه البخاري (25)، ومسلم (22).
([2]) شرح الأربعين النووية (ص 78-79) بتقديم وتأخير .
([4]) أخرجه البخاري (137)، ومسلم (361) من حديث عبد الله بن زيد -رضي الله عنه-.
([5]) الفوائد والأصول الجامعة (ص: 90).
([6]) أخرجه البخاري (6872)، ومسلم (96).
([10]) الصارم المسلول (3/971).
([11]) الحكم بغير ما أنزل الله لبندر بن نايف (ص:13) وما بعدها.
([12]) صحيح: رواه الترمذي (1362)، والنسائي (3331)، وابن ماجه (2607).
([13]) مسائل: عبد الله بن أحمد (3/1085-1498).
([14]) شرح معاني الآثار (3/149).
([16]) أخرجه البخاري (3481)، ومسلم (2756).
([17]) أخرجه البخاري (6309)، ومسلم (2747)
([18]) أي إن قلنا عن الفعل إنه كفر.
([19]) الباب المفتوح (3/125) لقاء 51،سؤال (1222).
([20]) السلسلة الصحيحة تحت حديث (3048).
([21]) ملتقط من: “الحكم بغير ما أنزل الله” وكتاب: :وجادلهم بالتي هي أحسن”، كلاهما لبندر بن نايف مع دعم بالنقل عن الإمامين ابن باز وابن عثيمين -رحمه الله- باختصار وتصرف وتقديم وتأخير، وزيادة وليست نصًا.
([23]) أحكام القرآن (2/625)، وأضواء البيان (1/407).
([26]) انظر صحيح البخاري قبل حديث (7369) .
([27]) فتح الباري (12/288) قبل الحديث رقم (2924).
([28]) أخرجه البخاري (5953)، ومسلم (5509).
([29]) أخرجه البخاري (5954)، ومسلم (5494).
([30]) القاموس المحيط (4/400).
([32]) نزهة الأعين النواظر (ص:410) باب : الطاغوت.
([33]) مجموع الفتاوى (16/565).
([35]) شرح الأصول الثلاثة (ص : 151).
([37]) السلسلة الصحيحة -الهدى والنور (الشريط 849،الدقيقة 72)-.
([48]) الفتاوى (2/143) -الطبعة الأخيرة- 1413 هـ.
([49]) جزء من فتوى ابن عثيمين –رحمه الله– يوم الثلاثاء- الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول عام عشرين وأربعمائة وألف، والتي سميت بـ: (التحرير في مسألة التكفير) الشريط مسجل باسم الشيخ أبي الحسن في مأرب.
([50]) راجع -إن شئت- كتابي: “الدرر البهية” الباب الثاني- المبحث السادس والذي قبله.
([51]) شرح العمدة -باب الصلاة- (ص:82).
([53]) فتنة التكفير (ص:25) حاشية (1).
([58]) أخرجه البخاري (30)، ومسلم (4289).
([60]) أخرجه البخاري (3850) من حديث سفيان بن عيينة، عن عبيد الله، سمع ابن عباس رضي الله عنهما، قال: «خِلاَلٌ مِنْ خِلاَلِ الجَاهِلِيَّةِ الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ وَالنِّيَاحَةُ»، وَنَسِيَ الثَّالِثَةَ، قَالَ سُفْيَانُ وَيَقُولُونَ إِنَّهَا الِاسْتِسْقَاءُ بِالأَنْوَاءِ.
([62]) صحيح البخاري قبل حديث (30).
([63]) أخرجه البخاري (3495)، ومسلم (1818).
([64]) أخرجه البخاري (3501)، ومسلم (1820).
([65]) راجع -إن شئت- مبحث: عدم جواز الخروج على الحاكم المسلم- إعدادي.
([67]) الفتح (13/9) تحت حديث (7053).
([69]) مجموع الرسائل والمسائل النجدية (3/168).
([70]) شرح رياض الصالحين (6/385).
([73]) يشير -رحمه الله- إلى حديث ابن عباس -رضي الله عنهما-، الذي أخرجه البخاري (7147)، ومسلم (1849) وفيه أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَمَاتَ، فَمِيتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ».
وحديث ابن عمر -رضي الله عنهما-، الذي أخرجه مسلم في صحيحه (58-1851) وفيه أن رسول الله ﷺ قال: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، لَقِيَ اللهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً».
([74]) الباب المفتوح (3/176) -لقاء: 54 ،سؤال 1263-.
([76]) شرح رياض الصالحين (4/503)
([77]) انظر البخاري (4274)، ومسلم (9494).
([78]) أخرجه البخاري (4274)، ومسلم (9494).
([79]) غِرة/ غفلة -الصحاح (ص: 770).
([84]) الرسائل والمسائل النجدية (3/10)، والدرر السنية (1/474).
([85]) من أشرطة تسجيلات الاستقامة -عند تفسير الآية 51 من سورة المائدة-.
([86]) الفتاوى الشرعية في القضايا العصرية (ص: 110) ط. الأولى.
([87]) شرح كتاب الجهاد من بلوغ المرام -الشريط : الأول : الوجه (أ).
([88]) شرح رياض الصالحين (3/375) أول كتاب الجهاد.